أصدر الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف منذ أيام قرارا رئاسيا بحظر انتقال أي من كبار رجال الدولة ونوابهم ورؤساء الإدارات إلي مؤسسات القطاع الخاص التي تعمل في نفس مجالات عمله السابق، إلا بعد عامين من تاريخ تركه للعمل في الأجهزة الحكومية، وبما يتفق مع مواثيق الأممالمتحدة الصادرة حول محاربة الفساد. يأتي هذا في إطار موقف مشترك للرئيس ميدفيديف، ورئيس وزرائه فلاديمير بوتين، لفك الارتباط الفاسد بين السلطة والثروة، وفي ظل تطورات سياسية واقتصادية، تواجه الإدارة الروسية، في مقدمتها صورة الحكم علي مدي السنوات القليلة القادمة. في إطار هذه التطورات أكد رئيس المجلس الأدني للبرلمان الروسي أن الثنائي الحاكم فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف سيستمران في الغالب في السلطة بعد الانتخابات الرئاسية في 2012، ولم يكن هذا التصريح بعيدا عن جدل الحكم والسلطة الدائر في روسيا حاليا، كما لم يكن بعيدا عن أجواء احتفالات الشيوعيين وغيرهم في روسيا في العام الحالي، بالذكري الثلاثين بعد المائة لمولد الديكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، ووضع أكاليل الزهور علي قبره، وسط جدل يعتمل في الدوائر الروسية حول ما إذا كانت البلاد في حاجة إلي زعيم جديد علي غرار ستالين الذي لا يزال محل تقدير كبير من جانب مئات المواطنين الروس. بينما تواجه روسيا صعوبات ومتاعب داخلية جعلت ملايين الروسيين ينظمون " يوما للغضب " في مطلع العام الحالي، بمشاركة 50 مدينة روسية، للمطالبة بتخفيض الضرائب، وتوقف الحكومة عن حماية الطبقات الثرية علي حساب الشعب، فقد بشرت مصادر أخري عالمية بأنباء مغايرة مؤداها أن روسيا ستصبح أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، بحلول عام 2030، والخامسة علي مستوي العالم، ضمن مجموعة قوي صاعدة عالمية منها الصين وروسيا والهند والبرازيل والمكسيك وأندونيسا وتركيا. وفي خضم مرحلة انتقالية تمر بها روسيا، وفي محاولة لاستعادة مكانها كقطب دولي، تشهد البلاد تطورات داخلية متلاحقة تنبئ بمزيد من التحولات السياسية والاقتصادية، في خضم أزمة عالمية فرضت تداعياتها علي النظام الدولي، بكل أطيافه. متاعب قوة عظمي لم يكن الضباب المحمل بالغازات السامة التي يعانيها سكان موسكو من جراء حرائق الغابات، والانتقادات الحادة للحكومة الروسية بسبب الإهمال والتقاعس، بأقل تأثير من ضباب الأزمة العميقة التي تعانيها دولة لا تزال تمتلك أهم سمات القوة العظمي سياسيا وأمنيا وعسكريا. ذلك أن روسيا تمثل بامتياز نموذج الدولة التي تجسد قوة الميزات الجيوسياسية والطبيعية والبشرية، والتي تنتج حالة أقرب إلي " عبقرية التنوع ". فروسيا هي أكبر دولة في العالم من حيث المساحة التي تبلغ 17 مليونا، و75 ألف كيلو متر مربع، وتتوزع أراضيها بين قارتي آسيا وأوروبا، فتمثل جسرا بينهما، وكان الأديب الروسي الشهير فيدور دوستوفسكي يعلق علي موقع روسيا بقوله إنها تبدو آسيوية للأوروبيين، وأوروبية للآسيويين. وفضلا عن تصدر روسيا لدول العالم في انتاج موارد الطاقة، والغاز الطبيعي، ( النفط، الحديد، النيكل، الألماس، الفوسفات، الفضة، الرصاص، الذهب، الأخشاب ) فلدي روسيا بنية القوة البشرية، رفيعة المستوي التعليمي، ولديها البرنامج الفضائي، وهي صاحبة أول محطة مأهولة في الفضاء، وأحد أقوي جيوش العالم البالغ عدده أكثر من مليون فرد، محتلة المركز الثامن عالميا من حيث الإنفاق العسكري، ولدي مخازن روسيا من الأسلحة