أستاذنا وديع فلسطين، عرفته عام 1965، ومازال الوداد بيننا، وقد أخذت من علمه، وأفدت من كتبه الشئ الكثير، ولم أكن متميزاً عن غيري في ذلك ، فقد آذر كثيرين، ويكفي أنه يعرفك ويقف علي الموضوع الذي تدرسه، ليسعفك بقصاصات وفيرة اقتطعها من الجرائد والمجلات العديدة التي يطالعها يومياً، والتي تتصل بموضوعك، بل انه يوافيك أينما كنت، في مصر أو خارجها، بما يكتب عنك، أو بمقالات أو كتابات يرد اسمك فيها، وهكذا هو صادق الود مع الذين أوقف عليهم مودته وهم كثر. ونظراً لصداقاته القوية مع عشرات الأدباء في مصر والعالم العربي والمهجر، فإنني كنت استمتع بحكايا كثيرة عنهم تستحق الإصغاء، وتستهوي المشغوف بمعرفة أخبار الشخوص والتي لا وجود لها في كتب أو صحف، لأنه اكتسبها من علاقاته بهم، وهي حكايات مفيدة في معرفة نفوسهم وآدابهم، ولو كنت سجلت هذه الأقوال والمذكرات لكونت منها كتاباً نفيساً. أعلام عصره وكتابه «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره» الصادر في دمشق 2003 ويقع في جزءين كبيرين هو من قبيل الأحاديث المستطردة التي رواها أو كتبها عمن عرفهم من الأدباء الذين سبقوه أو عاصروه، وهذا الكتاب تمتزج فيه الذكريات بالواقعات إلي جانب التعقيبات الشارحة، وبعض التفصيلات البائحة بالمكنون الخفي، وليس هناك ما يمنع من أن يورد حادثة ويشبعها شرحا وتعليقاً مع تبيين أثرها في حياة المترجم وأدبه، والمشاهد التي أبرزها في حياة كل مترجم ليست بالضرورة توضح المراحل المختلفة في حياة الشخص من حدثان نشأته، إلي ختام رحلته، ولكنها تكشف عن مواقف وصور لفها الخفاء، وإذا كانت هذه المشاهد أو بعضها، لا تنتهي إلي نتيجة حاسمة، فإنها تعين علي تكوين رأي وإصدار حكم. وثمة ملاحظة مهمة يقف عيها القارئ وهي كتابة هذه التراجم بطريقة القص التي أهم مقوماتها ترابط الصور والمواقف، وتسلسلها، وتسجيل مضامينها، وأحياناً يدوّن ما دار من حوار وكلام، وكل هذا يجعل القارئ الطالع في شوق لاهف، والكتاب رد فعل لعلاقاته بأعلام زمنه مثل طه حسين وعلي آدهم ومحمود تيمور ومحمد صبري السربوني ومصطفي الشهابي، وعشرات غيرهم، وفي كل ترجمة تقرأ عن صاحبها وكاتبها. الناقد والحاسة الناقدة عند صاحبنا قوية وصائبة، وتتجلي في كثير من أعماله، ونمثل لذلك بكتابين من كتبه هما: «قضايا الفكر في الأدب المعاصر» و«مختارات من الشعر العربي المعاصر وكلام في الشعر». والكتاب الأول فصول في النقد الأدبي يجنح فيه بعد مناقشات حارة إلي المثال والجمال، ففي أحد فصوله يهاجم الواقعية، ويتهمها بالقصور عندما تتناول الجانب المشين المعتم في الواقع، وتعرض لحالات فردية شاذة، وتنأي عن الجوانب الصحيحة المضيئة في الحياة، مع أن هذا وذاك يمثلان الواقع، وينقم علي هذه الواقعية التي تنقل الواقع الفج كما هو بقبحه، وعبارته السوقية التي تغث النفس، ويستنكر ما يأتي فيها من إثارة مقصودة «وهوس حول النزعات والغرائز» وتصوير للنفوس علي طبيعتها، وحسب أهوائها، دون تصويب خطأ، أو ملء ثغرة، ولا يؤخذ من هذا أنه ينكر هذه الواقعية، وإنما ينتقد تجاوزاتها ومبالغاتها، ويجب أن يكون مفهومها أن مشاكل الحياة شيء، وتناولها الفني شيء، وتناولها الفني شيء مختلف، فالفن يرفع مستوي الواقع دون تزييف. وفي فصل آخر يتناول قضية «الإبانة والرمز» ونراه ينتصر للقول الذي فيه إفصاح وإعراب، وينتقد العياص والإبهام وكل ما استتر وخفي معناه، وهذا يستلزم أن تكون الفكرة محددة، والرأي واضحاً، والقول صريحاً، وقد يلجأ الكاتب إلي الاستتار وراء رموز إذا كان مضطراً إلي ذلك مثل ابن المقفع في «كليلة ودمنة» مع أن الرمز فيها لائح. فإذا كان الأديب غير مضطر إلي الرمز فلماذا يأتي تعبيره مستغلقاً لا يفصح عن شيء يقول: «صرنا نقرأ عن مخدات الربيع أو عن ابتسامة الجدار