المعارضة: فرض الرقابة علي الصحف بسبب إعلان الأحكام العرفية يجب أن يقتصر علي السبب الذي أعلنت من أجله! حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل (1): نريد أن نسمع حضرة الخطيب ولا فائدة من تلاوة تقرير قديم. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني: لقد أردت من تلك التلاوة أن استدل علي أن الأمور كانت تسير في عهد الغصب والاحتلال خيراً منها في عهد حكومة شرعية، ولحضرة الشيخ المحترم أن يرد بعد أن أنتهي من كلمتي. وورد في تقرير العميد عن سنة 1904 ما يأتي: أصدرت «الجمعية العمومية» (2) قراراً في 26 مارس سنة 1902 هذا نصه:«أقدم بعض الرعاع علي نشر جرائد اتخذوها آلة لنهش الأعراض والحط من كرامة العائلات. ولما كانت الجرائد ركناً من أركان التمدن، وكان الغرض منها تنوير أذهان الجمهور والحكومة فالجمعية العمومية تطلب من الحكومة (3) إما أن تتفق مع وكلاء الدول (4) علي سن قانون عام للصحافة يزيل هذه الحالة المشئومة، وإما أن تصدر أمرًا عالياً بمعاقبة كل من يرتكب جرماً من هذا القبيل». وبالرغم من صدور هذا القرار من الجمعية العمومية وتأييد مجلس شوري القوانين(5) فان عميد الاحتلال(6) لم يرد أن يضغط علي حرية الصحافة وإنما أراد لها الحرية. «وفي صفحة 95 من هذا التقرير ذكر العميد ما يأتي: «علي أني وان كنت لا أوافق علي مراقبة الصحف أو ضغطها وتقييد حريتها أري أن مجلس شوري القوانين والجمعية العمومية قد وجهها الأنظار إلي شر عظيم. «فالنصب» بنشر القذف والمثالب لابتزاز المال من الناس أضحي عادة قوم من أصحاب الجرائد الوطنية الساقطة في هذه البلاد، ولا يخفي أن اللذين يحصلون رزقهم بهذه الطريقة آفة علي الهيئة الاجتماعية ولا يهم أحداً إبطال أفعالهم هذه قدر ما يهم المشتغلين بصناعة الصحافة الشريفة، غير أن أفعل واسطة لتأديب هؤلاء «النصابين» هي بيد «المنصوب عليهم، لأنهم إذا أبوا أن يذلوا لهم ورفعوا القضايا عليهم حيثما يكون وجه رفعها ظاهراً زال فسادهم وأمنوا شرهم. وقد صدرت الأوامر الصريحة إلي النائب العمومي أن يشدد بإقامة القضايا في كل مسألة يترجح فيها التعدي علي القانون، والأمل أن المحاكم لا تشفق في عقاب الذين تصدر أحكامهم عليهم». وفي تقرير العميد سنة 1906 يقول: «إني كنت دائماً من الذين يوافقون علي إعطاء الحرية للجرائد ولكني أسلم بأن فئة كبيرة من ذوي النفوذ والوجاهة بين سكان القطر المصري لا يرون رأيي من هذا القبيل.. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل: لا محل لتلاوة هذه التقارير. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني" أردت أن أبين ماذا كانت عليه حرية الرأي في عهد الاحتلال. حضرة الشيخ المحترم عبدالسلام عبدالغفار بك (7): هذا تمجيد للاحتلال لا نسمح به، ويجب ألا يمجد الاحتلال في هذا المجلس. ولست أدري كيف يقال إن العميد كان يحمي الصحافة وحرية الرأي في عهد الاحتلال، مع أننا الآن في عهد الاستقلال وعهد حرية الرأي. أفهم أن يقارن حضرة الشيخ المحترم بين أعمال وزارة سابقة وبين أعمال الوزارة الحالية مثلاً، ولكني لا أفهم أن يقارن بين عهد الاحتلال والعهد الحاضر. ومن الذي يقول هذا؟. يقوله أحد كبار زعماء الوفد المصري وهو حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «محمود بسيوني»، وهو يقول ذلك في مجلس الشيوخ مع أنه كان في طليعة الزعماء الذين كانوا يطالبون باستقلال البلاد. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني: لقد ذكرت ياسيدي شيئاً وغفلت عن أشياء (ضجة). الرئيس (محمد محمود خليل بك): حضرات الزملاء المحترمين: أرجوكم المحافظة علي النظام، علي أن الرئيس لا يمكنه أن يمنع الكلام مادام في الموضوع، وغرض حضرة الزميل المحترم الأستاذ محمود بسيوني» مما يتلوه علي حضراتكم هو ضرب الأمثلة. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني: ذكر العميد البريطاني في تقريره في عام 1906 .. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «عباس الجمل»: سمعنا كثيراً مما ورد في تقرير العميد، ونريد سماع كلام حضرة المستجوب (ضجة). الرئيس (محمد محمود خليل بك): المسلم به أن حرية الفكر مقدسة. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا (رئيس مجلس الوزراء): تود الحكومة من جانبها سماع جميع الملاحظات التي يبديها حضرة المستجوب. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني: سأترك الشيء الكثير. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا (رئيس مجلس الوزراء): لا تترك شيئًا بل قل كل ما ترغب في قوله حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني: هذه بشري طيبة بأننا سنتمتع بحرية الرأي والكلام. ذكر العميد البريطاني في تقريره الثالث في عام 1906 حينما تكلم عن الصحافة المصرية، وذكر آراء بعض أصحاب الوجاهة والنفوذ من جهة تقييد الصحف، فقال «فلا حرج علي من يستنتج من هذه الأمور كلها وجوب تقييد حرية الجرائد.. أما أنا فلا أطيل الكلام بل أقول إني استنتجت نتيجة أخري مختلفة عن تلك النتيجة، وهي أن تزاد الحامية البريطانية في القطر المصري لتكون زيادتها زيادة لضمان حفظ النظام العام» واستمر العميد متشبثاً باحترام حرية الرأي وعدم تقييد الصحف فيما تنشره. حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا «رئيس مجلس الوزراء»: ألم يلاحظ حضرة الشيخ المحترم المستجوب أن البلاد لم تكن تتمتع في ذلك الحين بالحياة النيابية؟ حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «محمود بسيوني»: غرضي مما تلوته من كلام العميد البريطاني عن الصحافة أن هذا كان في زمن الغصب، وأن الغاصب لم يعاملنا بهذا الذي نعامل به اليوم، فقد كان العميد البريطاني قادراً فعلاً ويستطيع أن يبطش بطش الجبارين ولكنه ترك الحرية للصحافة، أما الآن في عهد حكومة «علي ماهر باشا» فلا يكتفي الرقيب بالتأشير علي المسودات بعدم النشر كما كان الحال قبلا، بل يعمد إلي طمس هذه المسودات، وهذا لا ينتظر من عظماء ثقفوا بالعلم وبالتجربة الحسنة. كان يستنتج العميد في آخر تقريره أن إطلاق الحرية كانت له مضار، ولكن كانت منافعه أكثر من مساوئه، وهذا حسن جداً. ولذلك أري