«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لويس عوض يروي مذكراته من مغاغة إلي كمبردج «2 3»
نشر في القاهرة يوم 07 - 09 - 2010

أشهد بأن الشيوعيين المصريين الذين تعرفت عليهم في المعتقل كانوا شجعانا وشرفاء
«العنقاء» رواية ضد العنف لا ضد الماركسيين أو الإخوان المسلمين
كتبت «مذكرات طالب بعثة» بالعامية لأنني كنت معجبًا بتجارب توفيق الحكيم في الكتابة بالعامية
قابلت شهدي عطية الشافعي في بنسيون تمتلكه سيدة إيطالية وسألتني عما إذا كنت أعرف د. جودة فلم أفهم إلا بعد أن وضح لي شهدي نفسه أنه اسمه الحركي
الحركة الثقافية في مصر لم تكن من تقاليدها الثابتة تذوق الموسيقي
لما قامت ثور يوليو 1952 وكنت في الولايات المتحدة شعرت بأن رأسي في السماء
في مارس 1952 طرقت الشرطة بابي وتم اعتقالي وكان قد سبقنا إلي المعتقل الكثير من المثقفين والعمال وأغلبهم من الشيوعيين
الرئيس جمال عبدالناصر أهداني وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي بمناسبة عيد العلم 1967
لست أعرف ما إذا كانت «الخبز والحرية» تنظيما أم مجرد شعار سياسي للجناح الفني الذي سمي «الفن والحرية»، لا أعرف قبل ذلك بوقت قصير كان أنور كامل قد أصدر كتابه «المنبوذ» وقد صودر كما أعتقد، وقبل نهاية الحرب تنازل سلامة موسي عن امتياز «المجلة الجديدة» لرمسيس يونان ومجموعته، ثم جاء صدقي باشا عام 1946 فأغلق هذه المجلات كلها دفعة واحدة.
وكان واضحا لي أن كورييل هو زعيم المجموعة الأقرب إلي الستالينية، وأن الهوة عميقة جدا بين هذه المجموعة والمجموعة الأخري الأقرب إلي التروتسكية أو ما يسمون كذلك، هذه التسميات أطلقت علي المجموعتين ولا اجتهاد لي فيها، ولكني أعتقد أن مجموعة جورج حنين ورمسيس يونان وأنور كامل وكامل التلمساني ولطف الله سليمان وفؤاد كامل هي مجموعة المثقفين أي الأقرب إلي الثقافة منها إلي السياسة.
وأغلبهم كان يقيم في درب اللبانة، وكانت نسبة الفنانين التشكيليين بينهم عالية جدا، وكانوا مهتمين بقراءة اندريه بريتون واراجون، وثقافتهم أساسا فرنسية، وقد حاولت أن أرسم صورة لتلك الحقبة في مقدمة رواية «العنقاء»، وكنت قد تعودت في أوروبا علي أن الحديث اليومي يدور حول التجديد في الثقافة، ولما عدت بدأت أشعر بالغربة في الجامعة لانعدام هذا التقليد، ولذلك وجدت في هؤلاء خارج الجامعة مناخا أقرب لي، أقول أقرب من حيث عنايتهم بالفكر والفن وانشغالهم اليومي بالثقافة كما كان حالي في انجلترا أو حالي مع محمد مندور في باريس، ولكن هناك فروقا كثيرة بيني وبينهم في مقدمتها اهتمامهم باللاوعي، ولم أكن أنا كذلك، علي العكس كنت مهتما بالالتزام، وقد اعتبرت بلوتلاند قصة تقدمية كتبت قصائدها في انجلترا بين عامي 1938و1940، هذا بالإضافة إلي المقدمة الصريحة الواضحة، ومقدمة «في الأدب الانجليزي»، ومقدمة «فن الشعر» لهوراس، ومقدمة «بروميثيوس طليقا» فكلها تنم عن درجات من الالتزام.
كنت مقتنعا في ذلك الوقت، وأنا في أوروبا، بأن الآداب واللغات كالأحياء تتطور، وأنه لا يمكن تحنيط اللغة أو الشكل الأدبي في تابوت إلي الأبد، ولم أكن أول من أدرك أبعاد المسألة في الشعر، فقد كان بيرم التونسي يكتب شعرا بالعامية المصرية، ولكن تأثري ب«ت.س اليوت» ربما هو الذي شجعني علي تجديد البنية الوزنية في القصيدة، كنت أري في الشعر الأوروبي أشياء ذات دلالة، كاختفاء الرباعيات والخماسيات من القرن الماضي، كانت شائعة عند لامارتين وتينسون، كالنوع الذي كان يكتبه علي محمود طه في «لست أدري» مثلا، والذي حدث أن الشعر الأوروبي خرج بأوزانه عن التقليد بدءا من براوننج.
