النتيجة الوحيدة التي توصلت إليها كل من مجموعة الثمانية، ومجموعة العشرين هي أن الأزمة التي عصفت بالنظام المالي/ الاقتصادي العالمي، مازالت ضاربة بجذورها في بنية الاقتصادات الكبري، وأن الخطوات الإصلاحية التي تم اتخاذها لمعالجة الأسواق لاتزال في منتصف الطريق، وأنه لاتزال هناك مخاوف حقيقية تهدد بالسقوط في مصيدة الركود والإفلاس. هذا، وعلي الرغم من القرارات الحاسمة شديدة الفاعلية التي اتخذت في عدة مؤتمرات سابقة في واشنطن ولندن ونيويورك، وفي اجتماع وزراء مالية دول العشرين في مدينة "بوسان " بكوريا الجنوبية مؤخرا. وبينما أعلنت مجموعة العشرين أنها تقترب من التوصل إلي حل وسط يكفل خفض العجز في ميزانياتها إلي النصف، في غضون ثلاث سنوات، بالإضافة إلي تشديد الرقابة علي نشاطات البنوك، فقد كان واضحا عدم تمكن الدول الصناعية الكبري من الاتفاق علي موقف اقتصادي موحد، والتنسيق فيما بينها، حتي أن زعماء مجموعة الثمانية قرروا إرجاء القرارات الحرجة الخاصة بالوضع المالي العالمي إلي قمة العشرين، والتي تضم الدول الصناعية والدول النامية الصاعدة ومنها الصين والهند والبرازيل. ووسط اتهامات متبادلة بين الولاياتالمتحدة وأوروبا من ناحية، وفي ظل مطالبات موجهة للدول الغنية للوفاء بما تعهدت به تجاه الدول الفقيرة، من ناحية اخري، جاء نص البيان الختامي لقمة العشرين يؤكد أن وتيرة الانتعاش الاقتصادي العالمي ستختلف حتما عما كانت عليه الحال قبل اندلاع الأزمة المالية، وأن ثمة حاجة ماسة إلي التوصل إلي "توازن جديد" " لضبط الميزانيات، والحفاظ علي معدلات النمو، وأن يتم وضع قواعد ملزمة لمتطلبات رأس مال البنوك بالدول الكبري. ولم يكن مناخ الخلاف والانقسام داخل أروقة قمة العشرين في مدينة تورنتو الكندية مختلفا عما كان عليه الحال خارج القمة، حيث شهدت شوارع تورنتو، العاصمة المالية لكندا، مظاهرات غضب عارم ضد القمة، قام بها مواطنون من داخل كندا ومن خارجها، نادت بها الاتحادات العمالية، ضمن ظواهر معارضة العولمة، ورفض الإضرار بالبيئة، والدفاع عن حقوق العمال، ومراعاة مصالح فقراء العالم. حدود الخلافات لم يكن من أهداف قمة الثماني الكبار (أمريكا فرنسا بريطانيا اليابانروسياكندا ايطاليا المانيا) أو قمة العشرين (مجموعة الدول الصناعية + الدول النامية ) أن يتم القضاء علي ظاهرة الفقر في العالم، او انتشال مجتمعات العالم الثالث من أوضاعها المتردية التي تفاقمت مؤخرا ، ولكن تركزت أهداف القمتين اللتين ترمزان إلي (مجلس إدارة العالم ) علي متابعة اقتصادات الدول الكبري، وأسواقها، وميزانياتها، في ظل ظرف عالمي يبرز الهوة الشاسعة بين العالمين، ومن ثم تركزت الموضوعات في السعي لضبط قطاع المال، وفرض رسوم عليه. ومع ذلك، ليس من الممكن أيضا الادعاء بأن دول القمتين حافظت علي "اجماع التوافق " فيما بينها، بل لقد رأينا بيان الدول الصناعية، وللمرة الأولي، يدعم اتفاقيات التجارة الإقليمية والثنائية، والتي تهدف إلي التغلب علي الاجراءات الحمائية، والتسليم بأحقية الدول ( منفردة ) في اتخاذ ما تراه مناسبا لضمان الدفاع عن دافعي ضرائبها، و ضمان عدم التحول إلي ضحايا لخطط الانقاذ المالي للمؤسسات المالية. في هذا السياق، ظهرت مدرستان مختلفتان لمواجهة تداعيات الأزمة المالية، فالحكومات الأوروبية التي خشيت من هجوم المضاربين علي العملة الأوروبية الموحدة (اليورو )،خاصة علي اثر أزمة الديون اليونانية، قررت التركيز علي خفض انفاقها من أجل خفض العجز في ميزانياتها. علي الجانب الآخر، وفي ظل نمو بطئ في العديد من الاقتصادات المتقدمة، فإن الولاياتالمتحدة تخشي أن تؤدي الطريقة الأوروبية في خفض الديون إلي مزيد من العرقلة لمعدلات النمو، ولذلك تطالب واشنطن الدول الأخري بالحفاظ علي معدلات نمو عالية، وتطالب الولاياتالمتحدة كلا من أوروبا واليابان علي وجه الخصوص بتعزيز الاستهلاك