عندما يكون الزمان من أهم مقومات الفكر السينمائي فإن المكان كما ذكرنا لا يقل عنه في الأهمية، فالمكان السينمائي ليس مجرد خلفية أو وعاء للأحداث كما يعتقد البعض ولكن المكان هو جزء من الحدث موجود دائما حتي لا يمكن الاستغناء عنه، إن محاولة إبراز الممثل أو تقديم لقطات قريبة كبيرة له بحيث يحجب جسده أو وجهه أي شيء عن الظهور في الكادر والاستغناء عن المكان هو خطأ جسيم، فالإنسان مهما كانت حركته لا يتحرك في فراغ مطلق والإحساس الجمالي لا ينبع إلا من وجود الجسد الإنساني داخل إطار مكاني، فإن أي لقطة لابد وأن تدور في المكان حتي ولو كانت لقطة كبيرة لوجه ممثل أو ممثلة فإن هذا يعطيها بعدا دراميا سينمائيا، فإن ذلك يشير مثلا إلي أن فزع الممثل أو الممثلة إنما هو نتيجة وجودها أو وجوده في مكان معين. وهذا لا يعني أن يكون اختيار المكان اختيارا عاديا، فإذا كانت الأحداث تدور مثلا في أحد البيوت فلا يكون أي بيت، في هذه الحالة يجب أن يكون لهذا البيت دلالات سينمائية كثيرة ويجب أن يكون المكان مناسبا للحدث وصالحًا للتعبير السينمائي وأن تتناسب ألوانه مع الجو العام للحدث السينمائي، ولذلك فإنه من الأفضل بنائه ديكورا وعدم اللجوء إلي مكان طبيعي لا تتوافر فيه الشروط التي ذكرناها، فالفن هو إعادة تقديم للواقع وليس الواقع نفسه وهو تقنين للطبيعة وللحياة والخروج بهما من الفوضي وعدم التناسق إلي الجمال الفني المنظم والذي يوحي بمعني معين، الفن كما نعلم هو ما يحتمل الوقوع وليس ما هو واقع وبين هذا وذاك يتجلي الإبداع. استخدام الألوان عندما قام انطونيوني بإخراج فيلم «الصحراء الحمراء» أطلق عليه بعض النقاد بأنه أول فيلم سينمائي بالألوان رغم وجود مئات الأفلام السينمائية الملونة قبله، ولكن لأن انطونيوني استخدم الألوان استخداما سينمائيا سليما أي أن كل لون أو بمعني أدق كان اللون الأحمر له دلالته وأن انطونيوني استخدم المكان استخداما دراميا سينمائيا وكان لمهندس الديكور اسهاما كبيرا. ورغم أن انطونيوني ينتمي إلي مدرسة الواقعية الجديدة وهي مدرسة كانت تستخدم الأماكن الطبيعية وذلك لظروف معينة وأسباب مادية، فقد دمرت الحرب العالمية الثانية معظم استديوهات السينما الإيطالية فلجأ روسيلليني ودي سيكا وفيسكونتي إلي التصوير في الأماكن الحقيقية بل إن بعضهم استخدم أناسا غير محترفين للقيام بتمثيل بعض الأدوار وذلك من أجل مزيد من الواقعية. وكان هذا نوعا من الفكر السينمائي قد يكون نابعا من ظروف ما بعد الحرب العصبية التي كان يمر بها الإنتاج السينمائي في إيطاليا في ذلك الوقت، ولكن بما أن الفن يتم خلقه فلابد من إعادة خلق كل شيء بشكل فني، حتي المكان يتم خلقه بمواصفات تساعد المخرج علي تحريك الكاميرا من أجل حرية التعبير الفني لا أن يصطدم مثلا بوجود جدار أو عامود خرساني لا يمكن إزالته ولذلك فإن عليه أن يفكر في حل وسط أو يتنازل كلية عن لقطة كانت ستؤدي معني معينا. يقول يوجين فال: «يجب أن ندرك أن كل مكان مرتبط بمعالم معينة، وتؤثر هذه المعالم في الأحداث التي تقع هناك، وبالتالي يعني الاختيار السليم للمكان أن تضيف هذه المعالم إلي الأحداث، ويعني الاختيار العبثي للمكان عدم وجود علاقة بينهما ويعني الاختيار الخاطئ للمكان التناقض بينهما، وبالفعل نجد أن الاختيار عبثي للمكان في أغلب الأفلام المتواضعة وأن هناك خطأ في اختيار المكان في الأفلام الروائية، ومع ذلك فإن الفيلم الجيد يجعل من الاختيار السليم للمكان إضافة جوهرية لقيمة القصة»، بل