وفي عام 1942 كما أظن كتبت «مذكرات طالب بعثة» بالعامية أيضا، وهي من النثر، وكان توفيق الحكيم قد جرب الكتابة بالعامية مثل «رصاصة في القلب» وقد عاتبه طه حسين وآخرون علي ذلك، وقد انحزت إلي توفيق الحكيم حتي أنني أهديته سونيتا من السونيتات التي كتبتها في انجلترا، كان يكتب الحوار بالعامية، فاهتاج عليه المحافظون، ولكنهم عينوه في مجمع اللغة العربية، وكف عن الكتابة العامية، ولكن اللغة بقيت من همومه الكبري.
كان مظهر هنري كورييل بسيطا يلبس بنطلونا قصيرا، وهو نحيف كغاندي تقريبا، متقشفا، ولكن والده كان رجل أعمال، وكانت هناك دار نشر الثقافة الحديثة يرأسها سعيد خيال، وربما الراحل شهدي عطية أيضا.
وكانت هناك دار الأبحاث التي قادها فيما أظن عبدالمعبود الجبيلي، ولكنني لم أتعرف علي أعضاء هذه الدار، تعرفت أكثر علي شهدي، غير أن مشكلتي كانت هي اقتناعي بأن عبء اليسار يقع في المقام الأول علي المثقفين لا علي العمال، كما أنني لا أتصور مثقفا يساريا كإسماعيل صبري عبدالله أو فؤاد مرسي أو محمد سيد أحمد يستطيع أن يقود العمال والفلاحين، وكنت قد تعرفت علي شهدي عطية فوق سطح المركب أثناء عودتي من انجلترا، وفهمت أنه حصل علي دبلوم تعليم اللغة الانجليزية من جامعة اكسترا، وقد شعرت به كإنسان راق ومتحضر.
وأذكر أنني عام 1947 حين تزوجت كنت أسكن في بنسيون في شارع بستان ابن قريش (بالقرب من ميدان التحرير الآن)، وكانت صاحبة البنسيون سيدة إيطالية، وذات يوم فوجئت بشهدي في البنسيون، وشاهدتني هذه السيدة وأنا أصافحه بحرارة فسألتني: هل تعرف الدكتور جودة؟ وسألته بدوري عما إذا كان يسكن في البنسيون فقال لي: سأخبرك فيما بعد. وأعادت السيدة الإيطالية سؤالها: هل أنت تعرف الدكتور جودة؟ فادركت أنه اسم مستعار، وبعد قليل انفردنا أنا وهو حيث صارحني بأن البوليس يتعقبه وأنهم يطاردونه للقبض عليه، وأنه مختبئ هنا تحت اسم مستعار، ولما كنت أسكن في الطابق الثالث، فقد لاحظت أن هناك «مخبرا» يذهب ويجيء أمام العمارة التي يقع فيها البنسيون، واشتغلت «ناضورجي» لشهدي، أي أنني كنت أراقب الشرطي وأرصد حركاته وأخبر بها شهدي حتي لا يغامر بالخروج، وقد أحببت هذا الرجل من رحلة المركب وإقامة البنسيون، بالرغم من اختلافي السياسي معه.
والغريب أن زوجتي حين شاهدته في اليوم الأول سألتني: هل هذا الرجل زعيم؟ كانت هذه الملاحظة غريبة لأنها سيدة فرنسية تري مصر للمرة الأولي، وهذا هو الشهر الأول لإقامتها في البلاد، كان يتكلم معي بالعربية ومعها «بفرنسيته المكسرة»، مما يدل علي أنها التقطت في شخصيته شيئا خاصا لا تعبر عنه اللغة.
في أوائل 1946 حين جاء إسماعيل صدقي مرة أخري إلي رئاسة الوزراء، قمت بأول عمل سياسي في حياتي، فقد قالوا إن الانتخابات في الجامعة ستجري. وحينئذ جمعت لطيفة الزيات ومحمود أمين العالم ومصطفي سويف وعباس أحمد وبهيج نصار وأمين عزالدين وبقية الطلاب الذين كانوا يحضرون معي سماع الموسيقي الكلاسيكية. وكنا نسمي أنفسنا «جمعية الجرامافون» وهي جماعة من الشباب المستنير، جمعتهم في البنسيون وهو نفسه الذي التقيت فيه بشهدي فيما بعد، وقلت لهم إن الإخوان ينظمون أنفسهم، وكذلك الوفديون وعليكم أنتم أيضا أن تنظموا أنفسكم وتتحدوا. انتخابات اتحاد كلية الآداب تحتاج إلي أن تنسوا اختلافاتكم مؤقتا وتختاروا من بينكم من يمثلكم لأنكم إذا رشحتم أنفسكم جميعا، فسوف تتفتت قوي التقدم وتتسلم القيادة القوي المحافظة. سأترككم الآن لمدة ساعة تناقشون الأمر، وحين أعود تكونون قد توصلتهم إلي قرار. وخرجت. عدت بعد ساعة فوجدتهم انتهوا إلي اختيار عباس أحمد ولطيفة الزيات. وبالفعل نجح الاثنان. ولم تنجح الرجعية المصرية في كلية الآداب، بل كان اليسار والوفد في المقدمة. ثم تكونت اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال، وهي أعرض جبهة وطنية تقدمية وكان دوري تقريبا «واسطة خير» بين الطليعة الوفدية والشيوعيين.