وجوب الاعتداد بحرية القول والكتابة والنشر وبخاصة في عهد حكومة برلمانية، والدستور قائم ومعمول به في البلاد. ذكر عن «اللورد كرومر» عندما كان عميداً في عهد الاحتلال البريطاني، أن البعض قال له إن الواجب يقتضي الضغط علي حرية الصحف لأنها تعمل دائماً علي تهييج العامة ضد الأوروبيين عامة والإنجليز خاصة، فكان لا يسمع كلامهم ولا يتقيد بآرائهم لأنه كان يري أن هذه الصحف صمام الأمن. عندما يغلي المرجل يبادر السائق إلي رفع الصمام ليخرج البخار ويخف الضغط عليه وإلا انفجر، وهذا يقال عن الصحف، فإذا كانت تنتقد أعمال الحكومة فإنما تنفس عن المعارضة وعن الرأي العام. لم يقل قائل في الدنيا إن الانتقاد محرم. رحم الله «عبدالخالق ثروت باشا» إذ قال: «إذ لم تكن المعارضة موجودة فانني أعمل علي خلقها». لدي رسائل كثيرة أستدل بها علي حرية الرأي بعد الحرب العظمي.. الرئيس (محمد محمود خليل بك): الغرض مما يستدل به حضرة المستجوب هو أن الرقابة تمنع نشر أشياء كثيرة، يري أنه كان واجباً عليها عدم منع نشرها، وأظن أن الأمثلة التي ذكرها حضرته عديدة وكافية، وهلا يري حضرته الاكتفاء بما ذكر وأن نسمع بعد ذلك كلمة حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس الحكومة وينتهي الأمر؟ حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي: كيف ينتهي الأمر وأنا لم أتكلم بعد، وكذلك من طلب الكلمة من حضرات الأعضاء المحترمين؟ حضرة الشيخ المحترم الأستاذ (محمود بسيوني): لقد ألقي حضرة المحترم الدكتور «أحمد ماهر» المدرس بمدرسة التجارة العليا -ورئيس مجلس النواب الحالي- في حفلة تكريم الموظفين يوم 21 يونية سنة 1921 خطبة نشرتها صحيفة «النظام» (8) في 24 يونية سنة 1921 جاء فيها: «قبل أن تشكل هذه الوزارة (9) كنا نسمع من أعضائها وأنصارها أنهم إنما يعتمدون علي ثقة الأمة فيهم، ثم أصدرت إعلاناً بتأليفها، بياناً جميلا جعل الناس جميعاً يؤكدون لها هذه الثقة، ولكن من يعتمد علي ثقة الناس ويعلن رغبته في النزول علي إرادتهم يجب أن يكون مستعداً لوضع كل أعماله وتصرفاته علي بساط البحث يجب أن يتقبل بسرور أي ملاحظة أو انتقاد ليقوم من اعوجاجه ويصلح من عمله، لأن من يطلب من الناس مديحه والثناء عليه يحرضهم بذلك علي انتقاده وذم أعماله عند الضرورة أيضاً، ويجب عليه أن يوطد نفسه علي احتمال حصول ذلك حتي لا تكون الصدمة قوية وغير منتظرة فتستفز فيه عواطف الغضب وهي تدعوه من غير شك إلي رفض ترك العمل لغيره بحجة أن هذا يحط من شأنه ويمس كرامته، ومتي وصل به الأمر إلي هذا الحد، التوي عليه القصد ونسي أو تناسي المبدأ الشريف الذي وضعه ليكون نبراسا له في عمله، فيعمل ضد من قد يعتقد بحسن نية، أنه كان عقبة في سبيله. وقد تسوغ له حالته النفسية المضطربة في البلاد المحرومة من الأنظمة النيابية أن يعمل علي إزالة هذه العقبة بوسائل تحكمية مستشفعاً لنفسه بحسن قصده ونبل غرضه، ناسياً أنه بعمله هذا يقوض دعائم سلطته ويبذر بذرة غير صالحة يجب علي من بقيت نفوسهم هادئة مطمئنة العمل علي اقتلاعها وإلا سجلوا علي أنفسهم أنهم قد يساقون مرغمين متهورين إلي حيث لا يحبون». حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا (رئيس مجلس الوزراء): الحكومة متفقة مع حضرة الخطيب في هذه المبادئ. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «محمود بسيوني»: الأمر الذي نعني به هو أن تعمل الحكومة بهذه المبادئ، ولا أعرف سببًا للشدة في كم الأفواه، يقول ذلك رئيس مجلس النواب الحالي عندما كان أستاذا في مدرسة التجارة في خطبة ألقاها علي الجمهور وسمعها الناس ونشرتها الصحف، ومن بينها صحيفة «النظام» - التي كانت تعبر إذ ذاك عن رأي المعارضة - ومع ذلك لم يجد في نفسه خوفًا من أن يجاهر بهذه الآراء وكلها طعن وتجريح في الحكومة القائمة إذ ذاك. فقد نسب إليها أنها تقول قولا تناقضه فعلا، وأظن أنه لا يوجد شيء أتعب للنفس وآلم للقلب من أن يناقض الشخص أقواله بنفسه، ورغم هذه الأقوال الصريحة لم يقل أحد بعدم نشر الخطبة. لماذا تختلف المعاملة في هذه السنة عن تلك والأمة المصرية هي الأمة المصرية ورجال حكومتها من أبنائها ولا ينتظر منهم بطبيعة الحال إلا العمل علي حريتها وإطلاق الحرية لكتابها؟ لِمَ كل هذا التشديد؟ هل تعتبر الحكومة نفسها خصما للأمة؟ لا! هل الأمة، أو بالحرىّ المعارضون للحكومة فيها، يعتبرون أنفسهم خصومًا غير معقولين؟ لا. إنهم خصوم معقولون، فقد أعربت المعارضة في غير موضع عن آرائها وأثبتت أنها معارضة نزيهة، وجاهرت بهذا الرأي في مواقف عدة في هذا المجلس وفي مجلس النواب، تؤيد الحكومة فيما تري تأييدها فيه وتنتقدها عندما تري أن المصلحة العامة تقتضي نقدها. ألا تري الحكومة أن هذه الرقابة المضيقة الآخذة بالخناق لها أمد مقترن بزمن الحرب؟ وندعو الله أن يقصر أجل هذا الزمن حتي ينتهي تقييد الآراء والضغط علي حرية الأفكار من هذه الوجهة، ويشاع الآن أن الكلام في الصلح قريب وبإذن الله يكون أمد الحرب أقرب ولا يبقي بعد ذلك إلا الذكري فيذكر الناس هذه الرقابة والرقابة القديمة، ويود الكل أن تكون الرقابة الحالية مشابهة للرقابة القديمة سواء في عهد الاحتلال أو عهد الأحكام العرفية في الحرب السابقة الكبري، إن أجل الحرب قريب ونود أن تكون هذه الذكري طيبة، «إذا جئت في أمر فكن فيه محسنًا/ فعما قليل أنت ماض وتاركه» (تصفيق من اليسار). هذا ما عنّ لي أن أقوله وأكتفي بما قلته وأسأل الله أن يوفق الحكومة لاحترام حرية الرأي في بلادنا، لأنه إذا كان الإنجليز في بدء سيطرتهم لم يريدوا أن يضيقوا علي الصحف فمن باب أولي ننتظر من رجال حكومة مصر، المصريين، أن يتناسوا الشخصيات، وكلنا مصريون نحب مصر، ويجب أن نتلاقي جميعا في هذا الميدان الفسيح وهو المصلحة العامة. (تصفيق من اليسار). حضرة الشيخ المحترم الأستاذ يوسف أحمد الجندي(10): حضرات الشيوخ المحترمين: ليست هذه هي المرة الأولي التي تناولتها الشكوي في المجالس النيابية من الرقابة علي الصحف وعلي نشر الأخبار، فلقد أثير في البرلمان الإنجليزي نقد شديد بشأن الرقابة علي الصحف والأخبار، فقوبل هذا النقد من جميع صفوف مجلس العموم الإنجليزي علي اختلاف أحزابه وشيعه بصدر رحب، كما