يشهد المسرح المصري حاليا تجربة شابة تفرض التوقف الجاد أمامها لما تثيره من تساؤلات حول ذلك الوعي الصاخب بمعني الفن، ولغة الدهشة، وحرارة المعرفة، وشراسة الجمال، تلك الرؤي التي تضعنا في مواجهة ساخنة مع وجود مستحيل، استلب الروح والمعني وحرارة الجسد، وكان اندفاع تيارات الجدل هو لحظة فارقة في ليلة غامضة، شهدت ميلاد الثورة وأحلام الحرية والتغيير. هذه التجربة من إنتاج مسرح الطليعة، وهي تأتي كلقاء مثير بين سحر خوزيه تريانا المؤلف الكوبي الشهير، وطموح تامر كرم، المخرج المصري الجميل، الذي بعث حالة مسرحية مغايرة تحمل بصمات متفردة ولغة متوترة، وشاعرية عنيدة واثقة، اشتبك بها مع وقائع حية وحشية تمزق الأعماق وتنتهك نبض الجسد، ورغم أن الصراع الأساسي يدور حول جريمة قتل، إلا أن جماليات الطرح وايقاعات الحالة المسرحية لا تضعنا في مواجهة مباشرة مع جريمة أخلاقية، لكنها تمتد برشاقة لتدين عذابات القهر والتسلط، وتحاكم هؤلاء الذين صلبوا الإنسان علي جدران الغياب والاستلاب. اتجاه حديث يكشف سيناريو الإعداد الذي كتبه تامر كرم عن اتجاه مسرحي حديث يرتبط نقديا وجماليا بفكرة سقوط المرجعيات وانهيار المركز، وذلك بعد ثورة المسرح الحديث علي سلطة الواقع والمحاكاة والثابت والمطلق، واختراقه لتناقضات الأعماق، وخصوصية الذات، وايقاعات الحس والجسد والمشاعر، لنصبح أمام كتابة يميزها التنوع والثراء، تتكسر فيها مفاهيم التتابع الزمني للحدوتة والحوار والأحداث، فتغيب الأطر والمرجعيات، وينتفي مبدأ الوحدة العضوية، لنلمس ايقاع جماليات شرسة، يبعثها تفجير المعاني الأحادية للمشهد، وتحويلها إلي موجات من التكوينات الجدلية المشاغبة بصريا وفكريا ودلاليا، ونصبح أمام فيض من المعاني والأفكار التي تتراكم بأسلوب جدلي لاهث يعلن العصيان علي هيمنة السكون ويتجه نحو التفاعل العقلي، متجاوزا مفاهيم الايهام والتوحد، حيث تتمزق ملامح الحس المأساوي، وتتفجر الرؤي الضدية النقيضة، المشحونة بلغة المفارقة والسخرية والجروتسك. كانت مسرحية ليلة القتلة مختلفة في طرح تساؤلاتها، وبارعة في الأسلوب الذي وضعت به الشخصيات في مواجهة مع الاختيار الصعب، حيث القيم الإنسانية هشة وضعيفة، والوجود أقوي من البشر، والعالم حولنا غابت عنه ايقاعات الإحساس بالمأساة، وأصبح ذلك الغياب مفجرا لشراسة الكاريكاتير والجروتسك بكل ما يحمله من خلل وتشويه وتناقضات مريرة بين قيم نظام كائن، ومعايير نظام غائب يدفع بالإنسان إلي السقوط في هاوية عذاب وحشي. تدور الأحداث في إطار تشكيل سينوغرافي شديد البساطة والدلالة، حيث البيت المسكون بالصراعات النارية المتوقدة، الضوء الأحمر يعانق القرار الدموي ويشاغب تناقضات الأعماق، الأشياء المبعثرة تحاور الموتيفات، والكراسي المقلوبة تختلط بأدوات المطبخ والفازات، والموسيقي الساحرة تأخذنا إلي دموع الأحزان، بينما يشدنا الضوء المبهر إلي العمق لنري ظهر الشاب «لالو»، بملابسه السوداء وهو يحمل امرأة مقتولة مغطاة بملاءة بيضاء، وتنطلق صرخاته العالية ليطلب اغلاق الأبواب، فقد قتلهما معا، قتل ماما وبابا، وحفر لها حفرة عميقة. تمتد ايقاعات الصدمة المدهشة وتموج القاعة بالضوء ويلتقي بأختيه الجميلتين، تدعوه كوكا إلي التخلي عن لعب العيال، وتأخذنا كوريوجرافيا الحركة إلي خطوط لاهثة تبعث تقاطعا بين رغبة الفتي في تجاوز كل القيود، ودعوة أخته للنظام والترتيب، واستعادة الرونق وثبات الأماكن والأشياء. تأتي البدايات الأولي للأحداث لتفجر وعيا جديدا مغايرا، مسكونا بثورة عارمة، تبعتها الدلالة الرمزية والفكرية لفلسفة قتل الأم والأب، تلك الدلالة التي