النووية مايربو علي 16 ألف رأس نووي، وهي صاحبة ثاني أكبر مخزون عالمي من الصواريخ الباليستية بعد الولاياتالمتحدة، كما تحتكر روسيا حوالي 30 % من تجارة السلاح العالمية. وهذه الميزات التي تجتمع كلها لدولة روسيا، هي التي لاتزال تضعها في موقع المناور الجيوسياسي الأول، والتي تضعها الولاياتالمتحدة في اعتبارها، علي الرغم من أن الساحة السياسية تزخر الآن بقوي صاعدة في مقدمتها الصين والهند والبرازيل. ولكن روسيا ، هي أيضا الدولة التي انبثقت علي إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، لتفقد مكانتها كقطب عالمي علي المسرح الدولي،وليكون ذلك هو ( البرزخ ) الذي نقلها من بنية القوة الشيوعية الأولي في العالم، إلي دولة تجرب حظها في النظام الرأسمالي، متخلية عن التخطيط الاشتراكي المركزي، وملكية الدولة للاقتصاد وأدوات الإنتاج، والدخول في مرحلة بناء اقتصاد السوق، ليعني ذلك المرور بمرحلة انتقالية مؤلمة بين النظامين علي الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي. هذه المرحلة خلفت عدة تداعيات سلبية، من أهم ظواهرها اتباع نموذج سيئ للخصخصة، وبيع الاقتصاد كان من نتيجته التداعيات السلبية وأسوأها أن عدد العاطلين عن العمل في روسيا يدخل في دائرة الرقم 6 ملايين فرد (2010 )، ويبلغ عدد المواطنين الذين تقل دخولهم عن الحد الأدني للمعيشة قد زاد خلال عام واحد بمليون شخص، وتتوقع التقارير أن يفقد نصف مليون شخص وظائفهم خلال العام الحالي. وهناك توقعات بتزايد مشكلة البطالة في المدن التي تعتمد علي منشأة اقتصادية، تشكل مصدر الرزق الرئيسي لجميع السكان. وهناك أيضا مشكلات الفساد، وسوء الإدارة، وتعثر الاستثمارات الأجنبية لتحتل روسيا المرتبة 120 من حيث كونها دولة مناسبة للاستثمارات الأجنبية، الأمر الذي يمثل بيئة سيئة لنمو الاقتصاد، وتوفير فرص العمل. وبالرغم من أن روسيا تمتلك قدرات تصنيعية هائلة، خاصة في مجالات صناعة الفضاء والهندسة النووية والعلوم، ويعد اقتصادها ضمن أهم عشرة اقتصادات في العالم، غير أن الإنفاق العسكري يعد عبئا علي الاقتصاد، يخفف منه نسبيا الأرباح التي تتحقق لارتفاع أسعار النفط والغاز الطبيعي، خاصة أن غالبية صادرات روسيا هي من المواد الخام وصادرات الطاقة. وقد أعلنت هيئة الإحصاء الفيدرالية الروسية أن حجم استخراج النفط الروسي بين عامي 2010 2012 عند مستوي 493 مليون طن، بينما يتوقع ارتفاع حجم صادراته إلي مستوي 247 مليون طن، تنخفض في 2012 إلي 244 مليون طن. كما انخفض حجم استخراج الغاز بنسبة 1. 12 % بينما يتوقع انخفاض حجم تصديره 3. 10 % . بينما أفاد البنك المركزي الروسي بأن حجم احتياطيات روسيا من الذهب والعملات الصعبة ارتفع 500 مليون دولار ليبلغ 4. 414 مليار دولار في منتصف العام الجاري. سؤال الديمقراطية منذ أيام، أعلنت أيلا بمفيلوفا مستشارة الكرملين لحقوق الإنسان استقالتها من منصبها، احتجاجا علي قرار الرئيس ميدفيديف الذي صدر بما من شأنه توسيع صلاحيات أجهزة الاستخبارات الروسية، في خطوة وصفت بأنها خيبت آمال المدافعين عن حقوق الإنسان في روسيا بعد رهانهم علي " اعتدال النظام السياسي ". وفي إطار انتقادات وجهتها مستشارة الكرملين إلي القيادة الروسية، قالت إن القانون الصادر بتوسيع صلاحيات أجهزة الأمن يعتبر علي جانب كبير من الخطر ، كونه يمكن أن يعيد البلاد إلي عصر الاعتقالات التعسفية، والممارسات غير المشروعة، خاصة وقد أعلن ميدفيديف أنه هو شخصيا كان وراء الاقتراح بإصدار القانون، ونددت