يشهد المسرح المصري تجربة رفيعة المستوي، تكشف عن ثراء التواصل بين سحر العظماء، ونضج الكبار، ووهج الشباب، حيث التقوا ليبعثوا تلك اللحظة الفريدة، التي تجاوزت مفاهيم الأزمة والغياب.. لتؤكد أن المسرح هو الزهو والحرية، وأن الجمهور يمتلك وعيًا ذهبيًا وحسًا تلقائيًا يدفعه بقوة نحو التجارب التي تمتلك شرعية وجودها. وثيقة إبداعية في هذا السياق يقدم مسرح الطليعة عرض النجاة، للمؤلف العالمي الكبير نجيب محفوظ، والمخرج الفنان «جلال توفيق»، الذي وضعنا أمام وثيقة إبداعية جاءت كقطعة مدهشة من الجمال الشرس الآخاذ، فترددت الأصداء وانطلقت الإيقاعات، وظلت المسرحية منذ افتتاحها وحتي الآن تقدم حفلتين متتاليتين كل ليلة.. بسبب الإقبال الجماهيري العارم. تكشف تفاصيل ميلاد هذه التجربة عن استراتيجية مغايرة تمتلك وعيًا ثائرًا بمفاهيم الجدل الفني، فهي نتاج خصب للتعاون بين مدير مسرح الطليعة المخرج هشام عطوة، الذي أدرك قيمة اختيار الفنان جلال توفيق لمسرحية «النجاة»، وتفاعل معه بقوة في اتجاه الإنجاز والتحقق، وفي نفس السياق تأتي لمسات الفنان الجميل «شادي سرور» مدير مسرح الشباب، الذي استضاف العرض في قاعة يوسف إدريس لتكتمل الأبعاد، ويأتي الميلاد مدهشًا دافئًا وأنيقًا. الحقيقة الهاربة كتب نجيب محفوظ، ومضة إبداعية ساحرة.. بريئة عنيدة، مثيرة وثائرة، مسكونة بوهج المفارقة ومراوغات الحقيقة الهاربة، ورغم البساطة الظاهرية المدهشة، إلا أن الأعماق تموج بالأشواق والمشاعر والرغبات، بالسياسة والقمع، التسلط والقهر، الفكر والثقافة، المنع والتحريم والنسبية واليقين، الحب والجنس والموت والعبث، واختناقات الروح وثورة الجسد. وفي هذا الإطار تبعث المسرحية تيارات من البريق والغموض وتأتي كاختراق لأسرار الليالي، وانتزاع للأقنعة، واندفاع إلي مغامرة المجهول، وتظل الحرفية العالية للبناء الدرامي تكشف عن امتلاك مدهش لمعني اللحظة، ونسبية الحقيقة، وعبثية البحث اليائس عن النجاة في وجود يحاصر الإنسان بالهزائم والانكسارات. حالة مسرحية كان التشويق المثير هو الأكثر حضورًا في قلب الحالة المسرحية التي تموج بالتصاعد والتوتر والإيقاع والجمال الأثير، وإذا كانت انفجارات الفعل يتخذ مسارها منذ اللحظة الأولي، فإن الأحداث اللاهثة تقودنا إلي نوع من التكشف المراوغ لنصبح أمام معادلة صعبة، عسيرة الاتزان منسوجة من دهشة الفن التي تعترف بكل التناقضات، حيث الوقائع والمؤشرات التي تمنحنا شعورًا بامتلاك المعني، لكننا نكتشف في النهاية أن الحقيقة لها وجوه عديدة وأقنعة مخيفة. تدور الأحداث في حجرة استقبال شقة أنيقة هادئة، التفاصيل الرشيقة تروي عن الزمان والمكان، تكشف عن الأبعاد والأعماق وتبوح بحكايات الفن ودهشة الجمال، حرارة الدفاية الكبيرة علي اليمين تعانق بدايات شتاء مثير، الراديو يأخذنا إلي زمن مضي، لكنه لا يزال حلمًا وحنينًا وأساطير، البار في العمق يشاغب الكئوس والزجاجات