تشتبك علي المستوي السياسي مع صيغ الاستبداد المطلق لمفاهيم المجتمع الأبوي المتسلط، المحكوم بآليات الفالوس واللوجوس والتركيبات الهرمية، فنصبح أمام طرح جمالي مثير لتغيير راديكالي، يقتلع جذور الوهم ويتجاوز عذابات الكائن، ليتجه بقوة نحو الحرية والبحث عن المسار وامتلاك الكيان، وهكذا.. يتضح أن المسرحية تمتلك شرعية الانتماء للفن الإنساني الجميل، الذي يقبل الجدل والتفاعل مع قضايا المجتمع ومراوغات السياسة، واتجاهات التاريخ، ويطرح رؤاه الثائرة عبر المفارقات والتناقضات، وتظل البساطة الظاهرية المدهشة هي الحاضرة بقوة في قلب الحالة الفنية التي تدور حول تفاصيل الحياة اليومية لأسرة عادية، مكونة من أم وأب وابن شاب باحث عن الإرادة والذات والمعني، وابنة تكاد تكون قديسة، تهوي الاستقرار ولا ندرك أبعاد استلابها، وتدور في آفق سلطة النظام، أما الأخت الصغري فهي رومانسية حالمة مسكونة بعشق الضوء والأحلام والقمر، واندفاعات الحب والشمس والمطر، وعندما نتأمل طبيعة هذه العلاقات ندرك ببساطة أننا أمام سلطة قوية حاكمة، وشعب يعيش صراعات، فالبعض يريد تغيير النظام ورموزه وجذوره، والبعض الآخر يدافع عنه ولا يريد التغيير، والبعض الثالث يتبني رؤية ليبرالية تتجه نحو الإصلاح وإعادة التشكيل. اتخذ منظور الإخراج مسارا متدفقا يشتبك بقوة مع ايقاعات زمننا المشحون بالتوترات والتغييرات، ويتضافر الحوار الرشيق مع خطوط الحركة ليمتزج تيار الشعور بتقاطعات الوعي واندفاعات الأعماق، وتصبح لعبة الفن المدهشة هي المسار إلي تقنيات تبادل الأدوار، وامكانات الدخول السريع إلي أعماق شخصية ما، والخروج الناعم إلي حالة شعورية مغايرة، ويذكر أن فريق العمل الفعلي هم الأبناء الثلاثة، الذين لعبوا كل أدوار الشخصيات الدرامية في المسرحية. في هذا الإطار كان العنكبوت الساكن في الزوايا والأركان كاشفا عن الخوف وعن هشاشة واهتراء النظام، لذلك قال الفتي لأخته أن عليها أن تلقي بنفسها في الماء لتغسل الخوف والتناقضات، فالآلهة تصمت، والشعب يزأر، والرضوخ أصبح مستحيلا، ويأتي منظور الإخراج ليتجه إلي العزف الشرس علي أوتارالجروتسك ويبعث نقدا عارما لكلاسيكية الفن، وجمود السياسة، وجموح الطغيان، وعبر موجات الضوء الدرامي والموسيقي الراقية نشتبك مع رؤي الفتي «لالو» وهو يغير النظام، يبعثر الكراسي والزهريات، يطردالضيوف، ويروي عن عذابات اغترابه وعبثية وجوده العقيم، يدين إيمانه بأمه وأبيه، يعترض علي الأمان الفاشل، ويتمرد علي دور الطاغية الذي يلعبه ليمحو وجود أختيه ويحولهما إلي ظلال، لكنه الآن سيبحث عن حقه في الحياة، في التجربة والفشل، وفي الوعي والمعرفة وامتلاك الذات. تذوب الخطوط الفاصلة بين الواقع والخيال، ويمتزج الوعي باللاوعي وتنطلق ايقاعات الميتاثياتر، وتتبلور التفاصيل الكاشفة عن تسلط الأم والأب وعن وقائع السقوط والعبث المجنون، وتظل كوكا الأخت القديسة مسكونة برغبتها في الرضوخ والدفاع عن الكائن، بينما تتساءل الأخت الصغري عن الحب والحرية والنجوم والأمطار، ويأتي ذلك في إطار حالة مسرحية منسوجة من طفولة مبهرة ومن خطابات خطيرة ساخنة، تكشف عن علاقات السادماسوشيزم، وعن آليات القهر وصراعات التسلط وحتمية الحرية. تقاطعات تأخذنا تقاطعات الضوء والموسيقي والحوار إلي تيار من الكشف الساخر لتفاصيل رؤية الأبناء لأسرار علاقات الآباء، وعبر توظيف ايقاعات المونتاج والقطع السينمائي السريع، نعود إلي الماضي ونندفع إلي الحاضر، ونلمس حالة الايقاع المدهش التي تواجهنا بتساؤلات المستقبل، وحين تغني الأختان للفراشات والسماء والحياة، نري الفتي في الخلف وهو يمسك