قوبل من رئيس الوزراء بصدر أرحب، وأذكر أن رئيس الوزراء وقتئذ قد سلم بأن الرقابة قد تجاوزت حقا حدودها، وسلم بالأخطاء التي وقعت منها، ووعد بأنه سيحدث تغييرا يؤدي إلي رفع الشكوي، وبالفعل قد تم ذلك وأسندت الرقابة إلي أشخاص أحسنوا التصرف فيها. كذلك أثير استجواب مهم في مجلس النواب الفرنسي في فبراير سنة 1940 (11) حول الرقابة وتجاوزها الحدود، وقد تكلم في هذا الشأن خطباء من جميع الصفوف منددين منتقدين طالبين أن تقف هذه الرقابة عند حد معين ، فقوبل هذا النقد من أعضاء المجلس علي مختلف أحزابه بصدر رحب، كما أن رئيس الوزراء ونائبه قد اعترفا بالأخطاء التي وقعت من الرقابة. يا حضرات الشيوخ المحترمين: حدث هذا في بلدين، الحرب تكتنفهما من كل جانب، وأخطارها تهدد كيانهما وعيون الأعداء منبثة في كل ناحية، والضرورات الحربية والعسكرية تشتد يوما بعد يوم- ومع كل هذه الظروف القاسية ارتفع الصوت عاليا في البلدين منددا بتجاوز الرقابة حدودها، طالبا حماية حرية الرأي، وحماية النقد وأجمعوا علي أن هذه الحماية إنما تجب وإنما تفرض للمصلحة الوطنية قبل كل شيء. وإن الدفاع عن البلاد يستوجب أن تكون الحرية قائمة، وألا تصادر الرقابة حرية الرأي والنقد، حدث هذا في هذين البلدين، وحدث مثل هذا في بلدنا نحن أثناء انعقاد البرلمان في الدورة غير العادية، فقد ارتفعت الأصوات في مجلس النواب كما ارتفع شيء منها في مجلس الشيوخ، وكان المتكلم في مجلس النواب حضرة صاحب المقام الرفيع «محمد محمود باشا» (12) فقد اعترض أشد الاعتراض علي أن الرقابة صادرت حرية النقد والرأي، فوجدنا وقتئذ من رفعة «علي ماهر باشا» موقفا في هذا الشأن يماثل ذلك الموقف الذي وقفه المستر «تشمبرلين» (13) إذ وعد بأن حرية الرأي ستكون مصونة ومحترمة، وسيكون النقد مباحا، ومضي في سبيل تنفيذ وعده إلي أن قال إنه قد يكون هناك ما يقتضي تغيير الرقيب، وسأفعل هذا، وبالفعل غير الرقيب بآخر اختاره علي ما أعتقد لسابقة صلته بالصحافة، إذ كان صحفيا من الدرجة الأولي (14) ولأنه كان رجلا ممن ينادون دائما بحرية الرأي، بل قد يكون متهما في بعض الأوساط بالتطرف في حرية الرأي. لذلك استبشرنا خيرا بهذا التغيير وقلنا إن هذه فاتحة خير نرجوها للصحافة والصحفيين، كما نرجوها لهذه البلاد لأن بلادا من غير صحافة حرة مقضي عليها بالموت تدريجيا، والصحافة علي ما أعتقد ليست هي القوة الرابعة كما يقال، ولكنها في رأيي هي القوة الأولي المهذبة المثقفة التي تستطيع أن تؤدي للبلاد أجل الخدمات إذا ما احسنت رسالتها. يا حضرات الشيوخ المحترمين: أقول مما زاد في استبشارنا هو ما وقفنا عليها أثناء نظرنا مرسوم الأحكام العرفية، فلقد علمت بناء علي التصريحات التي أدلي بها حضرة صاحب السعادة «عبدالحميد بدوي باشا»- (15) كبير مستشاري الحكومة الملكية - حينما سألته اللجنة التي كانت تنظر في قانون الأحكام العرفية: كيف كان طلب إعلان الأحكام العرفية وماذا كانت حدوده؟. فكان جوابه أن هذا الطلب صدر كتابة من السفارة البريطانية بطريقة رسمية تطلب فيه من الحكومة المصرية، بصفة معونة- تطبيقا