وحدث أنني غادرت في الصيف إلي أوروبا، واستطاعت القوي الرجعية أن تجهض مشروع الجبهة الوطنية. واستكمل إسماعيل صدقي المهمة بإصدار التشريعات المعادية للحريات ومصادرة الصحف واعتقال المثقفين من سلامة موسي إلي محمد مندور إلي محمد زكي عبدالقادر. وعلمت فيما بعد أن اسمي كان مدرجا في قوائم الاعتقال. علمت بذلك من وكيل النيابة الذي أصدر أوامر القبض بتهمة الاشتراك في عضوية رابطة مكافحة الاستعمار. ولم أكن شخصيا عضوا في هذه الرابطة إن وجدت. ولكن المنشورات التي تكافح الاستعمار كانت تصلني دائما. وقد قال «المتهمون» إنه يشرفهم أن يكونوا أعضاء في مثل هذه الجمعية لو أنها كانت موجودة بالفعل.
أما جمعية الجرامافون فلم تكن لها علاقة بالسياسة، ولم تكن جمعية بالمعني القانوني.. ولكن الذين يهمهم تذوق الموسيقي الكلاسيكية كانوا غالبا من الشباب التقدمي المستنير.. وفي إنجلترا كنت أحضر مع زملائي هذه الأمسيات التي نستمع فيا إلي كبار الموسيقيين في العالم، ونتناقش حولها دون أن يعني ذلك اشتراكا في ميول سياسية واحدة، وإنما هي جزء من الحركة الثقافية العامة.
أما في مصر فإن الحركة الثقافية لم يكن من تقاليدها الثابتة تذوق الموسيقي ودراساتها كالفن التشكيلي مثلا. وكانت الحركة الموسيقية ذاتها متخلفة. لذلك تكونت جمعية الجرامافون لتزرع تقليدا ثقافيا يتكامل مع بقية أشكال النشاط الفكري والفني، وأيضا لتعوض النقص الكامن في تخلفنا الموسيقي. وقد بدا ذلك كما لو أنه نشاط تقدمي.. وهو بالفعل كذلك دون الارتباط بدلالة سياسية. ولكن التخلف العام كان يجعل من الثقافة الرفيعة نشاطا تقدميا.
وقد وقعت جمعية الجرامافون أثناء الحرب في أزمة، ربما بسببها استضفت الجمعية في بيتي. كنا نتكلم ذات مرة مع بعض أعضاء «المجلس البريطاني» عن نشاط الجمعية فاقترح مدير المجلس أن تنتقل الجمعية إلي المجلس حيث توجد مكتبة موسيقية ضخمة لدي الجيش البريطاني «ويمكن استعارة ما تشاءون». كنت أطلب من الكلية أن تشتري لنا بعض السيمفونيات والكونشترتات، ولكنها بدأت تعتذر بأن الاعتمادات لا تسمح فكنت أدفع من جيبي ثمن الاسطوانات. وبالطبع كان مرتبي محدوداً ولا يمكن الاستمرار علي هذا النحو. لذلك اقترح مدير المجلس أن نستمع إلي الموسيقي التي تحددها في إحدي قاعات المجلس وفعلاً مضت الأمور في الشهر الأول بصورة مرضية.
وفجأة بدأ يحضر لنا اسطوانات لم نطلبها، لموسيقي انجليزية حديثة. ولم تكن هناك موسيقي انجليزية إلا في النصف الأول من القرن، كان لديهم موسيقي عظيم اسمه بيرسل في القرن السابع عشر، ولكن بين هذين التاريخين لم تكن هناك تقاليد موسيقي انجليزية باستثناء الموسيقي الفولكلورية طبعاً. تضايقت وكلمت مدير المجلس بصراحة وقلت له إنه من الصعب تعريف المثقفين المصريين بإلجار قبل تعريفهم ببيتهوفن. وليس الموسيقيون الانجليز المحدثون إلا من الدرجة الثانية، أجابني بصراحة مماثلة: انه من الطبيعي كذلك أن أبرز استعارتي للاسطوانات بأنكم تسمعون الموسيقي الانجليزية. قلت له: في الحقيقة ليست هناك جنسية للموسيقي العظيمة، ولكن «الدعاية» كانت قد وصلت إلي هذه الدرجة للأسف. وقلت لأعضاء الجمعية إن أفضل الحلول عدم الحضور، وحينئذ أقول لمدير المجلس البريطاني أن الأعضاء لا يحبون هذه الموسيقي وانقطع الطلاب عن الحضور، وكان ممن يواظبون صالح عبدون وسليمان جميل وجمال عبدالرحيم ويوسف السيسي وجرانة، وعدت إلي كلية الآداب أطلب الاعتمادات للموسيقي: وحدث أن أصاب الجرامافون عطل فلم تستطع الكلية إصلاحه، وفي هذه الفترة استضفت الجمعية في منزلي.