إضافة إلي ذلك: عند البعض بأن السينما هي «فن المكان» وأن المكان في قدرته أن يبرز البعد الزمني للأحداث وذلك عندما يحدث تغير علي المكان في أي فيلم من الأفلام، ويستمد المكان قيمته من خلال الحدث ويستمد الحدث إقناعه من خلال المكان الذي يدور فيه. الفن الوليد ويختلف فنان السينما في الوسائل المستخدمة لإبراز فنه عن بقية المبدعين الآخرين في الفنون الأخري، فالكاتب مثلا الذي كان يكتب بالريشة ثم بالقلم أصبح البعض يكتبون علي الآلة الكاتبة ثم تطور الأمر وأصبح البعض يكتبون علي الكمبيوتر، وكذلك هو الحال بالنسبة للموسيقي الذي يستخدم الآلات الموسيقية فلم يتغير الحال سوي استخدام الكهرباء في بعض الآلات، والرسام علي مدي العصور يستخدم الألوان بأنواعها المعروفة والنحات يستخدم الحجر أو الصلصال أو المعادن وكلها مواد خاماتها لم يدخل عليها التغيير إلا في القليل النادر، أما فنان السينما فإنه يواجه شيئا أكثر صعوبة فهو يستخدم آلات سريعة التطور وذلك لأن فن السينما يعتبر فنا وليدا لم يمض علي وجوده سوي قرن من الزمان، ولذلك فإن فنان السينما يواجه من حين لآخر بآلات جديدة مثل الأجهزة الطبية التي يستخدمها الطبيب في الجراحة ولذلك فإن عليه أن يستزيد علما لمواجهة هذه الآلات ويتدرب التدريب الكافي ليحسن استخدامها، ولذلك فعندما نقول إن السينما «آلة وفن» هذا يعني أن الآلة في حركة تطور دائم وعلي الفنان السينمائي أن يعمل فكره لاستغلال هذا التطور في إبداعه، ولذلك يجري أحيانا إعادة إنتاج بعض الأفلام الشهيرة بشكل جديد قام باستغلال التكنولوجيا الحديثة في مجال الفن السينمائي ونجد أن الفيلم الجديد يعالج نفس موضوع الفيلم القديم ولكن يختلف عنه في التقنية الفنية ويقترب أكثر من الفن السينمائي الحقيقي فليس الفيلم مجرد موضوع ولكن المهم كيف يخرج إلينا هذا الموضوع، ولكي يخرج إلينا الفيلم السينمائي علي أكمل وجه يخوض صانعوه معركة من التحدي مع الآلة التي يستخدمونها لتقنين طاقتها، يقول آرثر نايت في كتابه «أكثر الفنون حياة» يؤكد هذا المعني: «وخلال تاريخ السينما كله يجد المرء هذه الأمواج المتصاعدة للتغير التكنولوجي الذي غمر الوسيط ليغير من شكله ويخلق مشاكل جديدة للفنانين، وفي الواقع فإن تاريخ السينما بشكل كبير هو تقرير عن المخرجين حول العالم الذين يجربون ميكانيكية المخترعين واكتشاف طرق لخلق التسلية وتحفيز الأفلام من أجل جماهيرهم، البعض قبلوا الوسيط واستخدموه بشكل مؤثر، وأضاف البعض مهارة وخيالا ليجعلوا منه فنا أكثر تعبيرا وتأثيرا، واستطاع القليل من بعض العباقرة أن يستخرجوا من آليات السينما طرقا مبتكرة في استخدام الكاميرا وطرقا جديدة في الربط بين لقطاتهم ووظيفة جديدة للممثل والديكورات وشريط الصوت - أفكارا غيرت مجري الإبداع السينمائي». إلحاح الرؤية فبالرغم من أن السينما تعتبر فنا من الفنون فيجب ألا ننسي بأن السينما ما هي إلا وليدة العلم مثلها مثل السيارة أو القطار أو الطائرة، وكما هناك من يفكرون من أجل تطوير وسائل المواصلات هذه فيوجد في السينما من يطور آلاتها ولذلك يجب أن يكون هناك أيضا من يجيد استخدام هذه الآلات ويتصدون بإبداعهم لما يقدمه المخترعون، ولهذا يعود آرثر نايت ويقول: «ولكن إذا كانت السينما في هذا الوقت تم قبولها كأخت للفنون الراسخة فلا يمكن أن ننكر أنها كانت وليدة العلم، وأصر بعض كتاب تراجمها علي تتبع أبوتها إلي وقت اكتشاف اليونانيين للكهرباء في العنبر وإلي الكاميرا الخفية لليوناردو Magia Cystera