كان المشهد في التحرير يبدو اسطوريا والاكتشاف لا يزال مدهشا ومثيرا فقد تمزقت الأقنعة واتخذ الناس قرارا بامتلاك المستحيل، وستظل إيقاعات الزمن تموج بالبحث عن معني الوطن.. وعن بريق الروح واندفاعات الوهج. في هذا السياق يشهد المسرح المصري حاليا ميلادا خصبا للعديد من التجارب الفنية، التي تخترق قيود الصمت، وتنطلق إلي وعي ثائر لتبوح وتروي عن الميدان .. تحكي عن 25 يناير .. تشتبك مع روح الثورة وتلون أحلامها، لتستدعي اللحظات، وتوثق التفاصيل وتعانق الدفء والإرادة والميلاد. إذا كنا نعيش الآن حالة استثنائية من الانفعالات والمشاعر، حيث القلق والتوتر.. القراءات والمشاهدات، والتوقعات الجدلية لمشاهد السياسة وتوجهات الاقتصاد، واندفاعات التاريخ والجغرافيا.. فإن الواقع المسرحي يشهد أيضا وجودا لافتا لتيارات مغايرة تتباعد عن الرؤي التقليدية والقوالب النمطية، وتتخذ مسارات جديدة قد تتجاوز الاتجاهات الفنية السائدة، لتصبح مسكونة بقانونها الخاص، وزمنها المتوتر، وإطارها الانفعالي المتدفق، ومع ذلك تظل ابنة شرعية للفن الجميل، الذي يأتي كرد فعل لتغيرات جذرية ثائرة لا تتكرر كثيرا في حياتنا. في هذا السياق يقدم مسرح الطليعة عرض تذكرة للتحرير، الذي يأتي كنتاج لورشة ارتجالية أشرف عليها «يوسف مسلم»، وتناولها المخرج الفنان «سامح بسيوني» ليبعث بها حالة مسرحية مدهشة تموج بالصدق والحرارة والشفافية، تشاغب الروح وتعانق القلب، تثير الوعي والجدل وتطرح التساؤلات المدهشة حول المسار والمصير ومستقبل الأيام القادمة ويذكر أن الصياغة الجمالية للتجربة تمنحها قابلية هائلة لاستيعاد وطرح الاحداث والمتغيرات اليومية التي تشهدها الثورة لنصبح أمام قراءة جمالية في كتاب عشق الوطن، تفسر الأبعاد وتطرح الرؤي وتظل محتفظة بمرجعية الإصرار علي أن مصر قبل 25 يناير تختلف عن مصر بعد 25 يناير. تأتي البداية الساخنة من الساحة الخارجية للمسرح، حيث الجمهور المأخوذ بالأصوات الهادرة، وجموع الشباب والشابات وهم يحملون اللافتات، يرددون الشعارات، يطالبون بالرحيل ويبحثون عن مسار للضوء وسط ظلام مخيف استلب الروح، ودمر إيقاعات الجسد. تأخذنا جماليات التناقض إلي حالة من الصمت والهدوء، حيث يجلس فريق العمل الضخم علي درجات السلم الخارجي، خطوط الحركة تشتبك مع تيار المشاعر ولغة الجسد، لتثير موجات من الإدانة والتساؤلات الكاشفة، اللافتات المرفوعة والأذرع المشدودة، والعيون الهامسة المفتوحة تبعث رسائل الإصرار والغضب، ويظل الصمت يعزف علي أوتار الجموع والصخب، وفي سياق تلك اللحظات المتوترة ، التي تأخذ المتلقي إلي أعماق حالة مغايرة ، يعيش فيها أصفي حالات الصدق والتفاعل والشفافية يظهر بين الجمهور شخص يحمل الكاميرا، يلتقي بالناس ليسأل: شايف مصر إزاي بعد الثورة؟ وتأتي الإجابات ونتصور أنه تسجيل لقناة تليفزيونية، وننسي الأمر سريعا لنعود إلي فريق العمل وإلي تيار الوعي بأحلام الحرية والعدالة والديمقراطية . تيارات الصمت يتجه الممثلون والجمهور إلي المسرح، الظلام يشاغبنا ويشاغبهم نراهم يجلسون علي الخشبة يرفعون اللافتات.. تيارات الصمت الثائر لا تزال تسكن الأعماق، والشاشة الفضية الضخمة في العمق تضيء، لتفجر المفاجأة الساخنة ، حيث المواجهة الجدلية الإبداعية المدهشة ، عندما نري التسجيلات التي دارت بالخارج ، ليصبح المتلقي أمام نفسه وإجابته وتصوراته التي انطلقت بحرارة في لحظة نادرة تشكلت عبر الوعي بجماليات الدهشة ولغة الإبهار، وخصوصية التجديد والابتكار، والإبحار مع إيقاعات المغامرة. من المؤكد أن هذه الحالة تكشف بوضوح عن ثراء أسلوب المخرج سامح بسيوني، ورؤاه الخصبة واندفاعه إلي امتلاك لحظات نادرة ، ووعيه بحرارة التيارات النفسية للمتلقي، وتوظيفه الساحر لصدامات المشاعر، وذكائه الحاد في العزف علي أوتار الأحلام وعذابات القلق وطبيعة التوقعات. تتخذ الحالة المسرحية مسارها عبر تشكيل سينوغرافي شديد البساطة، عميق الدلالة، حيث علم مصر في العمق وعلي بانوهات اليمين واليسار، يبعث حالة من الانتماء واليقين والإيمان بالثورة، التجسيد الرمزي لمعاني القوة والإصرار يتبلور عبر الرسم البسيط ليدين تلتقيان، هارمونية الجمال تمتد مع تقاطعات الأحمر والأسود والأبيض، تلك الألوان التي ربطت الديكور والملابس بمنظومة الضوء، وتظل رؤي الفنان الجميل «فادي فوكيه» تكشف عن ثراء موهبته وجمالياته الثائرة التي تشتبك بحرارة مع تيار الهتافات ودلالة الشعارات، ويأتي الغناء الساحر والموسيقي الحية التي تعزفها الفرقة الجالسة علي يسار الصالة لتبعث حالة من الشجن والتوحد مع القيم والمثاليات، تلك الحالة التي تتقاطع مع مشاغبات ياسمين ومصطفي وحوارهما المتوتر الذي يدور في مقدمة الصالة، أمام خشبة المسرح التي تثير في أعماقهما تناقضات ثائرة، حيث نعلم أنهما عضوان بهذه الفرقة المسرحية، لكن المخرج اتخذ قرارا بمنعهما من المشاركة لذلك تندفع الشابة المشاغبة العنيدة إلي الهتاف بسقوط المخرج الديكتاتور، وتدعو فتاها المتردد أن يشاركها في تفجير ثورة ضد العرض. أبعاد الشخصية في هذا السياق السريع تأتي مساعدة المخرج ليكشف حوارها عن أبعاد وأعماق شخصية مصطفي المأخوذ بسحر الفتاة، المنقاد إليها بلا وعي ، والباحث عن كيان ورجولة واحترام، تستلبهم ياسمين دائما، وهكذا تظل الحالة المتدفقة في اشتباك ساخن مع وقائع لحظتنا الحالية حيث الخلط العشوائي المخيف بين الحرية والديمقراطية ، والاندفاع إلي تدمير منظومة القيم، والاعتصامات المتكررة، ومحاولة المتاجرة بالثورة لتغييب المعني والدلالة والهدف. وتظل السيدة الجميلة الناضجة تذكر الممثلة الشابة، بأن عليها أن تحترم المخرج وتحترم خشبة المسرح ، وتذكرها بالقانون الذي سيصدر لتجريم بعض الاعتصامات، لذلك تضطر الفتاة للرضوخ وتجلس مع زميلها ليشاهدا العرض. في هذا الإطار