أظن أن العمل العلمي كان وسيلتي اللاواعية للابتعاد عن السياسة. كنت قد حصلت علي الماجستير من كيمبردج عن لغة الشعر في الأدبين الانجليزي والفرنسي. ثم حصلت علي الدكتوراة من برنستون عن أسطورة بروميثيوس في الأدبين الانجليزي والفرنسي، وكان هذا العمل الجاف يحميني من الانغماس في السياسة، ولو في اللاوعي.
ولكنني اكتشفت أنني كنت أربي الشباب في الجامعة تربية نظرية تقدمية، ثم يأخذهم كورييل في تنظيمه أو أنور كامل في «الخبز والحرية». وقد ألقي القبض فعلاً علي مصطفي سويف في هذه الفترة مع أنور كامل، وكذلك يوسف الشاروني، وقد أصيب سويف والشاروني بالذعر من الاعتقال، وأصبحا بعدئذ يسيران «جنب الحائط» ويبدو أن هذه الخاتمة نتيجة الوداعة التي يتميز بها كلاهما.
ولأنني درست الأدب والنقد دراسة منهجية، فإنني لا أستطيع أن أحدد أسماء بعينها للنقد أو المدارس الفنية التي تأثرت بها، فلقد تأثرت بكل شيء، لأنه ليست هناك حواجز قومية بين الآداب والفنون.. فالكلاسيكية واحدة بين إيطاليا وفرنسا وانجلترا، والرومانسية واحدة بين ألمانيا وغيرها، وهكذا تعلمنا البعد الإنساني للثقافة فكانت الفروق المحلية بسيطة، وكان الجوهر واحدًا، وأي مثقف درس دراسة منهجية سيؤكد لك وحدة الثقافة الإنسانية مهما بالغت في التخصص.
وأظن أنني مدين ل «تين» بفكرة ارتباط الأدب بالبيئة، ولكن دراستي للتاريخ والفكر الماركسي هي التي نبهتني إلي الدورات الحضارية فكنت أرصد العلاقة بين الرومانسية في الموسيقي والرومانسية في الأدب أو أتابع العلاقة بين الكلاسيكية في التصوير والكلاسيكية في الشعر، وهكذا في العصر الواحد. ثم أدرس أسباب هذه الظاهرة وأحللها حسب العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في السياق التاريخي.
العنقاء
ولكني في تلك الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وثورة 1952 كنت مؤرقاً من أهوال الحرب ومن الاغتيالات السياسية في مصر، وبدت الأحوال كما لو أننا وصلنا نهاية المنعطف، فالباشوات لا يريدون أي إصلاح نسبي أو جزئي، والحكومة تتهم كل من ينادي بهذا القدر أو ذاك من التغيير بالشيوعية، كان أي وطني «شيوعياً» في نظر الرافضين للتغيير، وبدا «صدام الأقدار» في الأفق، وفي هذه الظروف بين عامي 1946 و1947 كتبت رواية «العنقاء» التي شطبت منها الرقابة حينذاك فلم أنشرها، وهي رواية ضد العنف لا ضد الماركسية، وكما كتبت في المقدمة كنت أود أن أكتبها عن الاخوان المسلمين ولكني لا أعرفهم كبشر من لحم ودم، فاتخذت من بعض الشيوعيين الذين أعرفهم نماذج روائية أقول من خلالها إنني ضد العنف ولو من أجل الخير، انها ليست رواية مع أو ضد الماركسية، ولكنها رسالة ضد العنف.
وفي هذه الفترة أيضاً كتبت «الرد علي انجلز» وهو لم يزل مخطوطاً إلي اليوم بحوزة ابن عمي فوزي حبشي «راجعت المهندس فوزي حبشي- وهو من القيادات اليسارية- ان المباحث استولت علي المخطوط في إحدي حملاتها»، وهو أيضاً ليس كتابا ضد الماركسية، ولكنه مناقشة في ضوء نتائج العلم الحديث حيث تحتل «الصدفة» و«الاحتمال» مكانة مهمة، وهو الأمر الذي لا يعترف به أو لم يكن يعرفه انجلز وهو يكتب عن الحتمية في كتابه «جدليات الطبيعة» والنسخة الوحيدة منها ودعتها لديك يا غالي شكري أمانة لا تنشر إلا بعد وفاتي وفي الوقت المناسب مع دراسة بقلمك توضح الأمور.
ومن المخطوطات التي لم تنشر أيضاً إلي الآن، مسرحية «محاكمة ايزيس» التي كتبتها عندما عين كريم ثابت مستشاراً صحفياً للملك.
