أزعم أنني من بين كل تلاميذ أديبنا الكبير يوسف الشاروني وهم كثر الأقرب الي عوالمه..وكنت أظن أن لاشيء في خرائطه الوجدانية والذهنية يغيب عني ..ربما يعزي ذلك الي ربع قرن من العلاقة الانسانية الوطيدة التي ربطت بين الأستاذ وتلميذه منذ أن التقينا في العاصمة العمانية أواسط ثمانينات القرن الفائت..وفي مطلع أكتوبر الماضي ونحن نحتفل بتدشين الشمعة السادسة والثمانين في مسيرته الإنسانية المحشودة بالعطاء أبديت له رغبتي في اجراء حوار معه ..وما كنت أظن أنه سيقول ما لا أعرفه ..لكنه فاجأني بحوار من الحزن كابد أن يخففه بما أسماه بمباهج تبدو جلية لعينيه كلما التفت الي الخلف بنظرة حسابية لمشوار العمر .. وما كنت أدري أنه يخفي في دواخله كل هذا العتاب وربما اللو ء إزاء المؤسسة الرسمية .. - سألني: أين ستنشرالحوار..؟ قلت : - سأرسله الي صحيفتك المفضلة.. - القاهرة ؟ - نعم - جيد ..انها المكان المناسب لما أود أن أقوله ..من أين نبدأ؟ من ثلاث سنوات .. حين حدثتني عن كتاب أخير كنت تستعد لاصداره عنوانه " توتة توتة خلصت الحدوتة ..هل تشعر بأن الحدوتة بالفعل خلصت؟ - يبدو أن الحدوته لا تريد أن تنتهي ، وأرجو أن تتحقق أمنيتي : أن أموت واقفا . فعندي في المطابع خمسة مؤلفات أوشك بعضها علي النشر هي كتاب في الأدب النسائي " حفيدات شهر زاد" ، يصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب و" رحلة عمر مع نجيب محفوظ " عن دار المعارف، و" كلام في الأدب" عن دار الهلال مع ملاحظة أن معظم مؤلفاتي تؤلف نفسها في عشرات السنوات . وعلي سبيل المثال فإن " حفيدات شهر زاد " يضم دراسات عن إبداعات نحو عشرين مبدعة من مصر والدول العربية إضافة إلي رواية لكاتبة أمريكية تدور أحداثها في مصر ، كتبت أولي دراساتها في الستينات من القرن الماضي عن المجموعة القصصية الوحيدة للشاعرة ملك عبد العزيز زوجة الدكتور محمد مندور ، كما تناولت روايات ومجموعات قصصية لرموز ذلك الجيل من القصاصات مثل لطيفة الزيات وصوفي عبد الله وجاذبية صدقي حتي كاتبات الجيل الحالي مثل عزة بدر وسامية الساعاتي . الأمر نفسه مع كتاب نجيب محفوظ الذي يضم قصتين هما " مصرع عباس الحلو " و " زيطة صانع العاهات " نشرتهما في مجلة الأديب البيروتية عامي 1948، 1949 عقب نشر رواية " زقاق المدق" لنجيب محفوظ عام 1947، إلي جانب حديث مطول بيني وبينه علي صفحات مجلة الطليعة أداره غالي شكري بعد ذلك بحوالي عشرين عاما ، ثم دراسات عن بعض رواياته ، فعرض لستة مؤلفات عنه لرجاء النقاش والغيطاني وسلماوي وجبريل ومحمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس . كما يقوم المجلس الأعلي للثقافة بنشر كتاب مصطفي بيومي " دراسات في أدب يوسف الشاروني " ، بالإضافة إلي مخطوطين بالهيئة العامة لقصور الثقافة هما " مبدعون في احتفال أدبي" ، والطبعة الثانية للمجموعة القصصية " الزحام" التي حصلت علي جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة عام 1969 مضافا إليها مختارات من الدراسات التي نشرت عنها. الوحيد الباقي من المؤسسين بعد هذه الرحلة الثقافية المزدحمة والمتواصلة لماذا لم تعين عضوا في المجلس الأعلي للثقافة لاسيما وأنت أحد مؤسسيه مع يوسف السباعي عام 1957 وربما الوحيد الباقي منهم علي قيد الحياة؟ - يسأل في ذلك الأستاذ فاروق حسني وزير الثقافة الذي تجاوزني وعين أبنائي من الجيل التالي أعضاء في المجلس ، فليست هناك أية أسس لتعيين أعضاء المجلس ، وذلك رغم أكثر من موقف وقفه معي فاروق حسني لعل أبرزها حين أُصبت منذ بضعة أعوام بورم في الغدة النخامية بالرأس ، وأسرع ابني الطبيب الدكتور شريف الشاروني من مقر إقامته في هولندا لمقابلة فاروق حسني الذي بادر مشكورا بالاتصال بالدكتور أحمد نظيف لصرف دعم مالي للعلاج بهولندا حيث اتضح أن الورم حميد يكفي علاجه بدواء مخفض . كما أنني اعتبره أحد أنشط ثلاثة وزراء ثقافة في مصر ، والاثنان الآخران هما د. ثروت عكاشة ويوسف السباعي ( ولو استمر الصديق بدر الدين أبو غازي مدة أطول من التسعة أشهر التي مارسها وزيرا للثقافة لكان رابعهم) ، كما لا أنسي مؤازرته لنا - ماديا ومعنويا ، في نادي القصة الذي أرأسه. نعلم أنك حصلت علي جوائز مهمة من دول عربية مثل جائزة العويس الثقافية بالإمارات ..لكن ماذا عن جائزة مبارك التي يمنحهاالمجلس الأعلي للثقافة الذي شاركت في إنشائه منذ أكثر من نصف قرن ..خاصة وأنها منحت لبعض زملاء جيلك ودراستك مثل د. مصطفي سويف ..أنيس منصور .. بل أبناؤك مثل بهاء طاهر؟ - مرة أخري هذا السؤال لا يوجه إلي ، لكني أستطيع أن أقول إنه يبدو أن لجوائز المجلس الأعلي للثقافة الآن حسابات لا أدخل طرفا فيها . وعلي أية حال فأنا الوحيد في مصر الذي حصلت علي جائزتي الإبداع والدراسات الأدبية التشجيعيتين من المجلس عامي 69 ، 78 علي التوالي فضلا عن الجائزة التقديرية في الأدب عام 2000 ومع ذلك فإني أطالب أن تُطبق ما تطبقه مختلف الهيئات العالمية عندما تمنح جوائزها المشابهة ، فهي تشكل لجانا مختصة في الفرع المطلوب - تتغير كل عام ولا تظل كما هي في مجلسنا الموقر - يمنح جوائزه - علي سبيل المثال - في الفن التشكيلي من لجنة أعضاؤها فنانون وأساتذة في الفن التشكيلي فقط، والموسيقي بالمثل من مختصين في الموسيقي ، وربما الأدب يمكن التجاوز في تشكيل لجانه من نقاد وقصاصين وشعراء. بذلك وحده نضمن أن يكون اختيار الفائز أقرب ما يكون إلي الاستحقاق. وبدون ذلك فإن جوائز الدولة - ربما ما عدا التشجيعية منها لاختلاف نظام منحها - سيظل منحها عشوائيا مرة تصيب ومرات تخيب ، لأن المشاركين في منحها الآن من مختلف التخصصات التي لا يربط بينها إلا رباط الثقافة العامة ، وهي ليست أبدا أساسا لمنح جوائز الدولة للمبدعين في مختلف الفروع كل في تخصصه ..وستتحقق نبوءتي - إذا ظل الوضع كما هو الآن - في الآداب علي الأقل لأنني أدري بها ..حيث سيكون نصيب الأسد كما يقولون في الفوز في العام المقبل من أعضاء المجلس في جائزتيه: مبارك والتقديرية. التقدير من الشرق والغرب وماذا عن التقدير الذي حظي به يوسف الشاروني خارج الحدود؟ - قد لايكون الأمر متعلقا بجوائز ..بل بمواقف لها دلالاتها العميقة بالنسبة لي.. مثل؟ - منذ ثلث قرن ( عام 1976) كنت ضيفا في برلينالغربية مع الصديق الدكتور عبد الغفار مكاوي بدعوة من إحدي الهيئات العلمية للعلاقات الثقافية والعلمية DAD لمدة ستة أشهر . ولما كانت الهيئة الداعية تصدر سلسلة كتب تنشر فيها بعض إبداعات مدعويها من الأدباء بعد ترجمتها إلي الألمانية ، فقد اقترحت علي الصديق عبد الغفار أن يتقدم إلي المسئول عن هذه السلسلة بنشر بعض قصصنا المترجمة إلي الألمانية، وفعلا قابل د. عبد الغفار المسئول حيث أنه يجيد الألمانية التي لا أعرف منها إلا ما يعينني علي التحرك في برلين ، وسلمه بعض قصصنا المترجمة إلي الألمانية ، فطلب إمهالنا أسبوعين حتي تتاح له الفرصة لاتخاذ قراره بالنشر لكننا فوجئنا في صباح اليوم التالي بالناشر الألماني يتصل بالدكتور عبد الغفار ويبلغه أن قصصنا شدته فلم ينم حتي أتم قراءتها ، ودعانا لمقابلته لتوقيع عقد نَشر الكتاب الذي صدر وعليه صورتانا عبد الغفار وأنا ..وفي عام 1994 اتصلت بي الباحثة البريطانية كيت فكتوريا ماكدونالد دانيلز بمعهد الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن تطلب مني تحديد موعد للقائها بالقاهرة حيث أنها تعد رسالة عن إبداعي القصصي . وعندما تقابلنا سألتها من باب حب الاستطلاع من أشار عليك بدراسة مشواري الإبداعي وكان الدكتور صبري حافظ هو المشرف علي رسالتها ، فأجابتني ، أنا قرأتك ورأيت أن إبداعاتك جديرة بالدراسة وتقديم رسالتي الجامعية عنها . وبعد عدة لقاءات في القاهرة حصلت كيت دانيلز علي الدكتوراه وترجمها الصديق محمد الحديدي إلي العربية وصدرت في المشروع القومي للترجمة عام 2001 بالمجلس الأعلي للثقافة بعنوان " مدركات النفس والآخر في قصص يوسف الشاروني " وذلك بفضل ترحيب الدكتور جابر عصفور المشرف علي مشروع الترجمة.. هذا عن حضورك كمبدع في الغرب ..لكن ماذا عن الشرق..؟ - في خريف عام 1996 قمت بزيارة الصين بدعوة من الصديق المستعرب جيكون تشونغ رئيس الرابطة الصينية للدراسات العربية والأستاذ بقسم الدراسات الشرقية بجامعة بكين .. وكان من بين برنامج الرحلة أن أزور مدينة شنغهاي كبري موانئ الصين وبها كلية للغة العربية..وقد التقيت بشابين يقومان بالتدريس في الكلية وقد سهرا معي حتي الحادية عشرة مساء ، وكان أحدهما واسمه وانج يو قد حصل علي الماجستير في اللغة العربية في موضوع الأسلوبية في كتاب الأيام لطه حسين . وفي أثناء وداعهما سمعته يلقي شفاهة فقرة ما بالعربية الفصحي - فسألته - معجبا من قوة ذاكرته - هل هذه الفقرة من كتاب الأيام ؟ ففاجأني ضاحكا . بل من قصتك " آخر العنقود " وعلي استعداد لتسمع مني قصصا أخري أحفظها.. - وفي صيف1999 كنت في زيارة الي دمشق أنا والصديق محمد جبريل-وقد دبر لنا اتحاد الكتاب السوريين زيارة إلي القنيطرة .. وأثناء هبوطنا من السيارة فوجئت بما لم أتوقعه ابدا في هذا المكان الموحش ، فقد صاح ضابط سوري شاب : الأستاذ يوسف الشاروني ، أنا من عشاقك الخمسة .. إشارة إلي مجموعتي القصصية الأولي. وأصر أن يستضيفنا بما قدمه لنا من فاكهته البرية ، ثم أحضر كاميرا صغيرة ونادي علي أحد جنوده ليلتقط صورة لثلاثتنا : الضابط الشاب ومحمد جبريل وأنا . أرسلها لي فيما بعد وأحتفظ بها في ألبومي. وخلال هذا العام زارني السيد بدر الدجي المنوري من حيدر أباد بالهند لأنه يريد أن يستكمل مراجعه لدراسته التي يقوم بها للحصول علي درجة الدكتوراه عن كتاباتي وذلك من كلية اللغة العربية " بجامعة عثمانية " بولاية حيدر أباد . ولما أبديت كامل دهشتي لمعرفته بي أكد لي أنني معروف جيدا لدي دارسي اللغة العربية بولايته بل إن لديه معظم مؤلفاتي فضلا عن معلوماته من شبكة المعلومات. تلك بعض مباهج المشوار التي تعينني علي ما ألقاه من سلبيات.