يسقط الحائط الرابع وتتردد أصداء بيراندللو، ورؤي بريخت، ونصبح أمام لعبة داخل اللعبة ، حيث تتمزق الأقنعة وتتفجر التناقضات وتمتد التساؤلات، وتنطلق وقائع الوعي وحرارة الإدراك، وحين تعود الهتافات ينطلق الضوء الواضح ويغني فريق العمل «بلادي .. بلادي» .. وتنتقل الحالة إلي الجمهور ليغني الجميع لمصر ويحلموا سويا بالعدالة والحق والخير والجمال ، وتمتد إيقاعات الجدل الثائر بين وقائع الظلم والفساد، والثورة الكبري التي أعلنت التمرد والعصيان لتبحث عن الوجود وعن احترام إنسانية الإنسان. اتخذت خطوط التشكيل مسارا ذهبيا وتحولت خشبة المسرح إلي تظاهرة من الجمال حيث تتقاطع الحركة مع السكون ، والصمت مع الصخب وتبدأ الشخصيات في التعبير عن أعماقها وطرح مبرراتها في الانضمام إلي ميدان التحرير، وتتصاعد الأحداث في رشاقة ، وتكشف لغة الإخراج عن وعي بمفاهيم التكثيف والتدفق والحرارة، حيث يعيش المتلقي أبعاد مظاهرة ثائرة في الصالة مسكونة بالهتافات الرافضة للرئيس السابق ثم يأخذنا هذا الصخب إلي هدوء عقلاني جميل نتفاعل فيه مع الشاعر الذي يدور حول المتظاهرين الجالسين مؤكدا، أنهم يعرفون جيدا ما يريدون يبحثون عن الأبعاد الصحيحة.. عن حروف هجاء جديدة عن مصانع لا تلوث الهواء، وعن الزلزال المهيب الذي يغير وجه الحياة. رؤي درامية اتجه المخرج إلي توظيف المونولوجات القصيرة المشحونة بالرؤي الدرامية ليبعث حالة من التواصل والتفاعل مع عذابات الشخصيات، فنتعرف علي الفتاة التي عرفت معني الحياة يوم 25 يناير حين شاركت في المظاهرة بالصدفة، ولامست جماليات هذا العالم الجديد، حين خرجت من أسر الأنثي، لتدخل الإطار الإنساني مع شباب ورجال لم ينظروا إليها كفريسة ولم يطمعوا في جزء من جسدها وعبر التوظيف المتميز للضوء والموسيقي الناعمة ننتقل إلي ذلك الشاب الذي ظل يحلم بالسفر للخارج كي يحصل علي ثمن الشقة والزواج، لكن الخوف من الإهانة منعه، فالمصري ليس له ثمن في بلاده، أما خريج السياسة والاقتصاد، الذي انهار حلمه في السلك الدبلوماسي لأن أباه فلاح وأمه ست طيبة، فقد اندفع إلي التحرير ليشعر بالعدالة ، فهناك نام الجميع علي الأرض بلا فروق، ولم يجمعهم إلا شيء واحد هو حب مصر . تأتي اللحظة الفاصلة التي شهدت عذابات الميلاد الجديد، حيث يتضافر الضوء الأحمر مع الحركة اللاهثة والمشاعر المتوترة في تجسيد المعركة الحاسمة بين الرصاص والقنابل والغازات وأبرياء يدافعون عن الحياة بالحجارة وعبر جدل الموت والحياة، وتقاطعات الموسيقي والشعر تتبلور اللحظة الملونة بالدماء الحمراء والاكفان البيضاء، والأحزان السوداء، ونتوقف طويلا أمام جماليات الاشتباك المسرحي مع اعتداءات القناصة ودموع عسكري الدبابة ، وتظل أحداث التاريخ وموجات الفن في بحث مستمر عن الحقيقة المسكونة بأحلام شعب مصر. تميزت لغة الإخراج بهارمونية التضافر بين المنظور الوثائقي والتيار الدرامي، وحين