وعلي العموم، فان ما يسمي لدي النقاد بكتاباتي الإبداعية من شعر ونثر، هو ثمرة القلق الحاد الذي يصيبني في الأزمات الكبري بما يشبه الانفجار الوجداني العنيف، ولقد كانت تلك الفترة بين نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية الحرب العربية- الإسرائيلية الأولي، قبلهما بقليل وبعدهما بقليل، من أخطر المراحل التي أشعرت كل مصري بأن «التغيير» قريب، كانت مصر قد وصلت إلي الحافة التي سبق لها أن وصلتها عام 1918 أي أنه كان واضحاً لنا أن ثورة 1919 يمكن أن تتكرر بمضمون اجتماعي جديد، وكان هذا المناخ هو السبب في اختيار صدقي لرئاسة الوزارة عام 1946 ليحول بقوانينه القمعية واجراءاته الاستثنائية دون التغيير الكبير المتوقع.
وكانت عودة الوفد عام 1950 نتيجة طبيعية لكفاح الشعب المصري منذ عام 1945، وعام 1951 ذهبت إلي برنستون في الولايات المتحدة لأقابل النقاد وأتعرف علي مدارس النقد الجديد، وأثناء وجودي هناك احترقت القاهرة، كنت حاصلاً علي زمالة جامعة برنستون لمدة عام، ثم عرضوا علي عاماً آخر فأعددت رسالة الدكتوراة، ولم تكن في البرنامج قبل أن أسافر، وحصلت علي الدرجة العلمية عام 1953 وعدت إلي مصر، كانت ثورة يوليو قد حدثت.
إلي وقت قريب بدا لي الأمر كما لو أنه في كل عقد من الزمان يباغتني افنجار فني، فأكتب شعراً أو رواية أو مسرحية، كان القلق في العهد الملكي والعهد الناصري خصباً، إذ كان هناك أمل، عندما خرجت من الجامعة عام 1954 وذهبت للعمل مترجماً في الأمم المتحدة كتبت عام 1955 «المكالمات أو شطحات الصوفي»، ولما خرجت من المعتقل عام 1961 كتبت «الراهب»، هذا هو القلق الخصب، في زمن السادات كان هناك قلق أيضاً، ولكنه القلق الذي لا يأتي بشعر أو بنثر، أقصد أنه ليس قلقاً خلاقاً.
ثورة يوليو
لما قامت ثورة يوليو 1952، وكنت في الولايات المتحدة، شعرت بأن رأسي في السماء، لأن الأمريكيين كما قلت كانوا في أعماقهم يحتقرون مصر والمصريين، ومن جهة أخري وفي الوقت نفسه شككت في هوية الثورة لقدومها من الجيش، وأحسست بأنها جاءت لإجهاض الثورة الحقيقية. وقد زادت شكوكي بحكم الإعدام الذي أصدرته علي العاملين خميس والبقري في كفر الدوَّار، ثم وصلت هذه الشكوك إلي الذروة بسبب أحداث مارس 1954 حين وقع الانقسام الكبير بين العمال والمثقفين. خرجت بعض المظاهرات العمالية لتأييد عبدالناصر ضد نجيب وخالد محيي الدين، وهتفت «لتسقط الحرية».
وكان ذلك أمراً غريباً ومأسوياً إلي أبعد الحدود، فقد ضربوا قاضي القضاة «رئيس مجلس الدولة» هو عبدالرازق السنهوري وكنا تقريباً علي شفا الحرب الأهلية وانقسام القوات المسلحة، ولكن الصراع انتهي بانتصار عبدالناصر، ثم تأكد هذا الانتصار بنجاته من حادث المنشية، وخرج إلي الساحة الدولية في مؤتمر باندونج عام 1955 وأنجز صفقة الأسلحة مع الكتلة الاشتراكية.
وفي موازاة هذا الخط كانت هناك اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، وكان طموح عبدالناصر لتقوية الجيش وبناء السد العالي قوياً، وكان أمله في الغرب كبيراً، ولكن هذا الغرب أحبط مساعيه فلجأ إلي الشرق مضطراً، وتداعت الأحداث فأمم القناة ووقع العدوان الثلاثي، وخرج عبدالناصر مرة أخري منتصراً سياسياً، وترافق ذلك مع بروز صورته الدولية بين أقطاب كتلة الدول غير المنحازة.
