الحلقة الثامنة والعشرون نواب المعارضة في مجلس الشيوخ يجبرون الرقابة علي نشر ما حذفته من الصحف! الرقابة تحظر نشر نص استجواب حول تصرفات الرقابة.. بدعوي أن التعليمات تحظر الإشارة بشكل مباشر أو غير مباشر بتصرفات الرقابة د. محمد حسين هيكل باشا: الدستور ينص علي علانية جلسات البرلمان.. وبالتالي فإنه لا يجوز الرقابة علي شيء من أعمال المجلس سواء وعد بذلك رئيس الوزراء أم لم يعد مقدم الاستجواب: الأحكام العرفية أعلنت بناء لطلب الحكومة البريطانية والرقابة علي الصحف يجب أن تقدمه علي أخبار التحركات العسكرية وانتقالات الجيوش والاستعدادات الحربية إلي الأعداء الرقابة تمنع المقالات والأخبار التي تتعلق بتطبيق الأحكام العرفية، والحياة النيابية الصحيحة والعلاقة بين الديمقراطية المصرية والغربية وشطب عنوان خطبة ألقاها الزعيم زعيم الوفد في شبين الكوم الرقيب يشطب تقريرًا يقول إن العجز في الميزانية وصل إلي ما يزيد علي مليونين ونصف مليون جنيه بعد ما يقرب من أربعة أشهر علي إعلان الأحكام العرفية، وعلي خضوع الصحف للرقابة تجمعت لدي المعارضة الوفدية في «مجلس الشيوخ» شواهد عديدة، علي إساءة استغلال الرقابة لسلطاتها، ومصادرتها لحريات الرأي والتعبير بشطب كثير من الأخبار والمقالات من صفحات الصحف الوفدية وغيرها من الصحف لا صلة لها بالأمور التي فرضت من أجلها الرقابة، أو بمجريات الحرب العالمية الثانية واستند زعيم المعارضة الوفدية «يوسف أحمد الجندي» وزميله الشيخ «محمود بسيوني» إلي المواد التي شطبتها الرقابة من الصحف الوفدية، وتقدما في 14 فبراير 1940 باستجواب إلي رئيس الوزراء ووزير الداخلية «علي ماهر باشا» يقول نصه: «نريد استجواب رفعتكم بصفة كونكم رئيسا لمجلس الوزراء ووزيرا للداخلية فيما اتخذته الوزارة من إجراءات أفضت إلي خنق حرية الصحافة والرأي في مصر، ولا سيما بعد أن أبدي مجلس الشيوخ، بإجماع رأي أعضائه رغبته الصريحة القوية في أن تكون الرقابة علي الصحافة مقصورة علي الضرورات الحربية وألا تتناول الشئون الداخلية للبلاد. ولكنا تبينا مع الأسف أن الأمر جري علي نقيض هذه الرغبة الصادرة من ممثلي الأمة، فمن الأمثلة التي سيتناولها الاستجواب: أولا منعت الرقابة منعا يكاد يكون شاملا، كل نقد لأعمال الوزارة سواء أكان متعلقا بالمسائل السياسية والدستورية أم بالمسائل الاقتصادية رغم مساسها بالمرافق الحيوية للبلاد ورغم أنها جميعا أبعد ما تكون عن الحرب وشئونها. ثانيا بلغ الأمر بالرقابة أن منعت نشر الآيات القرآنية الكريمة مع أنها كانت تنشر مجردة عن التعليق، فأرسل حضرة الرقيب خطابا إلي جريدة «المصري» يحظر فيه نشر الآيات القرآنية والحكم القديمة أو الجديدة، ولو أنه تفضل فسمح بنشرها في صفحة خاصة بالأدب، فلما نفذ أمره منع نشرها بتاتا، وكذلك منعت جريدة «الوفد المصري» من نشر الآيات القرآنية والحكم. ثالثا ومما يثير الأسف أن الرقابة في إجحافها بحرية الرأي لم تكن عادلة حتي في توزيع هذا الإجحاف علي الصحف، فسمحت للصحف الحكومية بالمهاترة ضد خصومها السياسيين في حين أنها لم تسمح لصحف المعارضة بالرد عليها لا في حدود الدفاع، ولا في حدود النقد البريء. وسنقدم في استجوابنا نماذج عديدة من المقالات والفقرات التي منع نشرها مما يدل دلالة قاطعة علي أن منع النشر قد أريد به