ويحكي أسرار ليال شهية مسكونة ببريق الرغبة وبهاء الجسد، اللوحات علي الحائط تثير همس الجنون، تعزف علي أوتار الضوء والألوان، وتنادي الموج والأشجار، لتبعث فيضًا من التساؤلات حول عذابات وجود شرس يغتال أحلام الإنسان. تشكيل سينوغرافي هكذا تتحول جماليات التشكيل السينوغرافي إلي مدخل شديد التكثيف والبلاغة يربطنا دلاليًا بالإطار المرجعي للمسرحية، فيرسم طبيعة إطارها التاريخي والزمني، ويفتح المسارات أمام علاقة دائفة مع بطل العرض.. الشاب المثقف الناضج، الذي يعيش وجودًا رحبًا ويمتلك فكرًا ثريًا، يقرأ الفلسفة والأدب، يعرف ديكارت ونيتشة وشوبنهاور، اقترب من «هيجل» ومن رؤي ماركس وانجلز، دخل عالم تولستوي وجوركي وبلزاك، ابسن وتشيكوف، ديكنز وهوجو، مورافيا وبرناردشو، وهو أيضًا عاشق لبيتهوفن وموتسارت وشوبان، للموسيقي وسحر اللوفر وصخب الشانزليزيه، يجيد الفالس والتانجو، ويعانق الحياة والحب والحرية، ورغم أن المؤلف لم يمنحه اسمًا معينًا، إلا أن الكتابة الرشيقة المبهرة التي تضافرت مع لغة الإخراج ولمساتها الساحرة قد منحتنا معرفة كاملة بوعي الشخصية وتاريخها، وانتمائها الفكري والطبقي والثقافي والنفسي، وتظل أصداء الستينات وتناقضاتها تبعث جدلاً حارًا بين الصعود والسقوط وعذابات واقع مصلوب علي قضبان الخوف، مسكون بالتمرد والعصيان، والبحث اليائس عن الأمان. في تلك الليلة الموعودة، كان همس الشتاء يعانق الشاب الأنيق وهو يقرأ كتابًا.. جرس الباب يقطع موجات الصمت فيندفع ليفتح، وتدخل امرأة جميلة تسبقها أنفاسها ودقات قلبها، ويدفعها الخوف العارم إلي الداخل، وتطلب منه أن يغلق الباب لأنها في أشد الحاجة إلي الحماية. كان الموقف شديد الإثارة، أخبرها أنه وحده بعد ذهاب الخادمة، وأحضر كوب ماء، وامتد بينهما حوار لاهث، تميزه صياغة إبداعية مغايرة، فهو شديد البساطة والحرارة، يكشف ويبوح بقوة، متصاعد الإيقاع، مسكون بالدهشة، كل كلمة لها وظيفة دلالية، وكل جملة تمزق قناعًا لتظهر أبعادًا غائبة، أما رشاقة اللغة العربية الساحرة، فقد جاءت كحلم وردي جميل غاب طويلاً عن المسرح. عشق الثورة والجمال كان المخرج «جلال توفيق» نجمًا ساطعًا في قلب هذا الوجود الفني الذي ينبض بالعشق والثورة والجمال، حيث جاءت بصماته متفردة، ولغته ساحرة، وإيقاعاته لاهثة وكاشفة عن إدراك عميق لطبيعة الكتابة ونبضها الداخلي، وتيارات مشاعرها واتجاهات رسائلها، وفي هذا السياق عزف المخرج علي أوتار الصمت الظاهري والصخب الداخلي، وبعث تضافرًا مثيرًا بين اندفاعات الرغبة وحرارة الجسد، وكان جدل الضوء والموسيقي، والحركة والسكون كاشفًا عن لغة تجريدية شديدة الحداثة عميقة الأثر، تجاوزت برشاقتها السائد والمألوف، وانطلقت نحو دهشة المغامرة وجماليات المجهول، لذلك اشتعل التواصل مع الجمهور، الذي اشتبك بقوة مع الحالة الفنية، وظل مؤرقًا بحرارة التساؤلات المطروحة، وطبيعة الحقيقة المراوغة، وسخونة المفارقات