وفي هذه الفترة كانت الجبهة الثقافية مشتعلة بعدة معارك: الالتزام والفن للفن، والشعر الجديد، والعامية والفصحي، وكنت أشرف علي الملحق الأدبي لجريدة الجمهورية، وقد كتبت مقالي المعروف «من تلميذ إلي أستاذه» وهو المقال الذي عارضت فيه موقف طه حسين وانحزت فيه لتوجهاتي الأساسية، أي «الأدب للحياة» وكان جيل الشباب وقتئذ من أمثال محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم يؤكدون المعاني التي سبق أن أشعلتها في مقدمات «بلوتلاند» و«في الأدب الإنجليزي» و«فن الشعر» و«بروميثوس طليقا»، ولكني أظن أن بعضهم جنح بهذه المعاني إلي التطرف قليلاً ربما كان هذا التطرف رد فعل لتطرف الرجعية الأدبية في مصر، غير أن الحصاد كان انتصار اليسار الأدبي، فقد أعطانا الشعر الجديد نماذج ممتازة في بعض أعمال صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي، وأعطتنا العامية المصرية نصوصاً مسرحية جيدة لنعمان عاشور وألفريد فرج، وأعطتنا القصة القصيرة يوسف إدريس، وأعطتنا العامية أيضاً الشاعر صلاح جاهين، وهكذا حسم الإبداع المصري المسائل النظرية، ونضج جيل جديد من النقاد أبرزهم غالي شكري ورجاء النقاش وعباس صالح.
وفي عام 1958 دعتني جامعة دمشق، بعد الوحدة المصرية- السورية، لأعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي، وقد أمضيت وقتاً جميلاً ومفيداً مع الأساتذة والطلاب السوريين، وما زلت احتفظ بذكري طيبة لهذه الفترة القصيرة التي أمضيتها في الشام، وقد كانت قصيرة لأن الدكتور ثروت عكاشة، وزير الثقافة، تفضل فأرسل يدعوني إلي القاهرة سريعاً، طلب مني أن أعمل مديراً عاماً للثقافة، ولم أكن أستطيع أن أعتذر، ولكن السوريين تضايقوا كثيراً، فقد نظروا إلي الأمر علي أنه يتجاوز الحدود، وكادوا يتدخلون لولا أنني طلبت الإذن في العودة، ومن جانبهم كانوا لطفاء وقدروا مشاعري وأخيراً عدت إلي القاهرة، وتسلمت عملي بالفعل، وبدأت أعد الخطط والمشاريع.
الاعتقال
وفي 28 مارس 1959 طرقت الشرطة السرية بابي، دخلوا وفتشوا البيت والمكتبة، وتناول الضابط بعض الكتب، وقبل أن يخرج بقليل فتح الدولاب «الخزانة» وإذا به يجد مخطوطاً كتب عليه «العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح» فسألني: ما هذا؟ وقلت له: «إنها رواية» سألني: «هل هي رواية شيوعية؟» قلت له: «اقرأها»، وأخذها بالفعل، ولكني طلبت منه أن يضعها في «حرز» حتي أستطيع أن أطالب بها فيما بعد.
ثم أخذوني في سيارة إلي سجن القلعة، وكان يركب معي الكاتب شوقي عبدالحكيم، وبعد فترة رحلنا إلي سجن أبي زعبل الشهير، وهو السجن الذي يقضي فيه عتاة المجرمين فترة «الأشغال الشاقة» حيث يقطعون الحجر من الجبل.
وفي هذا المعتقل مورس التعذيب، سواء بالضرب الفردي أو الجماعي، بالسياط أو «بالشوم» أو بتقطيع الحجر.
وكان قد سبقنا إلي المعتقل في يناير الكثيرون من المثقفين والعمال، أغلبهم من الشيوعيين، وأقليتهم مثلي من الديمقراطيين، ولكني لم أتصور قط أن المعاملة ستكون علي هذا النحو البشع، وخاصة مع فريق من الوطنيين الذين يؤيد بعضهم الثورة، ويؤيدها البعض الآخر بشروط، وينقدها البعض الأخير دون أن يتجاوز هذا النقد حدود العمل السلمي.. فالشيوعيون المصريون، بعكس التيارات الإسلامية لا يحملون السلاح، كل مضبوطاتهم هي الكتب والنشرات.
وبالنسبة لي، فإنني أظن أن موقفي من «الوحدة العربية» ومن «الديمقراطية» هو سبب اعتقالي، وهو موقف عبرت عنه في القليل مما سمح بنشره، ولم أستطع التعبير عنه في الكثير مما لم يسمح بنشره.
وقد أمضيت وقتي في المعتقل بين التعليم والتعذيب. أي أنني حاضرت في زملائي المعتقلين، وألقيت عدة محاضرات في الأدب والثقافة، وكان العمال يتابعونها في العنابر التي تضم مجموعات، وتعرضت كغيري، وربما أقل، لصنوف شتي من الاهانات وقطع الحجر والضرب، وقد ساعدني البعض في تقطيع الحجر.
ولسوء حظي أنني عشت اللحظات التعسة الأليمة التي تعرض فيها شهدي عطية الشافعي للقتل، وكأن الأقدار التي أتاحت لي «بداية معرفة» مع هذا الرجل النبيل علي ظهر الباخرة من انجلترا إلي مصر، ثم أتاحت لي معرفته أثناء الهرب من مطاردة الشرطة في العصر الملكي، قد أتاحت لي أن أشهد نهايته المأسوية في أحد معتقلات الثورة التي كان يؤمن بها.