في جميع الأحوال اتخاذ الرقابة الصحفية وسيلة لحماية الوزارة نفسها من النقد الموجه إلي تصرفاتها وليس لخدمة الأغراض الحربية أو القضية الديمقراطية التي نؤيدها جميعا. وإنه ليحزننا أن نقرر أن البلاد تعاني اليوم الكثير من فداحة الرقابة الصحفية، ومع أن مصر مازالت بعيدة عن ويلات الحرب فهي تكابد من تدابير الضغط علي حرية الرأي ما لم نجد له نظيرا في البلاد التي أصبحت أرضها ميادين للقتال أو التي اشتركت في الحرب بالفعل كحليفتنا بريطانيا العظمي وغيرها من البلاد الديمقراطية. محمود بسيوني «يوسف أحمد الجندي» 14 فبراير سنة 1940 وطبقا للائحة المجلس قرر رئيسه «محمد محمود خليل باشا» إدراج الاستجواب، ضمن جدول أعمال جلسة 19 فبراير 1940، لتحديد جلسة لمناقشته.. وأرسلت سكرتارية المجلس جدول أعمال هذه الجلسة الي الصحف صباح يوم 18 فبراير 1940، وتضمن هذا الجدول الإشارة، إلي أن من بين الموضوعات التي ستناقش في جلسة اليوم التالي «مناقشة الاستجواب المقدم إلي رئيس مجلس الوزراء عن الإجراءات التي اتخذت مع الصحافة» من دون إشارة إلي أسمي مقدمي الاستجواب، أو طبيعة الإجراءات التي اتخذت مع الصحافة أو الجهة التي تتخذ هذه الإجراءات وهي الرقابة علي الصحافة. وكانت هذه الصيغة الموجزة هي التي التزمت بنشرها صحف المساء التي صدرت في ذلك اليوم، لكن صحيفة «المصري» أكبر صحف «حزب الوفد» وكانت تصدر صباحية أعدت للنشر في اليوم التالي خبرا موسعا يتضمن النص الكامل للاستجواب، بعد أن حصلت عليه من صاحبيه.. وهو ما اعترض عليه الرقيب، الذي أشر علي تجربة الطبع التي تضمنته بعبارة «يكتفي بنشر هذا الخبر بنفس الصيغة التي نشرته بها جميع صحف المساء، أي بالإشارة إلي تحديد يوم للمناقشة في الاستجواب الموجه إلي رئيس مجلس الوزراء عن الإجراءات التي اتخذت مع الصحافة». وكما أن المناورة التي قامت بها سكرتارية مجلس الشيوخ، حين أدرجت موضوع الاستجواب، بصيغة موجزة، لا تشير إلي أهم عناصره، وهو «إجراءات الرقابة التي أفضت إلي شنق حرية الصحافة» فإن المناورة التي قامت بها جريدة «المصري» بنشرها النص الكامل للاستجواب لم تفت علي الرقابة التي أجبرتها علي نشر الخبر بالصيغة التي نشرته بها جميع الصحف، وهو ما احتج عليه «يوسف الجندي» حين شرع المجلس في اليوم التالي في المداولة حول تحديد موعد لمناقشة الاستجواب، إذ اعتبر «الجندي» تصرف الرقيب مع جريدة «المصري» مخالفة لتعهد رئيس الوزراء في جلسة 2 أكتوبر 1939، بألا تمتد يد الرقابة إلي المناقشات البرلمانية، وقال إن الاستجواب ما دام قد قدم للمجلس وأدرج في جدول أعماله، فقد أصبح جزءًا من أعمال البرلمان لا يجوز أن تمتد إليه يد الرقيب. وفي جلسة اليوم التالي 20 فبراير 1940 ردت الحكومة علي هذا الانتقاد، وقال وزير الدولة للشئون البرلمانية «محمد علي علوبة باشا» أن الرقابة لا تتعرض لشيء من الحذف أو التعديل لجداول الأعمال في البرلمان، وأن الصحف جميعها نشرت جدول أعمال جلسة اليوم السابق بالنص الذي أبلغته إياها سكرتارية المجلس، وأن بعضها أفرد للبند الخاص باستجواب الشيخين المحترمين «محمود بسيوني» و«يوسف الجندي» عن الإجراءات المتخذة مع الصحف مكانا بارزا بإحدي صفحاتها الرئيسية، واستطرد يشرح القواعد التي تتبعها الرقابة في نشر النصوص الكاملة للأسئلة والاستجوابات