بمفيلوفا بمشاركة منظمات شبان الكرملين في تجمع صيفي رفعت خلاله رءوس أعداء روسيا علي الرماح. وكانت هذه المنظمات قد تأسست في مطلع الألفية بتشجيع من الكرملين، عبر تجميع الآلاف من الشبان الروس لتنظيم مظاهرات مصطنعة لدعم السلطات، واستعراض القوة في إطار وطني، وهي الممارسات التي تنتقدها مستشارة الكرملين لحقوق الإنسان بوصفها أنها تعني إعداد (جنود صغار من الرصاص، قادرة علي تنفيذ الأوامر التي تصدر إليها من كبار أصحاب الأيديولوجيا ). وعندما وقعت كارثة حرائق الغابات بكل تداعياتها التي تهدد بتغيير الخريطة الجغرافية لروسيا بسبب تدمير مساحات شاسعة، واقتراب الخطر من أحد المواقع النووية، وإبادة مناطق مأهولة بأكملها، والاعلان عن تدمير ربع محاصيل روسيا، ووصول الحرائق علي مسافة 60 كيلو مترا من موقع مفاعل تشرنوبل، فقد تبدت ملامح دولة عاجزة عن مواجهة خطر كارثة طبيعية، وانكشفت الثغرات الإدارية والبيروقراطية، والقرارات سيئة السمعة التي اتخذها الرؤساء ومنها قرار بوتين في 2006 بإلغاء الجهاز الفيدرالي للغابات، مما ترتب عليه منحها هدية مجانية لرجال الأعمال وصناع الخشب والورق، الذين استحلوا لأنفسهم استغلال ثروات روسيا بدون أي اعتبار للنتائج الكارثية الإيكولوجية المتوقعة. وفي محاولة لإنقاذ الموقف، عقد ميدفيديف اجتماعا عاجلا لمجلس الأمن القومي، واتخذ قرارات بإقالة عدد من كبار القيادات العسكرية بسبب الإهمال وتضاعف حجم الخسائر من الأراضي والمعدات ومخازن الأسلحة، وإقالة قيادات فيدرالية ومحلية بسبب تقاعسها وإهمالها وتسببها بكارثة الحرائق. عقد اجتماعي جديد في خضم الظروف التي تعيشها روسيا حاليا فقد هبطت شعبية الزعيمين ميدفيديف وبوتين حسب استطلاعات الرأي إلي 61 % للأول و62 % للثاني، وسط تكهنات بنوع خفي من " صراع السلطة " بينهما. ومن المعروف أن ميكانيكية النظام السياسي مركبة بحيث لايتحرك الرئيس باستقلالية، ويقول محلل سياسي روسي إن البلد تحت قيادة بوتين، ويبدو ميدفيديف مساعدا للمسائل القانونية، وهو الرجل الثالث في الهرمية السلطوية، بعد بوتين وايجور سينشين نائب رئيس الوزراء الذي يتمتع بنفوذ كبير، والمكلف بشئون الطاقة. وبحسب استطلاعات للرأي يعتبر 14 % أن السلطة في يد ميدفيديف، ويري 27 % أنها ملكا لبوتين، ويري 53 % أنهما يتقاسمان السلطة. ويقول محلل سياسي آخر، إنه أيا كان الأمر، فإن الكرملين يتحكم في المعارضة، والبرلمان، والمناطق، والأحزاب السياسية. وفي الأونة الأخيرة، لم يتخذ ميفيديف أية قرارات مهمة من دون موافقة بوتين، سواء توقيع نزع الأسلحة النووية مع الولاياتالمتحدة، أو الاتفاق المتعلق بالأسطول الروسي في أوكرانيا، كما تخلي ميدفيديف عن الخطاب العسكري المتعلق بالسياسة الخارجية لبلاده ليتولاه بوتين. وحسب مجلة أمريكية، فإن بوتين يأتي في المرتبة الثالثة بين الرجال الأكثر نفوذا في العالم، بينما يأتي ميدفيديف، رئيس روسيا في المرتبة 43. وعندما كانت تجري الاحتفالات بالذكري الثلاثين بعد المائة لمولد ستالين، الملقب باسم " أبو الأمة "، ووسط حنين جارف من كبار السن إلي عظمة الاتحاد السوفييتي السابق جري طرح تساؤلات حول ما إذا كانت روسيا في حاجة إلي ستالين جديد لإنقاذها من انهيار آخر وشيك؟ أما علي مستوي المواطن الروسي العادي ، فإنه يستشعر الحاجة إلي " عقد اجتماعي جديد " لتجديد العلاقة بينه وبين الدولة، ذلك أن هناك افتقادًا عامًا للحرية في الأجواء العامة، ويجري إصدار القرارات بدون اعتبار للمصالح الحقيقية للشعب.