وأشهد بأن الشيوعيين المصريين الذين تعرفت عليهم في هذا المعتقل كانوا شجعاناً في مواجهة أدق الظروف، وكانوا شرفاء وعلي درجة عالية من الروح المعنوية المستبسلة، وربما كانت هذه الفترة العصيبة وحدها هي التي جعلتني اكتشفهم أكثر من أي وقت مضي.
وفي المعتقل بدأت خيوط مسرحية «الراهب» تنسج نفسها في أحداث وشخصيات ومواقف اخترتها من العصر القبطي.
وذات يوم جاء ضابط أو شرطي، لا أذكر تماماً ينادي علي بعض الأسماء، وكنت من بينها، وطلب منا أن نحضر إلي إدارة السجن برفقة ما لدينا من ملابس مدنية، وفهمنها أنه «الإفراج» كنا مجموعة صغيرة، أذكر منها الدكتور عبدالرازق حسن.
وأفرجوا عنا فعلاً.
إنها، بالطبع، تجربة مهمة، ولكنها تعبر عن المسيرة الغريبة لثورة يوليو، فلقد كان من المفهوم أن تصطدم بمن أشهروا في وجهها السلاح، ولكن لم يكن مفهوماً هذا الصدام مع قوي تنادي بالشعارات ذاتها تقريباً، ولس من تفسير لذلك سوي غياب الديمقراطية الذي كرسته الوحدة المصرية- السورية بقيامها علي أساس غياب الأحزاب أو علي أساس ما دعي بالاتحاد القومي.
انها مرحلة غريبة في تاريخ البلاد، وربما لا ندري أسرارها الحقيقية إلي الآن، ولكنها تعني كذلك أن الطابع المحافظ من جهة، والطابع العسكري من جهة أخري، في تكوين الضباط الأحرار، لم يكن بعيداً عما جري لطلائع الثقافة والسياسة المصرية في السجون والمعتقلات.
إلي الجمهورية
عدت إلي الجمهورية ولكني لم أبق فيها طويلا، بقيت عاما وشهرا واحدا، ففي أول فبراير 1962 بدأت عملي في «الأهرام» بالصفة ذاتها التي كانت لي في «الجمهورية» وهي صفة المستشار الثقافي للدار.
ومن غرائب الأحداث في تلك الآونة، أن وزارة الثقافة أحيت بعض المجلات القديمة «كالرسالة» و«الثقافة» وولت عليها أحمد حسن الزيات ومحمد فريد أبوحديد، كما لو أن شيئا لم يتغير. كان ذلك قد بدأ عام 1963 أي قبل عامين مما أذاعته الدولة حول «مؤامرة» مسلحة يديرها تيار الإسلامي السياسي. وفي عام 1965 تم إحباط هذه المؤامرة قبل نجاحها، وأعدم بعض قادتها. في هذا الوقت أيضا بدأت الحملة الضارية علي شخصي في مجلة «الرسالة» بقلم الشيخ محمود شاكر. هذه الحملة باختصار كانت المدفعية الفكرية التي تمهد الأذهان لما سيقع من أحداث. وقد كنت الهدف الرئيسي للحملة بغض النظر عن المناسبة.. وهي مقالاتي في الأهرام التي كان عنوانها الرئيسي «وعلي هامش الغفران».
لم يكن المقصود ابدًا هو الحوار حول منهج هذه السلسلة أو مادتها العلمية أو أي شيء له علاقة بجوهر العلم.. وإنما كان المقصود هو اتخاذي جسرا إلي أهداف أخري.. والدليل أن الحملة المذكورة تناولت أعمالي كلها، وليس «علي هامش الغفران» فقط. ثم إنها تناولت هذه الأعمال من منظور شخصي سياسي ديني، وليس من منظور ثقافي أو علمي أو أكاديمي.
وبالطبع كانوا في ذلك الوقت أقلية وفي موقف ضعف يستند فقط علي الإرهاب أو الاغتيال الفردي الذي وقع لأحمد ماهر والنقراشي وسليم زكي، وبث القنابل في دور السينما، ومن يلجأ إلي العنف بهذه الطريقة لا يلجأ قطعا إلي الرأي العام، لأن من معه الأغلبية لا يحتاج إلي التآمر ولا إلي العمل السري ولا إلي جهاز سري أو ما سمي بالنظام الخاص.
كان عبدالناصر في ذلك الوقت في أوج قوته، وأحد قادة الكتلة الثالثة في العالم، ولذلك فإنني أشك في قوة التيار الديني السياسي حينذاك، مهما كانت قوة سندهم خارج البلاد.