فقال: إن الرقيب لا يتعرض للأسئلة والاستجوابات، إلا لما يراد نشره منها علي حدة قبل أن يتلي في الجلسات، ويكون تعرضه لها في إحدي حالتين اثنتين وعلي أحد وجهين اثنين: الأسئلة والاستجوابات التي لا تكون مدرجة بجدول أعمال المجلس فعلا يعرض لها الرقيب بالمنع أخذا بقرار مجلس الشيوخ الصادر بجلسة 10 يناير سنة 1940 . والأسئلة والاستجوابات التي تكون متضمنة أمورا تقضي تعليمات الرقيب العام بعدم إذاعتها يعرض لها الرقيب بالتأجيل إلي أن تتلي في المجلس فتنشر ضمن ما يتردد فيه من أقوال، وذلك نزولا علي تصريح رئيس الحكومة في جلسة 2 أكتوبر سنة 1939 . وأضاف «محمد علي علوبة باشا» يقول: وهذا الإجراء الأخير هو الذي اتخذه الرقيب نحو استجواب حضرتي الشيخين المحترمين، إذ أريد نشره قبل أن يتلي في الجلسة، وإذ تضمن أمرا ممنوعا نشره بمقتضي تعليمات الرقيب العام الصادرة بتاريخ 18 سبتمبر سنة 1939 والمبلغة حين صدورها لمديري الصحف والناشرين جميعا وهو «الإشارة بطريق مباشر أو غير مباشر إلي إجراءات الرقابة» فعرض له الرقيب لا بالحذف كما يقول حضرة الشيخ المحترم الأستاذ «يوسف الجندي» بل بالتأجيل إلي يوم يتلي في الجلسة والاكتفاء الآن بالنص الوارد عنه في جدول الأعمال المبلغ من سكرتارية المجلس إلي الصحف مباشرة. وأثار ما قاله وزير الدولة للشئون البرلمانية، ردودا مضادة، بعضها من «يوسف الجندي» نفسه، الذي قدم إلي رئاسة المجلس تجربة الطبع التي تضمنت تأشيرة الرقيب ليدلل بها علي أنه لم «يؤجل» نشر الخبر بل «رفض» نشره، وبعضها من عدد من الوزراء والشيوخ المؤيدين للحكومة الذين حاولوا تفسير نص التصريح الذي أدلي به «علي ماهر باشا» أثناء الدورة الطارئة التي نظرت مرسوم الأحكام العرفية بشأن عدم خضوع ما يجري من مناقشات في داخل البرلمان للرقابة، علي نحو يجعل تصرف الرقيب منسجما مع هذا الوعد، بينما تمسك شيوخ المعارضة، بأن تصرف الرقيب هو خروج عن وعد رئيس الوزراء، وهي مناقشة أوقفتها مداخلة «د. محمد حسين هيكل باشا» أحد أقطاب «حزب الأحرار الدستوريين» الذي كان أحد حزبي الأغلبية في مجلس النواب إذ طلب الكلمة ليعيد المسألة إلي أصلها، وهو النص في الدستور علي علانية جلسات البرلمان، وليس وعد رئيس الوزراء، فقال: المسألة المعروضة أمام حضراتكم يقوم فيها الجدل علي أساس أن اتفاقا وقع بين هذا المجلس بناء علي طلب حضرة الزميل المحترم الأستاذ «يوسف أحمد الجندي» وبين رفعة رئيس مجلس الوزراء سواء أكان بصفة كونه رئيسا لمجلس الوزراء أو حاكما عسكريا - وقد سمعت الآن حضرة صاحب المعالي وزير الدولة للشئون البرلمانية يقول: «لهذا يجمل أن ننتظر عودة رفعة الحاكم العسكري للنظر في هذا الاتفاق حتي نتفق علي مدي توسيعه أو تضييقه». واسمحوا لي حضراتكم أن أقول إن هذا الاتفاق ليس مما يجوز أن يتناوله بحث، وليس هو في الواقع اتفاقا بين المجلس ورفعة رئيس مجلس الوزراء أو الحاكم العسكري، لأن النشر والعلانية حق مطلق لهذا المجلس قرره الدستور ولا يجوز بأي حال من الأحوال باسم الأحكام العرفية أو بأية صفة من الصفات أو باسم الحرب أن يحدد أو يقيد هذا الحق حتي يكون هناك موضع لتوسيعه أو تضييقه أو للحد من مداه، فلقد نص الدستور في المادة 155 علي ما يأتي: «لا يجوز لأية حال تعطيل حكم من أحكام هذا الدستور إلا أن