شاركت خلال السنوات الثلاث الماضية كعضو لجنة تحكيم بمسابقة عبد الحي أديب للسيناريو. وقد أتاحت لي هذه المشاركة فرصة كبيرة لأطل عبر عشرات النصوص السينمائية علي أحلام وطموحات ورؤية جيل من شباب مثقفينا لواقع بلدهم والتعرف علي أساليبهم الفنية في التعبير وقدراتهم المكتسبة من ثقافة تتسع في مجالات الصورة بوجه خاص ومن قدرة أسهل وأسرع علي جمع المعلومات عبر شبكة الإنترنت. من أهم الملامح التي استطعت أن أرصدها في نسبة جيدة مما أتيح لي قراءته من أعمال هوالتمكن التقني والمعرفة الجيدة بحرفيات الدراما وكتابة السيناريو وتطور لغة السينما . وهي أمور تبدومنطقية وتتوازي مع تزايد سرعة انتشار ونقل وتبادل أحدث المعلومات الفنية والأفلام العالمية بالوسائط الحديثة . ومن الملاحظ أيضا تزايد كم السيناريوهات التي تعتمد علي حبكة معقدة أوعلي عدة خطوط متوازية من الشخصيات الرئيسية في استعراض بانورامي لنماذج وشرائح متنوعة من المجتمع وهوالأسلوب الذي أبدعت فيه السينما الإيرانية بقوة وغزارة ، ثم أصبح في الاعوام الأخيرة الأسلوب المعتاد في عدد من روائع السينما الأمريكية والعالمية كما انتشر أيضا في السينما المصرية وحقق نجاحا ملفتا في عدة أفلام بداية من ( سهر الليالي ) وحتي ( واحد صفر ) . تميز عدد كبير من السيناريوهات أيضا بالجرأة في الموضوع والشكل الفني وهي أمور أعتقد أنها نشأت عن ثورة الديجيتال التي اتاحت لفنانيها مزيدا من الحرية في المعالجة والقدرة علي التجريب في الشكل . وكان يبدو جليا أن كثيرا من كتاب هذه الأعمال لديهم خبرة في أعمال الديجيتال والورش الفنية . تأكدت من خلال نسبة جيدة من الأعمال المتميزة والناضجة التي قرأتها أن أزمة السيناريوالتي يروج المسئولون عن الإنتاج عنها أنها أزمة مفتعلة . وأن الأزمة الحقيقية تكمن في عدم استيعاب الدعاوي الثورية لجيل من الكتاب يعبر عن واقعه بدقة وبلاغة وشجاعة ومقدرة فنية عالية . حصل عدد من هذه الأعمال علي جوائز مالية وشهادات تقدير ولكن المأساة أن أيا منها لم ير النور حتي الآن .. وهناك الكثير من الأعمال التي أراها علي مستوي فني عال أوعلي درجة من النضج الفني ، تستحق مع قليل من التطوير أن نراها متجسدة علي شاشاتنا . وهي تعبر عن الواقع وروح الثورة وعن إيمان حقيقي بحتمية قدومها بل وتكاد تتضمن الدعوة لإندلاعها قبل أن يلوح لها أثر . رحلات خطرة في سيناريو رحلة موت من تأليف جمال جوهر نري صورة لواقع مصر اليوم ببلاغة وشجاعة وموضوعية . نتابع صراعا حادا بين عضومجلس الشعب الفاسد ومنافسه الإخواني الذي يذهب ضحيته الشباب العاطلون الساعون للسفر من خلال مراكب الموت والهجرة غير الشرعية . عطا وخالد وبلال ثلاثة نماذج لشبابنا المساكين يلقون حتفهم علي أحد هذه المراكب . يكتشف الأهالي أن المراكب التي غرقت بابنائهم مملوكة لرضوان نائب دائرتهم فيهمون بقتله . يصنع الكاتب مأساة محكمة إلي حد كبير ويقدم رؤيته في بناء متوازن للواقع الاجتماعي . ولكن العمل يشوبه قليل من الترهل والجنوح