حالة من الفكر والوعي وثورة الفن الجميل يبعثها المخرج الفنان «عصام السيد»، في تجربته المسرحية المدهشة «الناس بتحب كده» التي تأتي كمعادلة صعبة تضعنا في زاوية التساؤلات الحرجة عبر اشتباكاتها الثائرة مع دلالات الواقع وأعماق الحاضر وأحلام المستقبل.. إنها محاولة لامتلاك الذات وتصحيح المسار يشهدها المسرح المصري ليدخل بها آفاقا مغايرة تكشف عن سحر تجربة الإبداع.. وجموح مشاغباتها وعمق تساؤلاته التي تفاعلت بقوة مع موجات الوعي الغائب وإيقاعات الاستلاب والارتداء وعذابات بشر سقطوا من ذاكرة الوطن. موجات العشق والقهر في هذا الإطار يقدم المسرح الكوميدي عرضا جماهيريا مبهرا مشحونا بموجات العشق والقهر والانتماء والإبداع والنجاح ذلك النجاح الذي تكشفه الأضواء والنبضات وطاقات التواصل الخلاب والإقبال الجماهيري الهائل الذي يؤكد أن المسرح سيظل متفردا في امتداده وبقائه المرتبط بوجود الإنسان وعلي مستوي آخر امتدت إيقاعات الوهج والبريق لتعانق ذلك الميلاد المسرحي الثاني لبطل العرض النجم «إيمان البحر درويش» الذي يعود إلي المسرح بعد سنوات من الغياب.. فمن المعروف أن إيمان البحر قام عام 1988 ببطولة مسرحية «انقلاب» للمخرج جلال الشرقاوي وهي تجربة غير مسبوقة تمثل علامة فارقة في تاريخ المسرح المصري وكانت أصداء نجاحها تؤكد أننا أمام كيان فني واعد يمتلك موهبة ثرية ذات خصوصية متفردة.. لذلك ظل الغياب يثير التساؤلات. شرعية الفن الراقي يمتلك العرض الكوميدي الغنائي «الناس بتحب كده» شرعية انتمائه إلي الفن الراقي الجميل حيث تخترق رسائله الناعمة أعماق وجود هستيري مجنون تبلورت أبعاده من خلال لغة الجروتسك المفزعة الكاشفة عن بشاعة وجه الزمن بعد أن اغتصب معني الحياة واستلب إنسانية الإنسان وقد اتجه مؤلفا المسرحية «أحمد السيد» و«أكرم مصطفي» إلي الارتكاز علي المفهوم العلمي لفلسفة الضحك، وانطلقت الرؤي الدرامية نحو معانقة الحلم بوجود إنساني جميل يعترف بالحب والعدل والوطن والفن والانتماء، ويدين الزيف والخيانة والغياب.. توتر لاهث تأخذنا اللحظات الأولي إلي توتر لاهث تبعثه إيقاعات الحركة والأداء، الحالة تشتبك بقوة مع لغة زماننا ورائحة الحياة.. فنحن في مطار القاهرة حيث الضجيج والعودة والرحيل ومجموعة الأصدقاء تنتظر وصول «شريف» المطرب الفنان.. تقاطع الحوارات السريعة يكشف ببساطة عن أحداث زمن مضي حين سافر الفتي وعاش غربة الأوطان ليبحث عن الثروة والقوة ويحقق حلما يشاغب الأعماق وتظل التفاصيل تكشف عن موجات الحب والفقر والقهر والضياع والجدل الثائر يدين العبث المجنون بقيم الحياة.. وعبر تضافر الصوت والأضواء وخطوط الحركة تتفجر موجات الكوميديا وملامح الجروتسك ويصل الفتي المعذب ليبعث في الأعماق فيضامن التساؤلات التي تتفاعل مع تيمة الزمن والانتظار وإحباطات الليالي والأيام. انتقال مبهر في انتقال سريع ومبهر عبر المكان يتغير الديكور وتكشف تفاصيل صورة المشهد المسرحي من شقة السطوح المتواضعة حيث «عم كامل» الشاعر الثائر صاحب القصائد النارية المتمردة الذي اعترض فاعتقل وسجن وظل إلي الآن أسير خوفه وعجزه وحين يأتي شريف يتفجر تيار المشاعر والذكريات وتشتبك حرارة الحوارات مع سحر وجماليات صوت إيمان البحر درويش عندما يغني لغربة الأوطان وخيانة الأحلام وصراع الإنسان بين صوت لا يمتلكه وصمت لا يقدر عليه وفي هذا السياق الرشيق ندرك أن حلم الأصدقاء في الفن الجميل قد ضاع إلي الأبد بعد عودة شريف بلا ثروة أو نفوذ فهناك رفض الكفيل غناءه المصري.. أجبروه وأحبطوه وسرقوه وعاد ليصبحوا جميعا أسري العذاب والانهيار. حركة لاهثة تأخذنا بصمات لغة الإخراج إلي حالة من الحركة اللاهثة المرتبطة بأيديولجيا كاشفة عن قرارات بامتلاك الكيان والوطن والهوية ويرتبط الفكر ببريق الإبهار وجماليات الفرجة ونلتقي بالجميلة الرشيقة «هالة فاخر» التي تحول خشبة المسرح إلي مجال يموج بالفرح والدفء والصخب والضحكات التلقائية فنراها في سيارتها المحطمة بعد الحادثة التي تعمدت وقوعها كي تكسب الرهان من صديقتها وعبر تقاطع السرد مع الحوارات نتعرف علي طبيعة شخصيتها وعلاقاتها وأطرها النفسية والاجتماعية