يكون ذلك وقتيا في زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية وعلي الوجه المبين في القانون، وعلي أي حال لا يجوز تعطيل انعقاد البرلمان متي توفرت في انعقاده الشروط المقررة بهذا الدستور». فلا يجوز إذن تعطيل انعقاد البرلمان، والدستور صريح في أن انعقاد البرلمان علني إلا إذا استوجب الأمر السرية فقررها أحد المجلسين، وإذا قيل اجتماع علني - وبخاصة إذا كان هو اجتماع الهيئة التشريعية، أي مجلس النواب أو مجلس الشيوخ- فيجب أن تعطي للعلانية كل أحكامها في أوسع مدي ممكن. واستطرد «د.محمد حسين هيكل» يقول: فالعلانية لا تقتصر علي أن يجيء الزائرون إلي الشرفات ليسمعوا ما يدور في أحد المجلسين من مناقشة فهذه الشرفات محدودة المساحة بطبيعتها، والبطاقات تصرف للزائرين بمقدارما يتسع لهم المكان، فلو أن ألفا أو ألفين أو أكثر أرادوا الحضور فهذا حق لهم بمقتضي حكم الدستور، وإذا كان الواقع يقضي بأن تكون العلانية المكانية محدودة بحدود مادية فإن المنطق المتفق عليه، وبنوع خاص في دور القضاء ودار البرلمان، أن تمتد العلانية حتي تتحطم هذه القيود المادية بكل الوسائل، فهذه الجدران إذا كان من الممكن إفساحها فيجب أن يعمل ذلك لتتوفر أسباب العلانية بمقتضي أحكام الدستور، لهذا يقع في بعض المناسبات، كما يقع عند إلقاء خطاب العرش، ألا يكتفي في العلانية بالنشر بل تذاع إذاعة تتناول البلاد من أقصاها إلي أقصاها كما تتناول الخارج أيضا. ومادام الدستور قد نص علي أن عمل البرلمان يجب أن يكون مستمرا فيجب أن يترتب علي هذا كل أثر له، ومن ذلك أن كل ما يقع في المجلس يجب أن يكون علنيا، لماذا؟ لأنه ليس ملكا للمجلس ولا للحكومة ولكنه ملك للمصريين كافة، وكل كلمة تقال هنا لا نقولها إلا ليسمعها الناس جميعا فيحكموا لنا أو علينا، ويطلعوا علي قرارات المجلس وأعمال الحكومة فيدلوا بآرائهم فيها إن كانت لها أو عليها. واختتم «د.هيكل» مداخلته قائلا: أما أن نتقيد بوجود اتفاق مع رفعة الحاكم العسكري ونخضع لسلطة من الرقابة أيا كان نوعها فأعتقد أن في هذا اعتداء، واضحا علي الدستور، وأعتقد أيضا أن كل تحديد يمكن أن تتناوله الرقابة لأعمال هذا المجلس قبل الجلسات أو بعد الجلسات أو في اللجان أو في كل ما أباحت اللائحة الداخلية نشره قبل المناقشة أو أثناءها، أعتقد أنه لا يجوز بحال من الأحوال، والدستور قائم، والمادة 98 تنص صراحة علي أن جلسات المجلسين علنية، أي أن نشر ما يدور فيها واجب حتي أثناء قيام الأحكام العرفية - ولذلك فإني أقول إنه يجب ألا نخضع لرقابة أيا كان نوعها وسلطانها (تصفيق عام). وفي أعقاب ذلك، أعلن «يوسف الجندي» تأييده لكل ما قاله «د.محمد حسين هيكل»، واعتبر أن الاتفاق الذي تم بين الحكومة والمجلس في جلسة 2 أكتوبر 1939، تطبيقا لهذا الحق الدستوري، وأعلن موافقته علي تأجيل لمناقشة حول حدود سلطة الرقيب فيما يتعلق بنشر النص الكامل للأسئلة والاستجوابات قبل تلاوتها في المجلس إلي أن يعود «علي ماهر» من جولته بالسودان، باعتباره صاحب الوعد بعدم تعرض الرقابة للأعمال البرلمانية. ووافقت الحكومة علي تلاوة الاستجواب، وبذلك أمكن للصحف أن تنشر النص الكامل له في اليوم التالي 21 فبراير 1940 . وأعلن رئيس المجلس أن اتفق مع «محمود بسيوني» و«يوسف الجندي» علي تحديد جلسة 11 مارس 1940 