وطالما بقيت الحملة ضدي شخصية لم تكن هناك مشكلة، ولكن محمود شاكر في أحد مقالاته تساءل كيف أكون مستشارًا ثقافيا لأكبر جريدة في العالم العربي الإسلامي؟ حينئذ لم تعد المشكلة شخصية، فقد أصبح الأهرام طرفا مباشرا، لذلك كتبت استقالتي وقدمتها إلي هيكل، وقلت له: لقد سكت حين كانت الحملة في هجائي شخصيا، أما الآن وقد أصبح الأهرام بسببي هدفا للهجوم، فإني أرجو أن تتفضل بقبول استقالتي. سألني هيكل: كم مقالة تتكون منها هذه السلسلة التي تكتبها؟ فقلت تسع مقالات. وكان الأهرام قد نشر المقالة الخامسة والحملة المضادة في ذروتها، ففاجأني هيكل بقوله لتكن السلسلة تسعة عشر مقالا. قلت له هذا بحث علمي من تسع حلقات فلا يمكن الإضافة إليه. قال لي هيكل: هذا الأهرام يمثل قلعة للاستنارة، فإذا انتصروا علينا قل علي مصر العفاء. وكان يقصد أصحاب الحملة وما يمثلونه من فكر. قلت له: ولكني محرج لأنهم يؤلبون علي وعليكم الشعور الديني، فقال: هذه معركتنا، ومصر هي قلعة التنوير في العالم العربي، وإذا سقطت سقط كل شيء، للمعركة أبعاد تتجاوز الأشخاص. وانتهي الموضوع عند هذا الحد.
وسام الاستحقاق
في عيد العلم عام 1967 أهداني الرئيس عبدالناصر وسام الاستحقاق من الطبقة الأولي واقترن الوسام ببعض الكلمات التي تشيد بدوري في الثقافة المصرية.
وبالرغم من أنني كنت قد سحبت استقالتي من الأهرام إلا أنني كنت قد اتخذت قرارا داخليا حاسما بالانسحاب من عالم الكتابة. وأنا أذكر هذه القصة للمرة الأولي، إذ لم يفهم أحد آنذاك لماذا استأجرت مكتبا في شارع سراي الجزيرة في الزمالك وبدأت نشاطا جامعيا بإعداد الطلاب المصريين في اللغة الإنجليزية وآدابها للجامعات البريطانية. وقد اتصلت بهذه الجامعات لترتيب الاتفاق. وكان قراري هو إعداد هذا المكتب خلال عام، ثم استقيل مرة أخري وأخيرة من الأهرام. أي أن موافقتي لهيكل علي سحب الاستقالة كان مجرد تسكين مؤقت للألم، فقد شعرت بجرح حقيقي في نفسي، إذ بعد ثلاثين سنة من الكفاح الأدبي والجهاد الثقافي يأتي من يقول لك «يا قبطي يا كلعون» فإننا نكون قد خرجنا من دائرة المعقول إلي دوائر سوداء من البشاعة اللانهائية. لذلك فإن كرامتي كإنسان جعلتني أفكر في أنني أصلا وقبل كل شيء أستاذ، وكأي طبيب أو مهندس أو محام فإن التعليم حرفة يمكن أن اشتغل بها في مكتب كما يفعل هؤلاء وأكسب رزقي بكل تأكيد إذا صبرت سنة في التحضير حتي تستقر الفكرة في أذهان الناس. وفي هذا المكتب قمت بتدريس غالي شكري وحسن الجريتلي وليلي حافظ إسماعيل دراسات عليا، وبعض الطلاب الإيطاليين، كان الجميع حوالي ثمانية طلاب. ثم فوجئت بمصر تقطع علاقاتها الدبلوماسية مع بريطانيا، فأصبح الاستمرار شبه مستحيل بالنسبة للطلاب الذين ينوون استكمال دراستهم في إنجلترا. لذلك اضطررت إلي إيقاف هذا العمل الذي كان يمكن أن يغير مساري تماما، فإنني أعتقد أنني معلم، ولقد نجح جميع طلابي الذين ذكرت أسماءهم بتفوق ملحوظ.
ثم أقبلت حرب 1967 فغيرت مسارنا جميعا.
قبل الهزيمة بعامين كنت قد عثرت علي مخطوط «مذكرات طالب بعثة» كما كنت قد استنسخت من «العنقاء» عدة نسخ علي الآلة الكاتبة. وكان البوليس السياسي كما قلت قد أخذ المخطوط الوحيد. وهو المخطوط الذي كنت قد تركته عند طه حسين ثم أخذته عام 1951. ولما عدت من الأمم المتحدة في ديسمبر 1956 بعد العدوان، فكرت في نشر «العنقاء» وسلمت نسخة لدار النديم التي يملكها لطف الله سليمان عام 1957. وكانت هناك مفاوضات مستمرة بيننا لنشرها. وكانت «الدار المصرية للكتب» وهذا اسمها مؤسسة تقدمية. ولكن لطف الله سليمان دخل المعتقل معنا، فبقيت النسخة في المكتبة حتي خرجنا، وردها لي مع إبراهيم عامر. وكانت هذه النسخة هي الوحيدة الباقية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.