أو عن برج الضباب الغارق في وحل العبث وكل هذا كلام مرصوص تقرأه في سياقه، ثم تقرأه منفصلاً عن سياقه فلا تفهم منه شيئاً اللهم إلا أن يكون فهمك رجما بالغيب» وهذه الأمثلة كثيرة في كتابه جئنا ببعضها، والعاقل الرشيد لا يجد مبرراً لهذا الكلام الغريب المعمي. وما أكثر القضايا الحية التي أثارها في هذا الكتاب مثل قضية «الإلتزام في الأدب» التي نفر منها، ورأي أن الأديب حر فيما يعالجه من مشكلات، ويتناوله من موضوعات، وفي فصل آخر ينتقد أسلوب الإثارة وما يشتمل عليه من مبالغات ومغالطات، ويدعو إلي المنهج العلمي الذي يخاطب العقل ويقنع بالحجج والبراهين، وفي فصل آخر ينبذ النقد المنحرف عن الصواب والذي يتعطل فيه العقل السليم، وينتج عنه الوبال والسقوط، إلي آخر ما جاء في كتاب «قضايا الفكر..» والخلاصة أنه يعمل علي استنقاذ الأدب من المزالق، والفوضي، والجدل السلبي، وتوجيه النقد إلي وجهته السليمة ووسائله: الأسلوب العلمي، والنقد الموضوعي علي قدر الإمكان، والذوق المثقف. كلام في الشعر أما الكتاب الثاني «مختارات من الشعر العربي المعاصر..» الصادر عن الأهرام عام 1995، فيتضمن تنظيراً وتطبيقاً علي نطاق واسع، وهذه المختارات الشعرية أوردها من أشعار خمسة وثلاثين شاعراً عربياً من جميع الأقطار العربية، واللافت للنظر أنه ضمنها مختارات الشعراء من الصومال وموريتانيا، وهما قطران عربيان لا يشعر القارئ بتواصلهما الثقافي والأدبي معه، وكل هذه الأشعار من الشعر العمودي الحر الأصيل، وليس بينها نص واحد من الكلام التفعيلي، لأن سليقته لا تتجاوب إلا مع الشعر الجاري علي سنن موسيقي التراث الشعري. ومختاراتنا من الآداب في الغالب تناسب منازعنا، وتتجاوب معها أرواحنا، وتتوافق مع نظراتنا لأشياء، وتتلائم مع أمزجتنا، وأعتقد أن مختارات وديع فلسطين من الشعراء خضعت لمنازعة، وأظهرت اتجاهات ذهنه، وكشفت عن ميله إلي الشعر الغزلي، وما فيه من عواطف ومشاعر، والشعر التأملي الذي يتطلع إلي المجهول، ويطيل النظر في الوجود وشعر الحماسة والوطنية، وغير ذلك، وهو اختيار موفق، يظهر حسه الفني ويبرز درايته الواسعة بالشعر. والقصائد التي اختارها وديع فلسطين وتزيد عن مائه، عرّف بقائليها، وذكر ملامحها، مع تقدير أخيلتها، وتأمل صورها، ووقف علي المشاعر والاحساسات الباطنة التي شكلت تعبير الشعراء فيها، و مع أن أخيلة الشعراء وأقوالهم تنساب في اتجاهات عديدة داخل القصائد، فإن ناقدنا كان عارفاً بمواضعات كل قصيدة قادراً علي أن يجعل لها حدوداً واضحة، بتحديد معانيها، والتبصير بأغراضها، وتعيين خصائصها، وهو عمل يحتاج إلي صبر وطول بال. ولأستاذنا الفاضل كتب أخري يضيق المقام عن تناولها باستفاضة، لكثرة ما تشتمل عليه من رؤي، وتحليلات دقيقة واستقراء مثل كتبه عن مي زيادة، وإبراهيم ناجي، وعبدالرحمن شكري، وهي وإن كانت تراجم غيرية، فإنها تشتمل علي مادة نقدية وافرة. ترجمته ولد وديع في مدينة أخميم من أعمال سوهاج في أول أكتوبر 1923 لعائلة تنتمي إلي بلدة نقادة/ قنا، وكان أبوه فلسطينياً حبشياً موظفاً لدي الحكومة السودانية، ويقيم مع زوجته في عطبرة، ولما حان موعد ولادته رحلت الزوجة إلي أهلها في أخميم ليتعهدوها بعنايتهم، وهكذا كان مولده، ثم عادت الزوجة مع وليدها إلي «عطبرة» وفي نحو عام 1930 أحيل أبوه إلي التقاعد، فبرح عطبرة إلي الجيزة حيث كانت نشأته الثانية. أدخل وديع مدرسة ابتدائية في الجيزة، ثم مدرسة ثانوية في منيل الروضة ثم التحق بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وفي عام 1942 حاز منها شهادة بكالوريوس الآداب قسم الصحافة. ولم تطل عطلته بعد تخرجه فسرعان ما عمل في إدارة جريدة الأهرام «قسم التوزيع» عدة سنوات، ثم انتقل للعمل بإدارة مجلة المقتطف وجريدة المقطم، وأخذ يحرر