لمناقشة الاستجواب، علي أن تجري في أثناء تلك الجلسة. المناقشة حول تفسير الوعد الذي قطعه رئيس الوزراء بألا تمتد يد الرقابة علي الصحف إلي مناقشات البرلمان. (33) وفي الموعد المحدد للمناقشة في جلسة 11 مارس 1940 دعي رئيس المجلس الشيخ المحترم «محمود بسيوني» أحد مقدمي الاستجواب إلي شرح استجوابه، فاستهل حديثه، قائلاً: إنه وزميله تقدما بهذا الاستجواب بهدف «لفت نظر الحكومة إلي ما حصل من ضغط علي حرية الصحافة.. ضغط كاد يذهب بأثر الفائدة المرجوة من خدمتها للمصلحة العامة» واستطرد يشير إلي الدور الذي تلعبه الصحافة في التعبير عن الرأي العام، وفي الدفاع عن المصالح العامة.. مؤكدا أن الغرض من هذه الرقابة التي طلبتها بريطانيا تطبيقا للمادة السابعة من معاهدة 1936، هو ما يتعلق بالشئون العسكرية التي تحتمها ضرورة المحالفة بين مصر وبريطانيا، وفي هذه الحدود المقدرة بالضرورة يجب أن تكون مساعدة الحليفة ولا تزيد عليها، بحيث لا تتسرب عبر النشر في الصحف أخبار الحركات العسكرية وانتقالات الجيوش والاستعدادات الحربية إلي الأعداء، وهو ما يعني قصر الرقابة علي الأنباء التي يترتب علي نشرها إضرار بسلامة البلاد وبالقوات المصرية وبالقوات الحليفة الصديقة. وتساءل «محمود بسيوني»: لكن هل قامت الحكومة بجعل هذه الرقابة بقدر الضرورات العسكرية التي تستلزمها حاجة البلاد وسلامتها.. وسلامة الحليفة؟ وفي الإجابة عن هذا السؤال استطرد «بسيوني» يقول: من الأسف أن الحكومة قد شددت الخناق علي صحف المعارضة، فلا تسمح لها بنشر أي انتقاد لعمل من أعمالها مما أزال كل أثر لنقد المعارضة من الوجود. وانتقل مقدم الاستجواب، من هذه المقدمة إلي ضرب الأمثلة عما حذفته الرقابة من الصحف المصرية، موزعة علي الوجوه الثلاثة التي تضمنها الاستجواب وهي منع نقد أعمال الوزارة ومنع نشر الآيات القرآنية والتمييز بين صحف المعارضة وصحف الحكومة في تطبيق تعليمات الرقابة، ليقدم نماذج مما كانت الرقابة تحذفه من الصحف المصرية، خلال الشهور الأربع الأولي من فرضها بسبب الحرب العالمية الثانية.. ولأهمية هذه الأمثلة وطابعها الوثائقي الذي لا يوجد في أي مصدر آخر، ننقلها بالنص عن مضبطة الجلسة: حضرة الشيخ المحترم محمود بسيوني: ولكي تتبينوا حضراتكم شدة الرقابة فيما يتعلق بالوجه الأول لاستجوابنا وهو الخاص بمنع الرقابة لكل نقد يتعلق بأعمال الوزارة سواء كان متعلقا بالمسائل السياسية والدستورية أم بالمسائل الاقتصادية، أعرض علي حضراتكم الأمثلة الآتية: 1- عرضت رسالة علي الرقيب عنوانها «المعاهدة أيضا وسياستنا الداخلية». هذه الرسالة قيل فيها: «وقد بينا أن طلب إعلان الأحكام العرفية إنما جاء من الحكومة الانجليزية باسم المعاهدة، وقد ترتب علي إعلان هذه الأحكام أن امتد أثرها إلي أفق السياسة الداخلية، وأصبح من العسير، بل من المستحيل، أن تؤدي العوامل والتيارات الداخلية أثرها الطبيعي في توجيه دفة السياسة المحلية في البلاد». هذه الرسالة - وقد سمعتم حضراتكم جزءا منها - لم يقرها الرقيب بل أمر بعدم نشرها، وكان الواجب عليه أن يذيعها بين الناس حتي يكون ذلك داعياً إلي لفت نظر رفعة رئيس مجلس الوزراء لكي يأمر بعدم المزيد من هذا الضغط الشديد من الرقابة. 