لآثاناسيوس كيرشر والبحث في الفروع لشرحة عائلتها قبيل القرن التاسع عشر، وبمجرد أن أعلن بيتر مارك روجيت (صاحب شهرة Thesaurus) عن نظريته «إلحاح الرؤية بالنسبة للأشياء المتحركة» في عام 1924 فكان التقدم نحو الأفلام السينمائية وعرض الفيلم السينمائي بشكل سريع التقدم. هناك سؤال قد يتبادر إلي الذهن كثيرا ويثير الدهشة وذلك عندما نتأمل تاريخ الفيلم السينمائي حيث يتساءل المرء: هل من المعقول في زمن كانت الآلات السينمائية مازالت في بدايتها فإذا بالفنان السينمائي يبدع أفلاما قادرة علي التعبير بالصورة فقط وتقدم لنا كل الاتجاهات الفنية؟ في عام 1926 أعلن آبل جانس بأنه قد أتي عصر جديد في مجال الفنون وهو عصر الصورة، ولكن للأسف عندما تتطور الآلات وتتنوع يقل التعبير بالصورة ويقل الإبداع ويتم الاعتماد علي عناصر فنية أخري وخاصة عنصر الصوت، هل في زمن الصمت كانت السينما أقوي منها عندما نطقت أو بمعني آخر هل كانت السينما تقدم الفن السينمائي الحقيقي؟ لابد إذن للفكر السينمائي أن يحاول تدارك هذا الخطأ ويستغل الآلة أفضل استغلال حتي يعود ويقترب من الفن السينمائي الخالص ويمنحه قوته في التعبير عن طريق الصورة بحيث تكون بقية العناصر الأخري ما هي إلا عناصر مساعدة تضفي المزيد من الجماليات علي الفن السينمائي. ذروة الفنون يقول روي آدمز في كتابه «لغة الصورة في السينما المعاصرة» من ترجمة سعيد عبدالمحسن: «كانت نظريات الفن التي ذاعت في العشرينيات تري الفيلم الصامت - رغم صمته - ذروة كل الفنون والمركب النهائي الذي يجمع بينها، وتري فيه ضربا من الموسيقي أنغامها الصورة ولونا من المعمار قوامه الضوء»، ثم اقتحمت نظريات أخري في الثلاثينات والأربعينات في أوروبا تنادي بالاتجاه الواقعي وهي تستند إلي ما تقوله بدخول الصوت وأنه منح الفيلم السينمائي «قوة جديدة وأضاف إليه عنصرا من عناصر الواقع». وربما كان هذا بسبب جدة دخول الصوت عالم السينما وأن علي الشخصيات التي تظهر في الفيلم أن تنطلق، ولكن ليته لم يخترع الصوت وتطور التعبير الصامت بحيث أصبح أكثر اقناعا وقوة. تعدد المذاهب حتي المجددين من السينمائيين لم يحاولوا التجديد من داخل الفن السينمائي نفسه ولكن حاولوا أن يفرضوا عليه تأثرها بالفنون الأخري، فنجد هناك من حاول اقحام الفن المسرحي وهناك من حاول نتيجة عشقه لفن الأوبرا أن يضفي علي الفيلم من معالم هذا الفن وهناك من حاول أن يفرض المذهب الواقعي، يقول روي آدمز: «ولقد كانت قدرة المخرج علي التجديد في الأسلوب السينمائي أو الابتكار فيه محددة بإطار من الفن، هو في جوهره فن واعي النزعة رغم ما ينطوي عليه من تناقضات تري ذلك جليا في مجموعة من الأفلام تبدأ بفيلم «الكلبة» عام 1931، وتمر بفيلم «الأرض تميد» عام 1947 وتنتهي بفيلم «أومبرتو» عام 1951، ففي هذه المجموعة من الأفلام يتبدي أسلوب رينوار المسرحي كما تبرز رؤية فيسكونتي الأوبرالية، وفيها أيضا تتكشف حيوية نابولي عند دي سيكا». فالتجديد في الفن هو أن يأخذ الفنان بيد التراث الفني القديم إلي الأمام دون أن ينسلخ عنه بل إنه يضيف إليه أو كما قال آدرينهارت: «إنه الفن هو الذي يعني بالعمليات والوسائل التي تخصه وتقتصر عليه وحده كما يعني بالهوية والتميز اللذين يميزانه عن سائر الفنون»، وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة لفن الرواية وفن الشعر ويجب أن يحدث في فن السينما ولكن السؤال الذي نطرحه أخيرا وقد يعلم الكثيرون جوابه: هل هذا يحدث في الفن السينمائي؟