للمادة السابعة من المعاهدة المصرية الإنجليزية- إعلان الأحكام العرفية بصورة لا تكون شديدة التضييق علي الصحف والمطبوعات. وقد فهمنا من هذا، ومن حقنا أن نفهم، أن تلك الأحكام العرفية التي أعلنت بناء علي طلب الحليفة تنفيذا للمعاهدة إنما قصد بالرقابة علي الصحف التي طلبتها السفارة البريطانية حماية ما تقتضيه الضرورات العسكرية ليس إلا، إذ لا حق مطلقا للحليفة بأي حال من الأحوال أن تطلب الرقابة علي الصحف إلا في حدود هذه الغاية دون غيرها، هذه هي المعاهدة، وهذه هي روحها، وهذا هو ما يتفق مع موجبات الاستقلال، فالحليفة لا يحق لها أن تطلب الرقابة علي الصحف إلا في الحد الذي يمس مصالحها، ومصالحها في الوقت الحاضر محصورة فيما تقتضيه الضرورات الحربية والعسكرية التي أوجدتها حالة الحرب القائمة الآن بينها وبين ألمانيا. ياحضرات الشيوخ المحترمين: كان من حقنا ولايزال من حقنا حتي الآن أن نفهم أن الرقابة التي فرضت علي الصحف تبعا للأحكام العرفية ستكون حتما مقصورة علي الضرورات العسكرية أو ما يلابس ذلك من أمور، أما أنها تتسع لغير ذلك فهذا أمر لا يقبله العقل ولا يتصوره الفكر، لأن منشأ هذه الرقابة قد عرفناه وفهمنا حدوده، فلنا إذن أن نستنتج أن الرقابة علي الصحف ليست لازمة لحماية الأمن العام أو لحماية مشروع أو لمنع نشر فكرة اجتماعية أو لحماية الحكومة، وإنما هي لأمر واحد هو حماية ما تقتضيه الضرورات العسكرية التي رأت الحليفة أنها توجب إعلان الأحكام العرفية وتستوجب الرقابة علي الصحف، من أجل هذا عندما قدمت لجنة الأحكام العرفية في مجلس الشيوخ تقريرها عن مرسوم إعلان الأحكام العرفية انقسم اعضاؤها إلي قسمين: قسم رأي رفضها، والقسم الآخر، وهو الذي يعتبر مؤيدا للحكومة، أجازها بقيود أهمها، فيما نحن بصدده الآن، أن تكون الرقابة في حدود الضرورات العسكرية. يا حضرات الشيوخ المحترمين: بعد أن أقر البرلمان الأحكام العرفية ردحا من الزمن، واستمرت الرقابة، تعالت أصوات الصحفيين بالشكوي، وكنا نقابلها في بادئ الأمر بشيء من عدم الاهتمام إيمانا منا واعتقادا بأن هذه الرقابة ستكون محصورة في الضرورات العسكرية، وأنه إذا شط الرقيب مرة أو مرات فالأمل معقود وقوي بأن الرياسة التي تهدي الرقيب ستنتهي أخيرا بأن تحصر نشاطه وعمله في الحدود المعقولة المقررة التي تشرفت بعرضها علي حضراتكم، وبينما نحن بين هذه العوامل المختلفة من شكوي الصحفيين وما يخالج أفكارنا من أمل في إصلاح هذه الحال، إذا بلجنة الرد علي خطاب العرش تنعقد وتطلب حضور رفعة «علي ماهر باشا»، رئيس مجلس الوزراء، لسؤاله عن بعض المسائل. وقبل أن توجه إلي رفعته أي سؤال في هذا الشأن إذا برفعته يقول أمام اللجنة ما يأتي: «هناك رأي يقول بألا تجري الأحكام العرفية إلا إذا كانت في أمور عسكرية عامة، وأريد أن أتقيد بهذا الرأي» وإذا لم تخني ذاكرتي فإن رفعته قد أسهب أكثر مما ثبت في المحضر، إذ قال: - «وإن كان البرلمان قد أقر الأحكام العرفية إلا أن هناك أقلية محترمة في المجلسين قد أجازتها بقيود تنحصر في أن تكون في حدود الضرورات العسكرية عامة، بريطانية