بالسكين، معلنا أنهم سيغسلون الدم، ويملأون البيت بالورود، ويحفرون حفرة عميقة للغاية، وينتظرون الغد، وفي هذا الإطار يتضافر الضوء الأحمر مع العزف المدهش وتندفع كوكا تمنع أخاها من الخروج، وتخبره أنه مذنب قاتل يجب أن يموت. عبر جماليات الأداء التمثيلي، وبلاغة التكثيف الدرامي، ولغة الايقاع السريع المتصاعد، تلعب الأختان أدوار العسكر، تستخدمان شوارب وقبعات، ونعيش فرضية وجود البوليس للتحقيق في جريمة القتل، حيث الاتهام والاعتراف والعثور علي الفأس والجاروف، وعلي جثتين وفوقهما رمال، وفي سياق متصل يأخذنا الضوء إلي يسار المسرح، حيث قسم الشرطة والأسئلة والتحقيقات والمتهم الذي يرفض التوقيع لاعتقاده أن كل ما يحدث هو لعبة، ثم يعود لذاته ويعترف أنه مذنب، وتتحول قاعة العرض إلي حالة من الوهج والبريق والإبداع الأخاذ، الذي يختصر الواقع السياسي في الوطن العربي، ويشتبك ببساطة مع ليالي القتلة وانهار الدماء وضحايا التسلط، فنري كوكا وهي تلعب دور المحامي علي اليسار، بينما الأخت الصغري في عمق اليمين تلعب دور العقيد القذافي، وتتقاطع الحوارات وتتساقط الأقنعة، ويندفع تيار الزيف ومراوغات المعاني، وتسقط قيم العدالة والحرية والدماء والشعوب والزعماء، وفي هذا السياق تتفتح المسارات أمام الفتي المتهم، ويتساءل.. هل يمكن أن يقتل ابن أبويه؟ وتأتي الإجابة عبر ادراكه الواضح لحياته ورغباته وإرادته، ومرارة الإحساس بأنه مراقب، مطارد، مختنق بالأوامر والممنوعات، لم يتركا له وقتا للراحة، ولم يحاولا أبدا أن يفهما، وذات يوم جاءته فكرةبسيطة سيطرت عليه ودفعته إلي اليقين أنه إذا كان يريد أن يحيا فلا بد أن يقتل أهله، ورغم محاولاته لطرد الفكرة والهروب منها، إلا أنها تحولت إلي همس شيطاني مخيف، دفعه إلي حافة الهاوية، وظلت انفجاراته تدفعه إلي العبث بالأشياء وإعادةتنظيم البيت كما يحلو له. تمتد الدلالات، وتتفجر الرؤي والايقاعات، وتصبح الحركة والضوء والغناء هي نوع من الجدل والقرارات والبراءة والاتهامات، ونمتلك حركة الزمن ليذوب المستحيل في ثراء الخيال، وتأتي الأم والأب من العالم البعيد، لنعيش تفاصيل حياة مضت تستحق أن يصدر عليها حكما بالاعدام، وتظل ايقاعات الجمال الوحشي تكشف عن بشاعة الحقيقة وقبح التسلط، وعنف القهر وضرورة العصيان. تأتي النهاية الدالة الموحية، المنسوجة من البريق والثورة والوهج، وتأخذنا خطوط الحركة اللاهثة إلي تقاطعات الدوائر والخطوط الصاعدة، وينطلق الضوء الواضح ليشتبك مع جماليات الأداء، واختلاف الرؤي وتتصاعد حرارة الوعي، لتردد الأختان. كان لابد من وجود بيت جديد، ثم تموج القاعة بالدقات، ويتغير وضع الكراسي، ويردد الفتي وأختاه، نستطيع أن نجلس بشكل أفضل وأسرع، ويأتي العزف الساحر الجميل علي الكمنجة والتشيللو ليرسم أبعاد عالم هارموني أثير مشحون بالثورة والوعي وحرارة الإنسان وتتحول صورة المشهد المسرحي إلي كادر ثابت مسكون بالوعود والعهود والأشواق والحنين. هكذا تنتهي التجربة التي أثارت الجدل والتساؤلات، والتي شارك فيها فريق عمل يستحق التقدير والاعجاب، فكان النجم الفنان «محمد يونس» هو طاقة من الوهج والوعي والرشاقة والجمال، جاء أداؤه مدهشا وكاشفا عن موهبة خصبة وحضور آخاذ، أما الفنانة الشابة «جاسي» فقد لعبت دورا مركبا متعدد الأبعاد، يمثل إضافة فعلية لمسارها المسرحي، وقد كانت لافتة للأنظار ومشعة بالكاريزما والبريق، ويذكر أن الجميلة الواعدة «سمر علام» هي مشروع نجمة قادمة، تميزها الحيوية والدهشة والابهار. كان الديكور الانسيابي الدال للفنان صبحي عبدالجواد، والموسيقي المتميزة لأحمد عبدالمعبود.