2- رسالة ثانية عنوانها «الحياة النيابية ومعناها الصحيح»، أشار كاتبها إلي أن الحياة النيابية ومعناها الصحيح لا يمكن أن تتوفر إلا إذا كانت هناك حرية في إبداء الرأي. 3 رسالة ثالثة تحت عنوان «الديمقراطية المصرية وموقفها من الديمقراطية الغربية»، يقول فيها كاتبها إن الديمقراطية تقتضي الرجوع إلي صوت الشعب. فقال «الديمقراطية تقتضي الرجوع إلي صوت الشعب، وقد بدأ المظهر الصادق للديمقراطية في النتيجة التي أسفرت عنها الانتخابات الفرعية التي جرت من يومين في إحدي دوائر الإسكندرية، فقد تجلي صوت الشعب حين لم يحل بين الناخبين وبين إرادتهم، وكان هذا علي علاته سندا للتأييد الذي نجاهر به والمناصرة التي نعلنها». ولكن لأن هذه الرسالة قصد بها بيان ميل الرأي العام لجهة مخصوصة حزبية، وهذا الحزب معارض للحكومة، لم يقبل الرقيب نشرها مع أنه سمح بنشر مقالة أخري عندما حصلت انتخابات دائرة «أوسيم» وتكلم فيها بعض الزعماء المؤيدين للحكومة بأن المقياس الذي يقاس به الشعور العام والميل الشعبي هو انتخابات دائرة «أوسيم» وهي إحدي الدوائر الممالئة للحكومة. (حضر حضرات أصحاب المعالي: عبدالرحمن عزام بك وزير الشئون الاجتماعية، اللواء محمد صالح حرب باشا وزير الدفاع الوطني، محمود توفيق حفناوي بك وزير الزراعة، الأستاذ إبراهيم عبدالهادي وزير دولة للشئون البرلمانية). هذه الرسالة التي تلوت علي حضراتكم شيئا منها كتب عليها الرقيب العبارة الآتية: «يؤسفني جداً أنني لا أستطيع السماح بهذا المقال، وكان بودي أن تكون زيارتي الأولي أكثر توفيقا». مع أن صاحب هذه الرسالة إنما تكلم عن المقارنة بين الديمقراطية والديكتاتورية، وقال إنه في الحكم الديكتاتوري يكون صوت الشعب خافتاً وإرادته مكبوتة وحرياته مهددة، أما الديمقراطية فيكون فيها صوت الشعب باديا جليا وله المقام الأعلي في الحكم. 4 رسالة رابعة تحت عنوان «غموض»، قال فيها صاحبها: « سافر أمس رفعة رئيس مجلس الوزراء «مصطحباً» من هيئة الوزارة وزيرين هما وزيرا الدفاع والأشغال للقيام برحلة في ربوع السودان. «وقد أذاع رفعته منذ أيام برنامجا لهذه الرحلة يتبين منه أنه سوف يقضي في تلك الربوع أكثر من أسبوعين، وكنا قبل سفره قد أشرنا إلي هذه الرحلة مبينين أنها لا يمكن أن تكون للنزهة أو التماسا للراحة أو الاستجمام، وإنما أكبر الظن أنها سفرة رسمية لشئون تتعلق بالبلدين، وطلبنا أن يتكرم رفعة رئيس الوزراء بإصدار بيان رسمي عنها». هذا خبر بسيط وطلب يسير من رفعة رئيس مجلس الوزراء، فما علاقة هذا بالنظام؟ وما الخوف منه علي الأمن العام؟ أو ما تأثيره علي مصالح الحليفة؟ هذه أمثال نعرضها علي حضراتكم، لتبينوا أن حرية الصحافة أصبحت أثرا بعد عين، إذ ماذا في هذا المقال الذي يقول صاحبه فيه إن صاحب الرفعة رئيس مجلس الوزراء سافر إلي السودان ومعه وزير الدفاع ووزير الأشغال مع أن حالة البلاد لا تسمح بسفر رفعته ولا بسفر زميليه. 5 رسالة خامسة عنوانها «اللجان القومية»، قال كاتبها إن هذه اللجان تؤثر علي مهمة البرلمان، وأخذ يبدي رأيه في هذا الموضوع لأن المعارضة لم تأخذ بمبدأ تشكيل اللجان القومية اكتفاء باللجان المشكلة في المجلسين وتقاريرها التي تقدم منها عن المشروعات التي تحال إليها، وللمجلسين الرأي الأعلي. هذه الرسالة منع الرقيب نشرها أيضا. 6 رسالة سادسة أريد نشرها في جريدة «المصري» تحت عنوان «حقوق كاملة لا مساومة فيها، الأمة مصدر السلطات لأنها مصدر الخيرات، خطبة خطيرة للرئيس الجليل في شبين الكوم»، ماذا حصل في هذه الرسالة؟ لقد شطب العنوان بأكمله كأن الدستور لم يكن قائما ولم ينص فيه علي أن الأمة مصدر السلطات، ما معني أن يتصرف الرقيب هذا التصرف؟ كونوا منصفين، هذه العبارة لا خوف منها، وهي مستمدة من الدستور، ونحن جميعا نحترم الدستور، ورئيس الحكومة ذاته كان عضوا في لجنة الدستور وممن أشاروا بتدوين هذا النص فيه، فلا يصح أن يأتي الرقيب ويشطب هذه العبارة، اللهم إلا إذا كان الغرض من ذلك أن كل شيء فيه تمجيد للدستور وحقوق الأمة - وهي عبارات لا خلاف عليها وكلنا نقدسها- لا يوافق عليه. لقد جاء في هذه الخطبة أيضا العبارة الآتية: «هذه هي خطة الوفد صريحة لا لبس فيها ولا إبهام: حقوق الأمة كاملة، وصيانة الدستور من كل عبث، وصبر علي المكاره، ومثابرة علي الجهاد»، وبعد ذلك ثلاثة سطور مشطوبة شطبا تاما يتعذر علي ضعيف النظر مثلي أن يتبينها ونصها في الغالب: «حتي نصل إلي هدفنا أو نهلك دونه، الشدة والرخاء سيان عندنا والنصر والجهاد متكافئان لدينا، فكل عذاب في سبيل مصر مستعذب، وكل جهاد لعظمتها محبب، وعلينا أن نعمل موقنين بما نعمل، وعلي الله أن يبلغنا ما نأمل». 7 رسالة سابعة تحت عنوان: «حق الصحافة في النقد والمعارضة»، يقول صاحبها إن حق الصحافة في النقد والمعارضة حق محترم، وإن الحكومات في الأمم المتحاربة تحترمه ولا تمنع منه إلا ما كان مؤثرا علي سلامتها وعلي حركاتها العسكرية وتسرب أخبارها إلي العدو، وأشار الكاتب فيها إلي أنه يجب أن يعامل المؤيدون والمعارضون علي السواء، وأنه لا يحق أن يسمح للمؤيدين أن يقولوا ما شاءوا ويحجر علي المعارضين. وإليكم بعض ما كتب في هذه الرسالة:«لقد كان حريا بالوزارة أن تفسح للصحافة المدي لتناول أعمالها ومشروعاتها وسياستها الداخلية بكل ما تري فيه موضعا لنقد ومحلا لاعتراض كتصرفها في تعيينات الموظفين، أو اتجاهها في مشروع كهربة الخزان أو إصلاح الأراضي البور أو أعباء الميزانية العامة كما ينبغي أن تبيحها النقد والمعارضة في أي موقف سياسي أو شأن يتصل بالسيادة والاستقلال». أنا لا أفهم معني لأن يمنع حضرة الرقيب نشر هذه الجملة اللطيفة الذهبية، وأظن أنه لو سمح بنشر عشرات من أمثالها لما كان في ذلك ما يغضب رفعة رئيس الحكومة. إذا كنتم تريدون المعاونة بين المعارضين والمؤيدين فيما يتعلق بالمصلحة العامة، فقد قلنا من أول يوم إن معارضتنا نزيهة حتي إذا وجدت سيئة أخفتها عن الناس، وإذا رأت حسنة أضاءتها بنبراس. فإذا كان هذا ما ترجون وما تبغون فلماذا تحجرون علي آرائنا من أن تنشر في جرائدنا وتبيحون للجرائد المؤيدة أن تجرحنا كل تجريح في كرامتنا ولا تسمحون للمدافع أن يدافع عن نفسه. هذا شيء كثير جدا 8 رسالة ثامنة تحت عنوان «المساواة في الظلم عدل» يقول كاتب هذه الرسالة إنه إذا وقع حيف بالأفراد فإنهم يتعزون إذا كان هذا الحيف عاما، لكن إذا كان الحيف مقصودا به فريق مخصوص فإن ذلك لا يؤدي إلي الغرض الذي تنشدونه من اتحاد الكلمة والألفة والتعاون والتقارب، والتقارب لا يكون إلا بالأفكار فإذا ما طمست فكيف يمكن التقرب والاتحاد؟ ألا يؤدي ذلك إلي حرج في النفس، وشعور بالمرارة في فريق كبير من الأمة، هذا الفريق ممثلوه في مجلس الشيوخ كتلة عظيمة قوية، ظهر نضجها السياسي في مسائل كثيرة، وكنا نحمد مغبة مناقشاتها، وما أدت إليه من قرارات حكيمة، لم يراع فيها إلا الصالح العام والصالح العام فقط. وأظن أن مرارة النفوس إذا تركت وترك أصحابها وهي تغلي في قلوبهم، لا ينتج عن ذلك خير لهؤلاء ولا لهؤلاء، ولا لهذا البلد العظيم. فأظن أن حضرة الرقيب ارتكب خطأ أوليا، وكان الأولي به ألا يمنع نشر هذه الرسائل وأنا لا أريد في مخاطبته إلا أن أكون في حدود الأدب. 9 ومما شطب فيه الرقيب رسالة تاسعة عنوانها «عجز الميزانية في الحساب الختامي» فشطب صدرها. هذه الرسالة قال فيها صاحبها: «صدر الحساب الختامي للسنة المالية الماضية، وفيه عجز يبلغ 2.772.731 جنيها، أخذت من الاحتياطي العام، وكان هذا العجز منظورا قبل أن نطقت به الأرقام النهائية بعدة أشهر لأسباب عديدة، وفي طليعة هذه الأسباب التفاؤل الكبير في تقدير الإيرادات، والمغالاة الكبيرة في المصروفات، وكنا قد نبهنا إليها في حينها، ولكن الوزارة السابقة التي تحملت تبعة هذا العجز لم تشأ أن تتنبه، علي أننا لا نري الآن فرقا في إدارة شئون الدولة المالية بين ما كانت عليه، وما هي عليه الآن، وقد زادت الحالة الاقتصادية سوءًا بسبب الحرب». ثم ذكر صاحب الرسالة أسباب حصول عجز في الميزانية المقبلة، فقال فيها: «إن الشركات التي كانت تستورد البضائع امتنعت الآن عن الاستيراد بسبب الحرب، وترتب علي ذلك أن البضائع أصبحت قليلة جدا، فقل دخل الجمارك تبعا لذلك، وهو من أكبر موارد الدولة، كما أن قانون الضرائب لم يطبق إلي الآن علي جميع الذين يجب أن يطبق عليهم». فلماذا تمحي مثل هذه العبارة، وفيها حث للحكومة علي جباية الضرائب بهمة ونشاط؟ ثم قال صاحب الرسالة «الوقت قد حان لوضع الميزانية الجديدة علي أساس جديد تراعي فيه حقائق الحالة، لا في توزيع الاعتمادات علي الدوائر المختلفة فقط، بل تراعي قدرة الدولة المصرية علي الإنفاق أيضا، ولا تجهل الوزارة أن في الاعتمادات الخاصة بالوظائف عبئًا مفضوحًا» وهذه الكلمة الأخيرة شطبها حضرة الرقيب واستبدل بها كلمة «ثقيلا». قال صاحب الرسالة: «عبئا مفضوحا تضيع به بضعة ملايين من الجنيهات كل سنة، ويترتب عليه ما نراه الآن من العجز في ميزانية الدولة، ومن الإضرار بسمعة الدولة المالية، ومن العجز عن تطبيق قانون التسوية للديون العقارية». فهل هذه الجملة الأخيرة يصح محوها؟ أظن لا، لأن الكاتب يلفت نظر الحكومة إلي أن تكون ميزانيتها في السنة القادمة علي أساس صحيح في تقدير الضرائب تقديرا صحيحا، وهذا الإصلاح هو الذي يجب أن تقوم به الحكومة لأنه ينبغي أن تبني حسابها علي ما تجمعه بالفعل لا ما تقدره في حسن ظن وهذا الإصلاح لا دخل فيه للعوامل الشخصية. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ عباس الجمل هل هذا استقصاء، أو تمثيل؟ فإن كان تمثيلا فيكفي ذكر مثل أو اثنين، أو أن المقصود نشر ما سبق للرقيب أن منع نشره. حضرة الشيخ المحترم الأستاذ محمود بسيوني ما ذكرته إنما هو أمثلة فقط، وأرجو ألا يقاطعني حضرة الشيخ المحترم. الرئيس المقاطعة لا تجوز، وكل كلام منها لا يثبت في المضبطة. وكانت هذه المقاطعة، إشارة إلي الشيخ المستجوب لأن ينتقل إلي الوجه الثاني من الاستجواب، وهو منع الرقابة لنشر الآيات القرآنية الكريمة والحكم والأمثال القديمة والحديثة.