كيف يصدر الفنان طه القرني مقاطع من لوحة ينجزها قبل ان تكتمل إلي الصحافة للدعاية والكتابة عنه وعنها.. ألا يدرك ان العمل الفني لا يدرك إلا ككل متكامل؟.. ان مجرد تمزيق عمل فني في مقاطع يعني انه عمل غير مبدع علي الإطلاق لأن العمل الفني الحقيقي لا يمكن تمزيقه لمقاطع.. ثم لماذا التعجل من الفنان القرني أيتصور ان انجاز الفن سباق مع الآخرين.. ألا ينتظر حتي يكتمل عمله ويقول فيه النقاد والمشاهدون كلمتهم؟!! وهل يرسم الفنان مشهداً لمظاهرة أو مظاهرات نقلاً عن صور فوتوغرافية ولقطات فيديو يتم تجميعها علي مسطح واحد يعني انه بهذا يرسم جدارية أطلق عليها «جدارية الثورة». هذا للأسف حال لا يتفق ومنهج العمل الفني المبدع فالعملية ليست دعائية ولا مجرد رد فعل لحدث بل العمل الفني عملية تحمل وجهة نظر إبداعية مفاهيمية ووجدانية فنية وعلي الفنان ان يعتكف علي إبداعه وان يكون شاغله باحثاً ومجرباً حتي تكتمل الرؤية والقيمة الفنية والذهنية لعمله وليس بتجزئته إلي مقاطع وارسالها للصحفيين قبل النقاد لنشرها في الصحف والمجلات أجزاء ومقاطع من عمل قد يبدو في اكتماله بهذه الطريقة المبعثرة ليس بذي قيمة.. فالجزء لا يكشف عن الكل وهذه رؤية بديهية. وقد فوجئت أن جرائد ومجلات تنشر مقاطع من لوحة يرسمها الفنان القرني أطلق عليها «جدارية الثورة» ومن الصور التي رأيتها وأرسلها لي مثلما أرسلها لكثيرين غيري متخصصين وغير متخصصين وجدتها نقلاً شبه حرفي عن صور فوتوغرافية عن مظاهرات 25 يناير وقد ذكر لي انه بدءاً من 28 يناير بدأ يرسم في لوحة لما التقطه بكاميرا الفيديو. وهذه اللقطات والكادرات الفوتوغرافية التي أصبحت بألوان زيتية سبق وشاهدناها علي صفحات الصحف والمجلات وعلي شاشات التلفاز، ومن الغريب رغم انه من الحرفية «الصنعة» والنقل السريع ان أنجز الفنان منذ 28 يناير وحتي بداية مارس تقريباً أي في حوالي خمسة أسابيع حوالي 23 متراً طولاً بارتفاع متر ونصف المتر من هذه التجميعات مما ترك الأثر لدي الكثيرين ممن رأوا المقاطع منشورة وأخبارها انه يقوم بعمل متعجل غير مدروس مما اضر قبل ان يفيد. وهذا الحدث الرائع للثورة بمضامينه العديدة رأيناه في تبسيط فني دعائي لم نشهده ولم يمر به فنان من قبل. وقد بدأ الفنان في الالتفات لرسم لوحات طويلة وصلت لأكثر من عشرين متراً بعد قضائه ثلاث سنوات - كما ذكر- يذهب إلي سوق الجمعة بصورة فوتوغرافياً ويرسم اسكتشات معتمداً إلي حد كبير علي فوتوغرافية ليقدم لوحة بعد ثلاث سنوات دراسة بعنوان «جدارية سوق الجمعة» وقد كتبت مقالاً عن هذه الجدارية احتراماً لهذه المثابرة والبحث من الفنان في موضوع واحد قضي فيه ثلاث سنوات رغم ان أسلوبها اسلوب فوتوغرافي وعرض لوحته هذه مع نهاية ديسمبر 2007 في قاعة الفنون التشكيلية بالأوبرا، ولم تمض إلا شهور قليلة لنفاجأ بانه رسم لوحة أخري طولها 23 متراً بعنوان «المولد» وعرضها في 15 أكتوبر 2008 في الهناجر وربما أعجبه الصدي الأول للوحة السوق ولم أرغب في الكتابة عن «المولد» لأنه انجزها كعمل حرفي لم يقدم فيه جديدا إلا رغبة دعائية كفنان جداريات رغم اعتماده علي كادر الفوتوغرافيا وترتيبها متجاورة بخامة زيتية وكأنه في سباق دون اعتبار لما يقدمه من قيمة تختلف من عمل لآخر لينجز له تحتاج سنوات من البحث في أيام وأسابيع. لتأتي المفاجأة مؤخراً بأن الفنان القرني ينجز لوحة أسماها كما جاء في الصحف «جدارية الثورة» أنهي منها في أسابيع قليلة 23 متراً وأخذ يرسل مقاطع منها للصحافة متناسياً ان انجاز لوحة عن ثورة مصر الشعبية يختلف تماماً كيفاً ونوعاً ومنهجاً وفي كل شيء عن منطق «السوق» و«المولد».. فالثورة تحمل رؤي مفاهيمية وأبعاداً اجتماعية وسياسية وفلسفية وإنسانية تتنامي معاً حتي تتضح الرؤية، والثورة ليست صورة فوتوغرافية لمظاهرة أو عدة مظاهرات، ان الفنان القرني الذي احترمه إنسانياً بسط الثورة بشكل يؤذيها ويقلل من قيمتها المتعددة الأبعاد كعمل قلب كل الكيانات والأسس المتعارف عليها للثورة عالمياً لتقدم لنا الثورة مناخاً جديداً غاية في العمق يحتاج لدرسه شهورا طويلة بل ولسنوات، واعتقد انه علي الفن ان يتوازي أو علي الأقل يقترب من عمق ما قام به ثوار مصر وشبابها، كما ان للثورة رؤية وعمقاً ذهنياً علي أي فنان ان يحترمها ويتأملها ويدرس جوانبها المفاهيمية خاصة في مفهوم التحولات وعلي أي منطق قامت ثم يبدأ كما اعتقد في إيجاد الحل التشكيلي البصري المعادل، فليس ما يتناسب و«سوق الجمعة» و«المولد» يتناسب ومعالجة مفهوم الثورة، كما انه ليس بطول اللوحة تكتسب القيم لتكون معبرة عن الثورة، فهل يقاس الفن بطول عدد أمتار اللوحة؟ لقد تم تقبل لوحة «سوق الجمعة» كمشهد أفقي للسوق بذل فيه جهد ثلاث سنوات رغم انه عمل تسجيلي بالفوتوغرافيا وقد بلغ طولها أكثر من عشرين متراً، ثم تقلصت الثلاث سنوات إلي عدة شهور ليقدم الفنان القرني لوحة «المولد» بنفس الطول في الأمتار، ثم تقلصت الأشهر المعدودة إلي حوالي خمس أسابيع وبنفس الطول في الأمتار أخذ بعدها يرسل الفنان مقاطع من لوحاته كأجزاء منتهية إلي الأعلام وكأنه انهي مقاطع رؤية لحدث أحدث زلزالاً في حياتنا لنراه فناناً متعجلاً وكأنه في سباق ألا يسبقه أحد، لنجد أنفسنا أمام مقاطع لمظاهرات بشكل أفقي تجميعي دون إيحاء بأي قيم للعمق علي اللوحة مادياً ومعنويا ونفسياً، فكأن الفنان القرني لخص نفسه في هذه الطريقة السهلة غير المتعمقة في إنتاجه الفني الشبه آلي ليقدم لوحات يقيسها بالأمتار كقيمة وبالصورة الفوتوغرافية والتي تعد إلي درجة ما عيباً وانتقاصاً من قدرة ومهارة الفنان الإبداعية والخيالية وأيضاً الرمزية. وكان من الرائع لو أن الفنان عبر عن الحدث من خلال نفسه كفنان له ثقافته الخاصة ورؤيته ومفهومه تجاه الحدث الجبار دون الاعتماد علي إعادة رؤية حرفياً لأن الصورة الفوتوغرافية تقوم بهذا، وكنا نتمني ان نشاهد في لوحة حقيقية بعد لوحات الفنان للزهور التي قضي سنوات يرسمها بأحجام صغيرة للغاية ثم نراه يرسم في أحجام طولية لعدة أمتار ان ندرك وجدان الفنان ومفهومه وانفعاله بالحدث وليس بالصورة وبالشحنة الداخلية وليس بالأمتار، فالثورة بما لها من عمق وأبعاد لعظمة التحولات وخطورتها ليست «سوق جمعة» ولا «مولد» وحتي لا تبدو انها مجرد صور لمظاهرات. وهذه المقاطع التي وزعها علي الإعلام الفنان القرني بدت بألوان غاية في الفانتازيا غير مكتسبة لدرامية تتناسب والحدث الدرامي العنيف بسقوط شهداء من الشباب كأنه حدث بألوان للفرجة وذلك لأنه التزم بألوان الفوتوغرافيا، اعتقد ان من أراد رصد الثورة الشعبية المصرية كي يدرك أبعادها كاملة يحتاج لشهور وربما سنوات، ولم الاستعجال فنلتقط قشور السطح في عجلة غير مطلوبة؟! لقد رأينا قيمة التعبير الإبداعي لفناني مصر العظام وعمقه في الستينات وما قدموه في تعبيرهم الفني باللوحة والتمثال عن مفهوم ثورة يوليو دون ان يرسم أحد منهم صورة لا للثوار ولا لمشاهد قيامهم بالثورة بل ركزوا في التعبير عن عمقها في لوحات حملت مضامين الثورة وعمقها دون الاعتماد علي المظهر فوق السطحي فكانت أعمالهم رؤي ورأياً مازال باقياً. اعتقد ان من سيقدم رؤي فنية تليق بعظمة ثورة مصر الشعبية كمجد يمجدها للتاريخ سيكون من شباب الفنانين بما لديهم من قدرات تقنية متطورة عصرية ورؤي وفكر غير نمطي ولا تقليدي في إدارك الحقائق والتحولات التي صنعوها بأيديهم ليلتقطوا في أعمال فنية القيمة المفاهيمية والرمزية للثورة إضافة إلي تجربتهم الذاتية مع الثورة ووسطها مشاركين ومحركين لها، وذلك باعتمادهم علي البحث الموجه تجاه هدفهم بما يؤكد ذاتهم فنياً وإنسانياً، ونلاحظ انه حتي الآن لم يخرج علينا أحد من شباب الفنانين وهم أكثر من اعتصروا في الثورة وسقط من بينهم الشهداء ليقول لنا إنه انجز عملاً فنياً عن «الثورة» وذلك حتي لا يبتسرها ولا يسطحها كقيمة بالتعجل إلي حين تكتمل الرؤية بكل أبعادها السياسية والإنسانية والاجتماعية لأن العمل الفني لم يعد مجرد سطح لوحة يقدم المظهر تسجيلياً بل العمل الفني جوهر ووجهة نظر وجدل مفاهيمي مع الوجود والحدث وليس مجرد سطح.