فيهما، وكان يكتب كثيراً من افتتاحيات المقطم، ورئيساً لقسمها الخارجي، وعضوا في مجلس إدارتها، وأثناء عمله بهاتين الدوريتين لم يكن بعيداً عن الأدب وأعلامه وأجوائه فقد كتب فصولاً أدبية ونقدية فيهما وفي مجلة «الرسالة» و«صوت العرب» و«منبر الشرق» وغيرها، وكان من أوائل الذين كتبوا عن نجيب محفوظ، ويحيي حقي في زمن لم يكونا فيه مشهورين. ومن أبرز أعماله في تلك الفترة المبكرة من عمره تدريس علوم الصحافة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان «بادوا» مدير الجامعة الأمريكية «صار سفيرا لأمريكا في مصر فيما بعد» قد عرض عليه تدريس مادة الصحافة، فاعتذر لصغر سنه، وفي زمن تال عرض عليه مكلنن رئيس قسم الصحافة، تدريس علوم الصحافة فقبل، وظل يدرس هذا العلم من عام 1948 إلي 1957، وكان من تلامذته لويس جريس الصحفي المعروف، وليلي رستم المذيعة، وليلي الحلو التي عملت بجريدة الأخبار، ومعين بسيسو الشاعر الفلسطيني وغيرهم. وكان سعيد السحار صاحب «مكتبة مصر» قد أنشأ «لجنة النشر للجامعيين»، وكانت تنشر أعمالاً أدبية للجامعيين مثل نجيب محفوظ، وعبدالحميد جودة السحار، وعادل كامل، وعلي باكثير.. وقد انضم إليهم وديع فلسطين وحضر مجالسهم، ونشر مسرحية «الأب» التي ترجمها عن الأديب السويدي «أوجست سترندبرج» وعلي ما أعتقد كان هذا أول كتاب له. وفي عام 1945، أي وهو في الثانية والعشرين من عمره أنشأ مع إبراهيم ناجي الشاعر رابطة الأدباء، وكان هو نائباً لرئيسها، وتوالي انتخابه نائباً للرئيس حتي توقفت عام 1952، وهذه الرابطة التي ضمت كثيرين، امتداد لرابطة الأدب الجديد التي أنشأها أحمد زكي أبو شادي ثم نهضت مرة أخري تحت اسم «رابطة الأدب الحديث» ووديع فلسطين أحد أعضائها المؤسسين. العضو بالمجامع اللغوية والأستاذ وديع منحاز بكليته إلي لغة الضاد، فهو مع الفصحي في الكتابة، وليس مع العامية الدارجة، ويميل إلي ترجمة المصطلحات العلمية الأجنبية إلي العربية، أو تعريبها، أو استحياء مصطلح عربي قديم إذا كان موافقاً للمصطلح العلمي الأجنبي، ولكنه ليس مع بقاء المصطلح اللاتيني لاتينياً وتابع من قالوا بكتابة العربية بالحروف العربية، وليس بالحروف اللاتينية كما اقترح عبدالعزيز فهمي باشا رئيس مجمع اللغة، وهو لا يترخص في اللغة والنحو، ويتمسك بصحتهما في الكتابة ويقول: «من لا يعرف لغته فخير له أن يثني قلمه عن الكتابة» وله مواقف أخري تناصر العربية الفصحي، لذلك انتخب عضواً مراسلاً لمجمع اللغة العربية بدمشق، وانتخب عضوا مؤازراً في مجمع اللغة العربية الأردني، وهذا يطمئن القارئ إلي أن ما يطالعه من كتاباته صحيح من الناحية اللغوية، ويمكن أن يؤخذ به وأستاذنا وديع، مترجم، وهو يجيد اللغتين العربية والإنجليزية إجادة تمكنه من الترجمة عن الإنجليزية وإليها، وقد اكتسب خبرة واسعة في هذا المجال، لذلك له صفة استشارية لدي مركز جريدة الأهرام للترجمة العلمية والنشر، ومن مترجماته: «فلسطين في ضوء الحق والعدل» عن هنري كتن و«استقاء الأنباء فن: صحافة الخبر» عن جوليان هارمس، و«مقدمة إلي وسائل الاتصال» عن إدوارد واكين، و«علي درب الحرية». ترجمة ذاتية للزعيم الزنجي مارتن لوثر كنج وقد فاز الأستاذ وديع بعدد من الجوائز والنياشين نتيجة لجهوده في الصحافة والأدب والترجمة، مثل فوزه بجائزة فاروق الأول للصحافة الشرقية، ونيشان الاستحقاق المدني الاسباني من طبقة كوماندر، والحديث يطول بنا لو تتبعنا مترجماته، ومؤلفاته، والصحف التي كان رئيساً لتحريرها مثل مجلة «الاقتصاد والمحاسبة» أو التي كان مراسلا لها مثل «قافلة الزيت» أو التي كتب فيها مئات المقالات، ويطول حصرها، ولا أري أستاذي بعين الرضا، وإنما بالعدل والحق، وهو ينتمي لجيل العظماء الذين مضوا، وإن كان يعيش بيننا أطال الله بقاءه.