للميلودراما . وفي (باب السما ) لعمرومحمد عبد الوهاب سلامة نتابع في سرد شيق ، وبناء محكم رحلة أتوبيس يتعرض لحادث خطير . نعود إلي الماضي لنتابع حياة الركاب في الليلة السابقة للرحلة بشكل متواز. مع شخصيات متنوعة نتعرف علي أزمات شرائح مختلفة من المجتمع تشترك جميعها في أنها تواجه مواقف صعبة واختيارات حاسمة في حياتها . معالجة جيدة تبدأ من نقطة إنطلاق مناسبة وتتصاعد الأحداث في بناء متماسك وإيقاع متوازن . وإن كان السيناريو في حاجة لمزيد من العناية بالتفاصيل لتتضافر جميعها في خدمة البناء العام . ويقدم سعدي صالح البريفكاني في سيناريو(افهموني غلط) حالة صحفي شاب مهتم بالسياسة محب لوطنه ورافض لفكرة السفر بحثا عن المال . يتفاعل مع قضية رغيف العيش بعد انتحار أحد أصدقائه بسببها . يصعد نجمه في الصحافة ولكن اشتراكه في مظاهرات إضراب 6 إبريل يغير مسار حياته . يقدم السيناريو صورة صادقة لواقعنا المعاصر ولكنه في حاجة إلي مزيد من العناية بالرؤية السياسية . وفي ( كفر الواصلين ) لمحمد مجدي رءوف يرحل الشاب الذكي المتفوق الموهوب أدهم فجرا مع صديقته الأجنبية. ويبدأ والده رحلة البحث عنه من خلال أصدقائه وأساتذته ومعارفه وخطيبته السابقة. تتكامل حكايات الرواة لتتضح أزمة أدهم ومجموعة زملائه ومشاكلهم الاجتماعية وصراعهم من أجل التفوق ثم البحث عن عمل في مواجهة ظروف اقتصادية وأخلاقية صعبة . يمكن أن يصل السيناريو إلي درجة الامتياز مع بعض التطورات المحدودة والتركيز علي المشاهد الخارجية التي تتيح ثراء للصورة السينمائية. شباب غاضب مع (ساعة متأخرة من الغضب) من تأليف أحمد السعيد نتابع حكايات خمس شخصيات من المهمشين يختلفون في الوظائف والأعمار والاتجاهات ولكن يجمعهم السكن في شارع واحد وإحساس مشترك بالقهر والظلم . يتوازي مع تصاعد أزماتهم انهيار الاتحاد السوفييتي وآمال تحقيق الاشتراكية . يلقي أحدهم مصرعه ظلما من قبل ضابط المباحث فيرفض الأهالي دفنه قبل الأخذ بالثأر . سيناريو متميز في متابعته لخطوط متعددة بمهارة ، به ربط جيد بين أزمات المواطن وأزمة الوطن . يتمكن المؤلف من تحقيق أسلوب سلس في الربط والانتقال بين المشاهد . كما يكشف عن قدرة لافتة علي الإمساك بخيوط الشخصيات وتطويرها وتصعيد الدراما . لا يعيبه سوي بعض التطويل . وفي سيناريو (البحث عن حضن) لروماني سعد عدلي متري نتعرف علي بكري كشاب قوي وشهم ولكنه بلا عمل ويعاني ظروفا صعبة . يساعد صديقه بدوي في مقاومة أشرار الشوارع . ولكنه يضطر إلي تزويج أخته سحر لثري عربي علي الرغم من علمه بأنها تحب صديقه . يسعي للسفر مستغلا مهر شقيقته . وتحاول حبيبته رضا أن تثنيه عن فكرة السفر فهي في حاجة إليه لأنها يتيمة ومسئولة عن أختها المتخلفة عقليا التي تظن أن أباها وأمها يعيشان في البحر . في نفس يوم سفر بكري تعود شقيقته سحر هاربة من ظلم زوجها العربي . يتعطل مركب بكري بعد أن يتحرك بقليل . توشك سحر علي السقوط في عالم الدعارة ويوشك بدوي علي الانضمام لأشرار الشوارع بينما تكاد