ظهرت صورة الرئيس السابق علي شاشة العمق، شهدت خشبة المسرح ثورة عارمة من التساؤلات عن ثلاثين عاما مضت كانت مسكونة بالفساد الذي استلب روح الناس، وحولهم إلي مواطنين مؤقتين يموتون في العبارات ويحترقون في القطارات وتدخل عليهم الخيول والجمال في مظاهرات ميدان التحرير، وعبر امتداد الوثائق التي ستظل شاهدة علي تاريخ مصر نشاهد الفريق عمر سليمان، وهو يعلن تنحي الرئيس ليأتي رد الفعل عبر تشكيلات الضوء والجسد والصوت وجماليات امتلاك الإرادة والذات والكيان، وتمتد موجات الفرح التي تعانق الدموع والأحزان، ونتفتح المسارات أمام الشخصيات التي تبوح بانتفاضات النبض والأعماق وتتعذب مع الفتاة التي مات حبيبها علي صدرها، غارقا في دمه، وكانت آخر همساتها له - أنها الآن فهمت في السياسة، ورغم ذلك لا تزال تنتظر الأمل، وفي السياق نفسه نعايش مأساة الشهيد «أحمد بسيوني» التي تبلورت عبر تقاطعات السرد وجماليات التجسيد، حيث تروي أمه عن حياته، عن عشقه للفن، دخوله عالم بيكاسو وفان جوخ، وسيف وانلي وراغب عياد، وتؤكد أنه فارس من فرسان الحياة والحب والحرية، وعبر الربط بين يوم زواجه ويوم استشهاده ، تتفجر مفارقات العبث المجنون، وتتذكر يوم 28 يناير عندما طلبت منه هي وزوجته، ألا ينزل الميدان بينما أصر طفله الصغير آدم أن يذهب معه .. فقال له بكره لما تكبر .. وسحب الكاميرا ليصور الأحداث.. لكنه مات بالرصاص والقنابل. يتقاطع الضوء والظلام وتأخذنا خطوط الحركة إلي تشكيل جمالي ثابت لفريق العمل الذي شغل العمق واليمين واليسار، يرتدون قمصانا حمراء وبيضاء وسوداء، يتابعون ونحن معهم ما يحدث بين مصطفي وياسمين، التي تظل مندفعة نحو الاحتجاج والاعتصام، بينما يري فتاها الاتجاه إلي العمل والانتظار قليلا، ويشعر الفتي أنه يتغير ،يمتلك صوته ورجولته، ويقرر الخروج من عالم ياسمين، ويندفع إلي الآخرين. حيث تنطلق الموسيقي الحية، وتغني المطربة الجميلة نهاد، ومعها كل الجمهور «متقلش إيه ادتنا مصر» وتمتد إيقاعات الحب والوعي وتظاهرات الجمال وترتفع الأعلام في أيدينا ونردد بقوة وإصرار مصر .. مصر .. مصر. طاقة روحية شارك في هذه التجربة مجموعة من الوجوه الشابة الواعدة مع فناني مسرح الطليعة، وكانت النجمة الجميلة «ولاء فريد» هي الطاقة الروحية الموحية التي منحت العمل فيضا من الخبرة والبريق والبهاء، وقد كشفت مجموعة الشباب عن ميلاد خصب لمواهب متميزة مثل أحمد أبو عمرية، سمر علام، محمد عبدالوهاب، محمد العزايزي، حسن نوح، محمد دياب، أشرف صالح، ياسمين سمير، تامر كرم، إيناس المصري، محمد عبدالخالق، إيمان مسامح، محمود أباظة، مايكل ناجي، آسر علي، أكرم عمران، دينا جميل، شيماء غالب، هيثم مفيد، مصطفي حامد والفنان ممدوح سنجام والجميلة رانيا النجار. كانت الأشعار لمحمد العزايزي والسينوغرافيا المتميزة للفنان فادي فوكيه والموسيقي المبهرة للفنان أحمد حمدي رؤوف .