ماتت في ظروف غريبة، الممثلة الفرنسية ماري فرانس بيزيه تاركة وراءها امرأة مثيرة للجدل، فهي كاتبة سيناريو ومنتجة وممثلة ارتبط تاريخها بأهم الحركات والمدارس الفنية في فرنسا والعالم، بالإضافة إلي أنها روائية لفتت إليها الأنظار. في منتصف الثمانينات من القرن العشرين عرفت دور النشر الفرنسية ظاهرة جديدة تقلصت فيما بعد، حيث اتجه الكثيرون من الممثلين والمطربين إلي تأليف روايات وعلي رأسهم سيمون سينيوريه وجولييت جريكو ووايف سيمون وريشار بورنجيه، إلا أن أغلبهم لم يكتب روايته الثانية، وظلت روايته الأولي بمثابة بيضة الديك عدا ماري فرانس بيزيه التي كانت في قمة تألقها في تلك السنوات، حيث إنها كتبت فيما بعد أكثر من رواية، فأكدت علي مواهبها المتعددة. أي أن ماري فرانس بيزيه لم يكن التأليف الروائي عندها بمثابة أعراض عارضة، قامت بها امرأة جميلة علي سبيل الاستعراض، والغريب أن هذه الفترة شهدت أيضا اتجاه بعض الكاتبات للإخراج السينمائي مثلما فعلت فرانسواز ساجان وسيمون دي بو فوار. أهمية تجربة الراحلة ماري فرانس بيزيه «1946 2011» أنها كاتبة تجريبية قدمت الكثير من أفلام الطليعة التجريبية كمؤلفة سيناريو، لكن الطريف أن الروايات التي كتبتها كانت أقرب إلي التقليدية، ولم يكن هذا غريبا علي امرأة درست الفلسفة في مقتبل حياتها، ثم تخصصت في العلوم السياسية أثناء عملها في السينما مع مكتشفها فرانسوا تريفو. الرواية الأولي التي نشرتها الممثلة تحمل اسم «حقل السيد المحافظ» منشورة عام 1985 وهي من روايات الجلد، أي أنها خرجت من مسام كاتبتها، تعبر عن مشاعر امرأة تجاه تجربة عاشتها، وهذه السمة موجودة بصورة واضحة في الروايات المعاصرة في كل أنحاء العالم، حيث تدور الرواية في مدينة صغيرة داخل إحدي المستعمرات الفرنسية السابقة المسماة بكالدونيا، حيث تحترق الذكريات والشباب المرصع بأشعة الشمس، وصديقتاها اللتان ارتبطت بهما «تيا» و«ايزابيل» حيث تجمع الغربة بين الفتيات الثلاث داخل المستعمرات في الهند الصينية «فيتنام الآن» فالآباء الثلاثة يعملون في وظائف مرموقة في المستعمرات الفرنسية، وهناك مشاكل يعانيها هؤلاء المستعمرون علي الأرض الغريبة التي يعيشون فوقها، ومشاكل أخري مع بناتهم، لقد أصبحت الفتيات بمثابة فواكه خضراء وسوف تنضج عم قريب، وسوف تتغير الأمور عندما يكبرن، ففي سن الخامسة عشرة تتجه الصديقتان إلي البحث عن متع الحياة، أما ماري فإنها تذهب إلي المكتبة، تقرأ وتمسك قلماً، تعرف أنها ستغدو يوما امرأة حقيقية، ليست أنثي تثير خيال الرجال، ولكن عقل يحرك العالم من حوله، يقدم أفضل أحاسيسه ومشاعره أو كما قال أحد الذين عملوا معها، لا يمكنك سوي أن تحترمها.. وفي الرواية تهتم الكاتبة بمرحلة التحول عند الصبية ماري، فمن حولها مجتمع يفكر بمنظور آخر.. علي الفرنسيين أن يأخذوا من الهند الصينية كل ما يسبب لهم المتعة.. السيد المحافظ الذي جاء يوما لزيارتهم وأقاموا له حفلا لم يكن يستحق كل هذه الإبهة. الطفلة الصغيرة أشبه ببطلات الكاتبة كوليت، محبوسة داخل جلدها، وتسعي إلي الانطلاق، وبينما الحرية أمامها، إلا أنها لا تريد اختراق الحاجز حتي لا تسقط، ولذا فهي تمارس حريتها فوق أوراق تجسد فيها أحلامها، تذهب إلي الحدائق وتجمع الورد كي تكتب علي بتلاتها، وبينما تري الفتيات في مثل سنها يضعن الكحل في الأعين، تنظر هي إلي المرآة لتتأكد أن عينيها ليستا في حاجة إلي رموش إضافية. والمؤلفة لا تتذكر صباها بعقلية عام 1984 حين كتبت الرواية، ولكنها تتذكرها بعقلية فتاة في العشرينات، في السن نفسها الذي بدأت فيها العمل في السينما، تتحدث أنها لم تكن يروق لها تلك الأفكار الاستعمارية للموظفين الذين ذهبوا إلي المستعمرات