والثقافية وتتفجر أبعاد التناقضات المثيرة حين تلتقي «فريدة هانم» ابنة رجل الأعمال الثري بالفنان المعذب شريف وهو يحاول إنقاذها ونصبح أمام لغة إخراجية رفيعة المستوي تكشف معني الفجوات الفاصلة بين عالم تافه سفيه شديد الثراء وعالم آخر مهزوم.. محروم.. لكنه مشحون بدفعات الحياة. صراع ملموس يتضافر الصوت الجميل والغناء الأخاذ مع أحداث العرض وصراعه الملموس ويظل اسم المسرحية «الناس بتحب كده» تساؤلا مطروحا علي الجمهور تتبلور إجابته عبر التفاعل الحيوي مع إيقاعات الحب والحرية والجمال وأغنيات ثائرة تدين الخرس والصمت والقيود، وعبر لغة الدراما وتفاصيل الأحداث تظل أغنيات بطل العرض مسارا لوهج الوعي الذي يدفعه وأصدقاؤه إلي تحقيق الحلم وفي هذا السياق يأتي التشكيل الجمالي لأغنية «ضميني» كاشفا عن حالة مركبة شديدة البريق حيث يرقص الغالس مع فريدة التي تكتشف للمرة الأولي معني الحياة وتتفجر المفارقة الساخنة حين يرفض الباشا هذا الغناء ويطلب حاجة تفرفش فيغنيها الفتي بأسلوب همجي هابط ونصبح أمام فيض من التساؤلات حول الفن والفكر والموسيقي والثقافة والإنسان.. ودلالة الانهيارات المتوالية. رغم التطويل وغياب الإيقاع في بعض مشاهد العرض إلا أن ضحكات الناس ولحظات الفرح النادرة في وجود مأزوم قد تدفعنا إلي تجاوز تلك الثغرات حيث كانت الحالة المسرحية بصفة عامة متدفقة بالتجدد والحيوية وكان المخرج عصام السيد شديد الوعي بماهية المسرح كفكر وفرجة وفن وإبهار أن جدل الضوء مع الألوان والموسيقي وطبيعة الأداء قد بعثت حالة مشحونة بالنقد والثورة والتمرد والإصرار علي تجاوز الكائن بحثا عما يجب أن يكون أما خطوط الحركة فقد تضافرت مع إيقاعات وجودنا السريع ومنحت الحالة المسرحية وهجا وتفاعلا كما أن التوظيف الدرامي المتميز للغناء قد بعث تواصلا حارا مع جمهور المتلقين وظل جزءا فعالا يسهم في تصعيد الأحداث وفي نفس السياق يأتي التوظيف الجمالي لإيقاعات المونتاج المتوازي ليبعث ثورة جامحة في تكثيف الزمن وحرارة الأحداث وكشف أبعاد الخطط والرهانات. خطوط النهاية تقترب خطوط النهاية ويحاول الباشا اجتذاب شريف وأصدقائه.. يعدهم بالأضواء والكاميرات وتحقيق حلم الشهرة والانتشار يوافق شريف معلنا أنه باع الشعارات والكلام الكبير ورضخ لإيقاعات الهبوط والإسفاف ويأتي منظور الإخراج ليبعث مفارقة شديدة التركيب والتكثيف والبلاغة تشتبك فيها دلالات الرمز وفانتازيا الحلم ومرارة الواقع لنصبح أمام تشكيل درامي وجمالي مرسوم بالضوء والنبض واللون والحركة.. عبر هذا التفاعل المثير يغني إيمان البحر درويش ليبعث في الأعماق شجنا ونبضا ووعودا بحياة قادمة تشهد اعترافا بإنسانية الإنسان. الأداء التمثيلي بطل العرض إيمان البحر درويش هو حالة فنية مشحونة بلمحات الدهشة والوعي والجمال يمتلك طاقات مسرحية متدفقة وحضور متوهج وتلقائية لافتة وهو علي مستوي آخر من كبار مطربي مصر المؤثرين في تيار الموسيقي العربية حيث يمتلك صوتا ذهبيا دافئا ثائرا له فلسفة ورؤية وخصوصية فريدة لذلك كان تواصله مع الجمهور كاشفا عن موجات حب عارم. أما النجمة الجميلة هالة فاخر فهي موهبة متجددة ذات بريق أخاذ تواجهنا دائما بمفاهيم سحر الإبداع تعزف ببساطة مبهرة علي أوتار التواصل الجماهيري الخلاب وتمتلك طاقات من الفن والخبرة والوعي تتضح من خلال مشاعرها المتدفقة وانفعالاتها العميقة وبصماتها الكوميدية المدهشة. تأتي مشاركة الفنانة رانيا محمود ياسين لتكشف عن مشاغبات وعيها الجمالي وأحاسيسها المرهفة ومقدرتها علي التفاعل الحيوي مع تجربة الفن أما الفنان «يوسف فوزي» فقد لعب دورا شديد التميز اشتبك به مع مفاهيم العنف والتسلط ببساطة ناعمة ويذكر أن الفنان «علاء زينهم» قد أضاف للحالة المسرحية أبعادا من المشاعر الدافئة. شارك في العرض أيضا ناصر شاهين، يوسف إسماعيل، ومحمد رضوان وقد لعبوا أدوارهم ببساطة وجسدوا نماذج متميزة بعيدة عن القوالب النمطية السائدة أما الواعدة «إيناس المصري» فهي تبشر بالانطلاق إلي آفاق فنية مغايرة. الألحان لإيمان البحر درويش، والكلمات لمصطفي درويش، أما الديكور فهو للفنان حازم شبل والملابس لنعيمة عجمي.