كان ميلاد هذه التجربة هو لحظة فريدة، استدعي بها المخرج الفنان أشرف زكي، زمناً حنوناً عرف فيه الناس دفء الحياة ولون الفرح، رنين الضحكات، اندفاعات الوهج.. تلك الرؤي التي بعثت مواجهة ضمنية مع مؤشرات حاضرنا الضاغط، المسكون بالزيف والتناقضات والاحباطات، التي استلبت الروح وقتلت المعني وسرقت الوجه الضاحك للحياة. امتدت إيقاعات الليلة الأنيقة الدافئة لتكشف عن البساطة الفنية المبهرة، وعن جماليات الطاقة الإيجابية المدهشة، ورغم ذلك ظللت التساؤلات المشاغبة تفرض نفسها حول طبيعة أزمة مسرح القطاع الخاص، بعد أن غابت تفاعلاته وتعرجت مساراته، وانسحب من الساحة الثقافية معلناً عجزه وانكساره. تأتي هذه المسرحية لتفجر القضية وتضعنا أمام قراءة موضوعية لحقيقة أزمة عنيدة، تدور عبر مستويات الثقافة والمجتمع والسياسة والاقتصاد، وفي هذا السياق سألت منتج مسرحية «سكر هانم»، النجم الفنان أحمد الإبياري صاحب الخبرات الطويلة الناجحة في مجال الإنتاج الخاص.. فاشتبك بحرارة بالغة مع الإشكالية التي تؤرقه، مؤكداً أن المسرح يحتاج لممثلين ومنتج جريء..، ودولة ترعي الإنتاج.. فالإعلام حالياً لا يلعب دوره والدعاية غائبة تماماً، لأن شروط التعامل المادية تجاهلت الأبعاد الثقافية والاجتماعية للمسرح.. ، فلا فرق في المعاملة بيننا وبين شركة الاتصالات والبيبسي وفودافون، وموبينيل، كذلك غاب دور صوت القاهرة وأصبحنا نعمل في صمت بسبب الارتفاع الجنوني في التكاليف، ويضيف الإبياري في سعادة.. ان إيقاعات النجاح الجماهيري المتصاعد لمسرحية «سكر هانم»، تؤكد أن المسرح سيظل قادراً علي المواجهة والتحدي ولن يقفد روحه وأنفاسه الحارة، فالجمهور موجود برغم الصمت والتعتيم، والانتاج الجيد يفرض نفسه دون اللجوء لمنطق التسويق، أما عن التوازنات التي تفرضها وقائع هروب النجوم من المسرح إلي السينما والتليفزيون فقد تم الاتفاق مع الممثلين علي أن يكون العمل يومين فقط، حتي يحبوا المسرحية ويدافعوا بأنفسهم عن استمرار وجودها. رؤية جديدة مؤلف مسرحية «سكر هانم» هو الفنان الكبير أبو السعود الإبياري، أما رؤيتها الجديدة فقد أعدها أحمد الإبياري، الذي يؤكد أن المسرحية الحالية هي المسرحية التي قدمها إسماعيل ياسين، وحسن فايق، وعبدالفتاح القصري، والتي تحولت بعذ لك إلي فيلم سينمائي حقق ولا يزال شهرة واسعة، وأصبح أيقونة كوميدية سكنت أعماق أجيال متعاقبة، وارتبطت بجماليات كوميديا الموقف وفلسفة الضحك وحرارة النقد، ويذكر أن الأحداث التي شاهدناها في المسرحية جاءت أكثر عمقاً وغزارة من الفيلم الذي لا يتسع بالطبع لطرح هذا الفيض من الرؤي الإنسانية التي وضعت بطل العرض بالتحديد في إطار حيوي دافئ لنصبح أمام شخصية تمتلك أبعاداً وأعماقاً وأحلاماً وطموحات تبرر مصداقية وجودها، تلك المصداقية التي أغفلها سيناريو الفيلم واكتفي بسخونة المواقف الكوميدية الصاخبة. تأتي رؤي المخرج المتميز أشرف زكي لتكشف عن وعي متدفق بمفهوم فن المسرح، حيث جاءت التجربة كمغامرة مثيرة، انطلق من خلالها إلي عالم التحديات الفنية الكبيرة.. فحكاية «سكر هانم» يعرفها الناس، والفيلم