المتوترة، وخطورة اللحظات الفاصلة بين موت عبثي وحياة غامضة. وهكذا امتلكت اللعبة المسرحية شرعية وجودها، وكانت ومضة مبهرة من أضواء الفن الجميل، الذي اندفع إليه «جلال توفيق»، ليكشف عن روح شابة متوهجة بالخبرة والوعي والنضج والثقافة. عادت السيدة الجميلة لتؤكد أنها في أشد الحاجة إلي الحماية، فهي تتوقع من يأتي وراءها، وترجوه ألا يسلمها لأول طارق.. وسوف تغادر بعد ساعات. فسألها من أنت؟ من يهددك؟؟ ماذا فعلت؟؟ هل تعرفيني؟ وهل قصدتني بالذات؟؟ لكنها لم تجب مؤكدة أن التساؤلات والإجابات لا تهم وكل ما في الأمر أنها تتعلق بشيء من الشهامة والفروسية. تتخذ تيارات المشاعر مسارات مغايرة تتبلور عبر لمسات وإيقاعات الأداء التمثيلي المتميز، ويقترب الرجل من الأنثي الجميلة التي جاءت بلا موعد، فيشاغبه عطرها الآخاذ، ويندفع خلف تصورات لحظة وردية غامضة، يقطعها رنين الجرس المتصل واندفاع السيدة إلي حجرة النوم، وتهديدها بأن تلقي بنفسها من النافذة إذا سلمها لأحد، وعبر إيقاعات التشويق والسرعة اللاهثة نلتقي بالصديق المشاغب الذي يلمح ارتباك صديقه وتوتره، ويشم أيضًا رائحة امرأة، فتنطلق التلميحات والتعليقات عن الجنة الدافئة في الشتاء القاسي، ثم يخبره أن الشرطة تحاصر العمارة بحثًا عن امرأة هاربة، هكذا تنطلق التساؤلات ويتقاطع الضوء والحركة مع حرارة الموقف والانفعالات، ويظل صاحب الشقة عاجزًا عن معرفة سر الهاربة إلي حجرة نومه. تعود الدقات العنيفة والجرس المتصل، ويدخل ضابط الشرطة ليخبر الصديقين أنه يبحث عن امرأة هاربة في العمارة، ويطلب توقيع صاحب الشقة علي إقرار بأن السيدة الخطرة لم تلجأ إلي شقته هذا المساء، ويتردد صوت الضابط وهو ينبه إلي خطورة الموقف إذا ثبت العكس. وفي هذا الإطار تمتد الأحداث وتخرج السيدة من الحجرة لتؤكد أنها آسفة لحد الموت، وتظل كوريوجرافيا الحركة في عناق مع الحوار المدهش، حيث يتفجر صراع عنيد مراوغ يتصاعد بالتساؤلات حول جريمتها، والتي تؤكد أنها محض فعل مألوف في التاريخ، لكن الشرطة تعتبره جريمة، وهي تفضل الانتحار علي تسليم نفسها، وإذا انقطع الأمل فعلينا أن نحسن معاشرة اليأس. الأعماق الغامضة في تلك اللحظات الفارقة اتهمها الرجل أنها مجرمة بالسليقة، وانطلقت مشاعر الأعماق الغامضة، وتراقصت العواطف المتناقضة، لتغيب الحدود الفاصلة بين الحياة والموت والجنون، ويرسم الليل والهمس والظلام، لقاء رجل وامرأة جمعهما الجنس وعشق الحياة، ليواجها هستيريا الخوف من المجهول، ويبحثا عن النجاة، وحين سألها عن تصورها لما يحدث في الخارج؟؟ قالت.. مثل ما يحدث في الداخل، جرائم تمارس، وجنس ولحظات عناق تنتزع من بين الكلمات ولي الأذرع. ويعود الرجل ليسألها.. هل هو الحب أم السياسة أم المخدرات، هل هذه هي الخيانة الأولي؟ وهل تشعر بالندم؟ وتأتي إجابتها بأنه لا وقت للندم، فالجريمة هي ما يجمعنا، وليس هناك شيء واحد يتكرر مرتين بطريقة واحدة، وفي هذا السياق تأخذنا لغة الإخراج إلي تقاطعات وتوازيات مدهشة، حيث الموسيقي الناعمة والسيدة الجميلة، التي تحضر الكئوس، ورنين جرس التليفون وصوت الصديق الذي يؤكد أن الشوارع غاصة بالجنون، والحصار حول العمارة بل حول الحي كله، وتأتي خطوط الحركة لتكشف عن إدراك بأنهما محاصران بالأعداء، ويقرران الاحتفال بالحياة، فيشربان في صحة لقاء ساخن دون تعارف سابق، في صحة افتراق قريب بعد تعارف عميق، في صحة أسباب الهلاك التي لا حصر لها، في صحة الأحلام المجنونة، صحة الجنس الذي يمارس وسط العنف والشجار، صحة الشرطة عدوة الأحلام، صحة أول من اخترع حروف الهجاء، أول من كتب رسالة غرام، صحة الحلقة المفقودة، وفي صحة المخبر الواقف بالطرقة خارج الشقة. موسيقي راقية كان الموقف مشحونا بتيارات الحب والوعي والاستيلاب والعذاب، شربا كثيرًا وضحكا طويلاً، استلقيا علي الأرض، وقررا نسيان العمر، لينتهي كل شيء، وفي هذا الإطار يأخذنا المخرج إلي لوحة من الجمال الأخاذ، حيث الموسيقي الراقية، ورقصة التانجو الساحرة التي جاءت كاستعارة بليغة تختصر معني الرغبة والجسد والحياة والعبث، وتظل الخطوات الرشيقة شاهدة علي جماليات مغايرة تقترب من النهاية، حيث تتجه السيدة إلي التليفون وتتصل بشخص ما، تخبره أنه سيعرف كل شيء من الصحف، وتطلب أن يثق باخلاصها حتي آخر لحظة، ثم تتجه لصاحب الشقة مؤكدة أنها ستكون له إلي الأبد حتي لو امتد العمر ساعة وربع الساعة. تجلس الهاربة الجميلة في الصالون.. تفتح حقيبتها، وتأتي بزجاجة دواء، تأخذ منها كبسولة.. وتهدأ ثم تموت في صمت وجمال، ويتصور الرجل الذي يتأملها بشغف أنها نائمة، ثم يعود رنين الجرس ويدخل الصديق ويري المرأة التي قامت القيامة من أجلها، وعبرالإيقاعات اللاهثة تتبلور المفارقة المريرة الساخنة حين تأتي الشرطة، ويرون السيدة فلا تلفت أنظارهم فيدخلون الحجرة المطلة علي الطريق، ونسمع صوت طلقات نارية متلاحقة، تتبلور عبر خطوط حركة مبهرة، ويخرجون ليؤكدوا أن الشقة معرضة للخطر وعليهم أن يغادروها فورًا. يندفع الفتي إلي الجميلة الغائبة، ويصرخ بسعادة مجنونة.. لقد نجوت، ونجوت أنا أيضًا.. سيضيع اليأس وتكونين لي إلي الأبد. الأداء التمثيلي بعث النجم الفنان ياسر جلال، موجات من الوهج والبريق والحضور، فهو يمتلك كاريزما مشعة، وحسًا فنيًا شديد الرهافة والرشاقة، وقد تفاعل بحرارة مع الشخصية وأدرك أبعادها العميقة، ودلالاتها المركبة، واستطاع أن يترك في أعماق الجمهور أثرًا سيظل باقيًا. أما الفنانة الشابة رباب طارق، فهي موهبة واعدة وطاقة مبشرة، تجيد العزف علي أوتار مشاعرها، وسوف تمنحها تجارب المسرح مزيدًا من الخبرة والتميز. ويذكر أن الفنان الجميل مجدي فكري قد أضاف للعرض أبعادًا ولمسات شديدة العمق والجاذبية، أما الشاب «محمد عمر»، فقد لعب دوره بوعي وحساسية. كان الديكور الرشيق للفنان زناد أبوالعينين، والاستعراض الراقي المتميز للفنان ضياء.