تغرق نعناعة وهي تبحث عن والديها في البحر. ولكن النهاية تحمل مفاجأة غير متوقعة . دراما مؤثرة ومعبرة عن الواقع لا يضعفها سوي النهاية التي تعتمد علي بعض المصادفات . أما (وظائف خالية) لأمير يوسف أحمد فيحكي عن شابين تخرجا حديثا في رحلة بحث عن عمل . يصطدمان بظروف البطالة والواسطة والشعارات والأجهزة المزيفة . ينتهي بهما المطاف إلي مصير مئات الآلاف من الساعين للسفر ومن هنا تبدأ المشكلة ..يكشف السيناريوعن خبرة ودراسة للموضوع ولكنه في حاجة إلي الاعتماد علي الصورة والموقف بدرجة أكبر. فتن وعشوائيات يعد سيناريو(عودك رنان ) لرفيق مكرم لبيب بشارة من أجمل ما قرأت عن الوحدة الوطنية في مواجهة الفتنة الطائفية بلا مباشرة ولا شعارات . بأسلوب شديد العذوبة ينتقل بالمشاهد تدريجيا من أجواء الفن الجميل ودفء العلاقات الحميمة حتي يكشف عن الواقع بقسوته وقبحه ووجهه الشرير . ويتحقق كل هذا من خلال موضوع قوي وبناء درامي محكم وحوار سلس وسيناريوجيد تمتزج فيه عناصر الفرجة مع عمق الفكر . يحكي السيناريو عن علي عازف العود الفقير الضرير الذي تربطه صداقة عمر بزميله وجاره في قريته جرجس الطبال . لكل منهما ابنة وحيدة في نفس العمر تحملان نفس الاسم فيروز . فيروز الأولي تستسلم لإغواء شاب متطرف وتتزوج به رغما عن إرادة أبيها ، بينما تواصل فيروز الثانية مسيرتها بصعوبة في عالم الفن ، بعد نجاحها في مسابقة للأصوات الجديدة. يسعي المتزمتون من أهالي الطرفين للتفريق بين الأسرتين وإبعادهما عن عالم الفن . ولكن ماذا يفعل المتطرفون حيال تشبث كل منهما بصداقة الآخر وباختيار الفن الذي يجري في العروق ويتغلغل في صميم الكيان . أما محمد محمد أحمد مستجاب فيقدم (حلم حمادة وميمي ) حول حمادة الذي يفشل علي الرغم من محاولاته الدءوبة في الحصول علي عمل بعد تخرجه في كلية الهندسة بتفوق . يهدده والد خطيبته ميمي بفسخ الخطوبة إذا لم يعثر علي عمل . لا يجد سبيلا سوي شراء توك توك . وفي مواقف ومفارقات ساخرة يتقبل حمادة مشاق المهنة وعذابها وكله أمل وتفاءل في تدبير مهر ميمي . ولكن تزداد الأمور سوءا حين يختفي التوك توك . فنخوض مع حمادة رحلته العجيبة في البحث عن التوك توك من أجل استرداده بمساعدة حبيبته المخلصة ميمي حيث يواجههما الفشل والمزيد من خيبة الأمل في أقسام الشرطة وأوكار العصابات وعالم الصحافة المعارضة وأروقة مجلس الشعب .. تري ما هوالحل الذي يمكن أن يتوصل إليه حماده بعد فشله مع كل هذه الجهات؟ سيناريو جيد يعكس فهما عميقا للواقع ويعبر بسخرية وبلاغة واستلهام رائع لتحفة ديسيكا سارق الدراجة . يكشف الكاتب عن تمكنه من أدواته في رسمه للمشاهد ببنائها وتفاصيلها ليعبر في صدق ولماحية عن الحارة المصرية اليوم بأجوائها وشخصياتها . يبرع أيضا المؤلف في كتابة حوار واقعي معبر وشديد السخرية. كما يعكس العمل تمرسه وتدربه علي الكتابة مما يجعله يسيطر بشدة علي المسافات الفاصلة بين التراجيديا والكوميديا ويتمكن من تصعيد الدراما للوصول إلي الهدف بمهارة .