ليصبحوا كبارا، فلا هم لهم سوي إرضاء السيد المحافظ، عليهم امتطاء الأحصنة والصعود إلي المرتفعات، والنظر في شموخ إلي القري من حولهم، ويحسون أن هذه الأرض ملك لهم، هذه النظرة المتخلفة المتعجرفة كانت تفصلها عن أبيها الذي تحول إلي رجل آخر عندما عاد إلي كاليدونيا الجديدة، مدينته الأصلية وأصبح شخصا جديدا يختلف عن الاستعماري المتحجر الفكر. الكاتبة هنا حاولت إحياء صفحات الماضي التي انصرمت، والتي ما كان لها أن تعود إلي الحياة إلا عندما قدمتها في صفحات كتاب بصياغة روائية. وقد أثارت هذه التجربة الصحافة الأدبية في تلك السنة التي نشرت فيها الرواية، وقد قدمت ماري فرانس بيزيه الرواية، بعد أن أصابتها شهرة عالمية لقيامها ببطولة الفيلم الأمريكي، هذا الجانب الآخر من منتصف الليل. وإذا كانت الممثلات الأخريات اللاتي نشرن رواياتهن الوحيدة قد عدن إلي التمثيل، أو إلي الشيخوخة، فإن ماري فرانس بيزيه كانت آنذاك في التاسعة والثلاثين، وقد أرادت أن تطرق علي الحديد وهو ساخن، أي أنها وسط الأضواء عليها كأديبة، بدأت في تأليف روايتها الثانية «لم أحب سواك» التي نشرتها في أواخر عام 1986، لتؤكد من جديد أنها «كاتبة» قبل أن تكون ممثلة، وأن روايتها الأولي لم تكن «زلة» قلم موهوب، خاصة أن هذه الرواية الثانية لم تكن حول سيرتها الذاتية، ولم تدر أحداثها في كالدونيا الجديدة، بل إن الموضوع والمكان قد كانا مختلفين تماما. تساءلت الكاتبة هنا في مقدمة روايتها الثانية: لماذا نكتب؟ لا أعرف، ربما من الخوف، الخوف أن تنصرم منا الأيام، نحن لا نعرف قط كيف مرت بنا الأشياء، هذه الرواية ظلت ساكنة بداخلي طوال عامين كنت أتساءل دومًا إذا كنت ساستمر في كتابتها حتي نهايتها، الان لقد انتهيت منها بالكاد، وأشعر بالثقة في نفسي ككاتبة، أعرف أن كل سلاحي ككاتبة موجود هنا، يمكنني أن أترك نفسي تستغرق في متعة الكلمات، وهذا شيء أحبه. روايتها الثانية هي قصة حقيقية حول أشخاص حقيقيين عرفتهم في مرحلة أخري من حياتها. هناك امرأتان، الأولي لورا، مصورة فوتوجرافية، أما الثانية فهي الكاتبة المعروفة ميريام وهي امرأة نشطة في مجال حقوق الإنسان، ولورا معجبة كثيرا بالكاتبة، وتحب فيها المناضلة، تري أن هناك تراشقا وتلاحما بين الكلمة والصورة، لقد صارت لورا مصورة متميزة بفضل ما تكتب ميريام.. من كلمات تهدف إلي تحقيق أفكارها في مجال حقوق الإنسان، لذا فالاثنتان تنتقلان إلي بلاد عديدة لا تعبأ بحقوق الإنسان. ذات يوم في إحدي الصور تقرر ميريام الخروج من جعبة صديقتها، وتقرر أن تكون حرة، فالإعجاب بالمناضلة هو نوع من القيد، وتحدث قطيعة بين المرأتين، وتختفي المصورة في ظروف غامضة، وتحس لورا أنها غير قادرة علي العيش بدون صديقتها، لذا تقرر أن تأخذ هيئة ميريام، وأن تقوم بدورها فتقيم في منزل صديقتها وتنام في سرير زوجها، وتقوم بدور الأم لابنتها، وتسافر الكاتبة لورا إلي بلاد يحكمها ديكتاتور، وهناك تلتقي مرة أخري صديقتها التي اختفت. قد أصبحت شبحًا يختلف كثيرا عم كانت عليه ميريام في الماضي، الآن لقد صارت حارسا في متحف الديكتاتور الذي ادعي أنه جاء من خلال ثورة، صارت ميريام مؤمنة برومانسية الصورة، وتصبح صورة مثل مئات الصور التي سبق أن التقطتها، لقد صارت شيئا ثابتا يدل علي الماضي. هنا تفهمت الكاتبة أن الماضي لن يعود، وأن عليها أن تعود إلي بيت صديقتها، وأن فارس حياتها بديل عنها. توقفت ماري فرانس بيزيه عن الكتابة بعد نشر هذه الرواية وبدت كأنها قد قالت كلمتها، فلم نعرف أنها عادت للعمل مجددا، وعاشت حياة بعيدة عن الأضواء، جعلت بعض المحليين يتصورون أن رتابة الحياة قد دفعت بها إلي الانتحار لكن حتي الآن لا تزال الأخبار غير مؤكدة حول سبب موتها.