يذاع باستمرار لذلك لم يكن أمامه إلا اختيار وحيد هو أن يصنع عرضاً مدهشاً مبهراً جذاباً، يتفاعل معه الجمهور بحرارة، وفي هذا الإطار ارتكز الفنان المثقف أشرف زكي، علي المنظور العلمي لجماليات لغة الإخراج، وعلي بريق النجوم والممثلين، ذلك البريق الذي وصل إلي أعلي مستوياته عبر الاختيار الدقيق لفريق العمل، والإدراك المتوهج لآليات السوق وسيكلوجية الجمهور، وفي هذا السياق. تجاوزت الجميلة «لبني عبدالعزيز» حدود وجودها المسرحي وتحولت إلي طاقة مبهرة من الأشواق والحنين، فحركت في أعماق المتلقي معني الحب ووهج الوعي، واستدعت بأدائها همس الأحلام وشموخ الثورة وأغنيات حليم. عالم أثير تأخذنا اللحظات الأولي إلي قلب عالم مسرحي أثير، مشحون بالدفء والأناقة والنظام والجمهور الكبير، وحين يفتح الستار نيعش حالة من الجدل بين الماضي والحاضر حيث ينزل أفيش الفيلم ونشتبك بسرعة مع نجومه سامية جمال، كمال الشناوي، عمر الحريري، وكريمان، بينما تموج خشبة المسرح بالحركة والغناء وضحكات حسن فايق، إيقاعات الضوء المنير والتي تنقلنا لكي حاضر يولد من قلب الماضي عبر حركة ارتفاع أفيش السينما ونزول أفيش المسرحية بنجوم اليوم. تمتد إيقاعات الحركة لتشتبك مع وهج الألوان الدافئة، والألحان الحديثة المعاصرة، وتأخذنا بساطة التشكيل السينوغرافي وخطوط الحركة إلي المؤتمر الصحفي الذي تعقده السيدة الثرية «فتافيت السكر» لتعلن فيه قرارها بتصفية أعمالها في أمريكا، والعودة إلي مصر بعد وفاة زوجها الملياردير، ورغبتها في إنشاء جمعية للرفق بالإنسان من الفقر والجهل والمرض، وعبر الإيقاعات اللاهثة نعلم أن فتافيت السكر، التي عاشت في أمريكا خمساً وعشرين سنة، سوف تتخلي تماماً عن هذا الاسم، وتعود لاسمها الحقيقي «ياسمين» وتبحث عن الدفء والعائلة.. عن مصر، عن النيل والليل والأهرامات وضوء القمر. عيد الميلاد تدور الأحداث بشكل أساسي في شقة نبيل الممثل الشاب الباحث عن العمل والحب وتليفون بنت الجيران.. الشقة المقابلة يسكنها المعلم شاهين وأخته الشابة وابنة أخيه، وحين يأتي أصدقاء نبيل تتشابك العلاقات ونتعرف علي «سكر الحليوة» الممثل الذي يؤدي دور امرأة في أحد الأفلام، وكذلك علي «فريد أبو وردة» الذي اتصلت به عمته فتافيت لتخبره بعودتها إلي مصر، ورغبتها في أن تراه اليوم في عيد ميلادها. هكذا يقترح الأصدقاء الثلاثة أن يحتفلوا بعيد ميلاد العمة في شقة نبيل ويقدموا الدعوة لليلي وسلوي بنات الجيران.. وبالطبع توافق فتافيت علي الفكرة وتعدهم بالحضور. عبر هذه الخطوط العريضة يدخل المتلقي إلي عالم الشخصيات لتتبلور إيقاعات الوعي الكاشف للأبعاد والأعماق والدوافع، ونصبح أمام تيار عارم من المواقف الكوميدية المدهشة المرتبطة بتفاصيل وجود إنساني مشحون بالزيف والتناقضات. وتأتي لغة الكوميديا التلقائية الراقية لتشتبك مع ملامح الجروتسك وتبعث تياراً من الوعي، الذي يطرح تلك التساؤلات الباحثة عن امكانات تجاوز الكائن وصولاً إلي ما يجب أن يكون وفي هذا السياق يشتبك العرض برشاقة مع أحداث الفن والثقافة والرياضة، ويتسع المجال للإفيهات والتعليقات