ومصرية، وأني سأجري في تنفيذ الأحكام العرفية علي الرأي الذي توجهت إليه الأقلية في المجلسين». وأكثر من هذا أنه قال: - «لا ألتجئ إلي التشريع بسلطة الأحكام العرفية إلا في المسائل الضرورية جدا، وسأرجع إليكم قبل إصدار أي تشريع من هذا القبيل لأخذ رأيكم في إصداره تحت سلطة الأحكام العرفية أو بواسطة البرلمان». ومعني ذلك أن الأحكام العرفية يجب أن تكون في حدود الضرورات العسكرية، بريطانية أو مصرية، ويرجع فيها رفعة رئيس الوزراء إلي لجنة الأحكام العرفية في البرلمان مجتمعة لأخذ رأيها ومن الطبيعي أن من حقنا أن نستنتج من هذه الوعود المتكررة أن الرقابة علي الصحف ستسير في أضيق حد ممكن في الحدود التي تقتضيها الضرورات العسكرية، بريطانية كانت أو مصرية. لكن، ياحضرات الزملاء، آسف أن أقول إن تلك الوعود العظيمة، وهذه الوثائق التي لا سبيل إلي الشك فيما يجب أن يستنتج منها، قد تحطمت وانهارت أمام قلم الرقيب ومعاونيه ومساعديه، وأصبحت حرية الصحافة التي وعد رفعة «علي ماهر باشا» بأنها ستكون مصونة، وفي مقدمتها حرية النقد، أقول أصبحت هذه الحرية غير مصونة إطلاقا بل يعبث بها كل يوم صباحا ومساء وفي كل آونة - هذه حالة سيئة إذا نحن شكونا منها فإنما لا نشكو لمصلحة حزب أو فئة بل نشكو لمصلحة البلاد، وقد نشكو منها أيضا لمصلحة الحكومة القائمة نفسها، إذ ليس من مصلحتها أن تكون حرية الصحف مقيدة بالقيود التي ذهب إليها الرقباء. يا حضرات الزملاء: لم تعد الرقابة قاصرة علي ما تقتضيه الضرورات العسكرية بل تجاوزتها إلي أمور كثيرة جدا، أقول إنها تجاوزت هذا الحد، ومن الصعب علي مهما أجهدت نفسي ومهما أجهد نفسه زميلي وأستاذي «محمود بسيوني بك» أن نصور لحضراتكم مبلغ ما تجاوزته الرقابة. أقول إننا مهما أجهدنا أنفسنا فلن نستطيع مطلقا أن نصور ذلك فلقد أمدتنا صحيفتان بأكثر من خمسين عددا من أعدادهما تحتوي علي مقالات متنوعة، اقتصادية، إخبارية، أدبية وسياسية وغير ذلك مما يطول شرحه، وإذا بيد الرقيب تمتد إلي هذه المقالات تارة بالحذف وأخري بالشطب- إذن ما مأمورية الرقابة وكيف يمكن للصحافة أن تقوم بعملها في مثل هذه الظروف المظلمة؟ ( حضر حضرة صاحب المعالي محمود فهمي النقراشي باشا وزير المعارف العمومية). حضرة صاحب المقام الرفيع «علي ماهر باشا» رئيس مجلس الوزراء: لقد سمعنا الكثير من المقالات والرسالات التي ضربها مثلا حضرتا الشيخين المحترمين علي تضييق حرية الصحافة ، ولكني إلي الآن لم أسمع أن مسألة معينة يصح للرأي العام أن يقف علي حقيقة الرأي فيها منعت الرقابة نشرها أو موضوعا مستوجبا للنقد منعه الرقيب. نريد أن يذكر لنا موضوع بالذات مما أشرت إليه، منع الرقيب نشره، فقد تبين أن الرقيب قد أخطأ في عدم نشره في جريدة ما بينما يكون الموضوع بعينه كتبت فيه الجرائد مرات عدة بطريقة أخري، النقد مباح وقائم بالفعل، أما الكلام في النظريات العامة فنحن مسلمون بما تنطوي عليه من المبادئ، ولكن الذي يهمنا هو أن نعرف مسألة معينة بالذات تتعلق بالمصلحة العامة منع الرقيب نشرها، أريد أن اسمع شيئا من هذا القبيل.