والارتجالات المحسوبة التي لا تأخذنا بعيداً عن السياق الدرامي للمسرحية، وعندما تتعقد المواقف وتتشابك الأحداث ويضطر الكوميديان الجميل «أحمد رزق» إلي التنكر في زي امرأة وانتحال شخصية العمة فتافيت السكر، نصبح أمام نقطة تحول مثيرة في اتجاه العلاقات وحقيقة الرغبات، وتظل رؤي الإخراج باعثة لموجات الوهج والبريق المشع بمفهوم الكوميديا كاحتفال بالحياة ونقد للواقع، وتصعيد لإرادة الإنسان. تجسيد اليقين اتجهت لغة الإخراج نحو تجسيد ذلك اليقين العارم بأن الحياة تستحق أن نعيشها فكان الفرح والضوء والألوان والحركة والأحلام هي المسار إلي تلك الرؤي المدهشة التي تميزت بالبساطة والخصوصية المتفردة، حيث جاءت خطوط الحركة اللاهثة لتبعث حالة من الإيقاع والتوتر والتصاعد الملموس، وتحول التشكيل السينوغرافي الثابت إلي مجال يموج بالانطلاق والحرارة، وفي نفس السياق تضافرت الاستعراضات الرشيقة مع رقصات الفالس والغناء والموسيقي لتبعث موجات من العزف الجميل علي أوتار الفن والحياة، وجاءت صورة المشهد المسرحي شديدة الثراء، غزيرة التفاصيل، وكاشفة عن جماليات لغة المخرج وتواصله مع الاتجاهات الحداثية الجديدة، وإدراكه لعمق الثقافة البصرية التي يمتلكها المتلقي في عصر المعلوماتية والفضائيات. رغم أن نجوم الكوميديا بصفة عامة يتجهون دائماً نحو مناطق الارتجالات الحرة التي تخرج عن السياق، إلا أن المفاهيم جاءت مختلفة في هذا العرض، الذي تميز بالالتزام والجمال والتباعد عن الإيحاءات والإسفاف والتطويل، وظلت الحالة المسرحية محتفظة بتصادعها مما يؤكد الحضور القوي للماسيترو الفنان الذي قاد العرض. حالة هارمونية سألت المنتج الفنان أحمد الإبياري عن «سكر هانم» زمان.. والنهاردة.. فقال: «فريق العمل الحالي في أحسن حالاته.. لكن ممثلين زمان كانوا حاجة تانية، إفيهات إسماعيل ياسين، كانت كلها ضربات جزاء.. في الجون». بعث نجوم هذه المسرحية حالة من الهارموني والتناغم المتميز، فكانت الجميلة «لبني عبدالعزيز» هي طاقة من السحر والخيال، الذي تبلور عبر جماليات أدائها الناعم الرشيق، أما القدير «عمر الحريري» فهو الخبرة والبهجة والأناقة والحضور. ويذكر أن الكوميديان المحبوب «أحمد رزق» قد اشتبك بحرارة مع جمهوره العريض العاشق لأدائه التلقائي المدهش، أما النجمة الجميلة «روجينا» فقد منحت الحالة المسرحية أبعاداً من الجمال الخلاب الذي كشف عن بريق حضورها وتدفق موهبتها، وامتلاكها لامكانات التعامل مع خشبة المسرح وفقاً للمفاهيم الفنية الحديثة، وفي هذا الإطار كان «أحمد السعدني» مثارا لإعجاب الجمهور حيث البساطة وخفة الظل والتفاعل الحيوي مع الحالة المسرحية. من المؤكد أن الفنان «طلعت زكريا» كان مفاجأة العرض، فهو نجم لامع يمتلك الكاريزما والبريق وحب الجماهير، أما صاحب اللمسات المتميزة «إدوارد» فقد أضاف للعرض أبعاداً كوميدية متوهجة، وبعث حالة من التواصل الجميل. شارك في المسرحية أيضاً الفنانة الرقيقة «مروة عبدالمنعم»، والفنان «ناجي سعد» والواعدة «إنجي وجدان». كانت الاستعراضات لمجدي الزقازيقي، والديكور للفنان حسين العزبي.