المحلي في الأسواق بدلا من خفض الانفاق. علي صعيد ثالث، فإن دولة صاعدة مثل البرازيل، رأت أن التوجه نحو خفض العجز فقط، من شأنه أن يضر بالدول ذات الاقتصادات الناشئة، وأن عملية ضبط الموازنات في الدول الأوروبية يأتي علي حساب الدول الصاعدة وأسواقها. وتبدو مخاوف هذه الدول في محلها في ضوء الشواهد التي تؤكد أن المصدر الرئيسي للنمو الاقتصادي حاليا يتركز في دول مثل الصين والبرازيل،والاقتصادات الناشئة، وليس في الدول المتقدمة. بل إن هناك مخاوف من مشكلة الدين في الدول الصناعية، والمتوقع أن يصل اجمالها في مجموعة العشرين إلي 7. 107%، من اجمالي الناتج المحلي في العام الحالي. وعموما، فإنه من المقترحات التي طرحت المبادرة بإنشاء " شبكة عالمية للأمان المالي،" في محاولة لتحسين التعامل مع طغيان رأس المال "، وتكليف البنك الدولي بتعديل شروط الإقراض التي يتبعها. حدود التوافق ثمة توافقات مبدئية في إطار قمة العشرين بأن تعافي الاقتصاد العالمي يجري بصورة متفاوتة، وغير متكافئة بين دول العالم، أغنياؤها وفقراؤها، ومن ثمة، فإن أساليب المعالجة يجب أن تتوافق مع ظروف كل دولة، ومطالب بنيتها الاقتصادية. وبالرغم من الخلافات التي ظهرت بين الدول الكبري في أساليب التصدي للأزمة الاقتصادية العالمية، فإن أبرز نقاط التوافق فيما بينها تمثلت في : السعي لتعزيز البني التحتية للأسواق المالية من خلال اجراءات تحسين الشفافية ومراقبة صناديق الاحتماء،ووكالات تصنيف القروض والمشتقات المالية، وهذا بالطبع بالإضافة إلي مواصلة اجراءات تعزيز الموازنات التي تشجع علي النمو،وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وتنمية الأسواق المالية، وزيادة مرونة معدلات الصرف في أسواق الدول النامية، واستكمال الاصلاحات الهيكلية في دول مجموعة العشرين، واتخاذ كل السبل الممكنة لزيادة النمو لإعادة توازن الطلب العالمي. كما تعهدت دول مجموعة العشرين بالامتناع عن إثارة أية عقبات أمام الاستثمار وتجارة الأموال والخدمات واجراءات تحفيز التصدير،حتي نهاية عام 2013. كما يلاحظ أن قمة تورنتو توافقت علي منح اليابان وضعا استثنائيا،وهي الأكثر استدانة في العالم، إذ سمح لها بمرونة أكبر فيما يتعلق بتحديد أهداف تخفيض الدين العام، التي كانت تفوق قدرتها. ويبدو أن قمة تورنتو اكتفت بتحقيق " الحد الأدني" من التوافق، ريثما يتم عقد اللقاء المقبل في سول بكوريا الجنوبية في نوفمبر القادم، يتلوه اجتماع فرنسا في 2011، والمكسيك في 2012. توازنات عالمية متغيرة ثمة تساؤلات فرضت نفسها في ضوء قمة أغنياء العالم ، ومن هذه التساؤلات : هل انتهي زمن الهيمنة الاقتصادية الأمريكية علي العالم ؟ وهل يتمثل الخروج من أتون الأزمة الحالية في اللجوء إلي الدول التي يتوفر لديها النقد الأجنبي مثل الصين والسعودية ؟ وهل يتحتم، من أجل الخروج من عنق الزجاجة، أن تتخلي الدول الكبري عن جزء لا بأس به من نفوذها الاقتصادي العالمي؟ إن التوصل إلي إجابات محددة في هذا الصدد تستدعي إلقاء الضوء علي ملامح التوازنات الدولية الراهنة. فمثلا، تمثل مجموعة الثماني 10 % من سكان العالم، بينما تمثل مجموعة العشرين 70 % من سكان الأرض، وتحظي بنحو 80 % من الانتاج الاقتصادي العالمي. وكانت مجموعة العشرين قد تأسست في عام 1999 كرد فعل علي الأزمة المالية في أواخر التسعينات، وذلك في محاولة لتمثيل الدول الناشئة، غير الممثلة تمثيلا كافيا في جوهر المناقشات الاقتصادية العالمية والحوكمة الدولية في هذا الصدد. وتتشكل مجموعة العشرين من وزراء مالية محافظي المصارف المركزية ( 19 دولة، بالإضافة إلي الاتحاد الأوروبي)، ومع ذلك، فمن الصعب الادعاء بنجاح عملية ادماج ممثلي الدول الناشئة في (آليات صنع القرار) في المؤسسات المالية العالمية. من هنا، فإن ظروف الأزمة المالية العالمية كشفت نقاط الضعف و مساوئ النظام المالي/ الاقتصادي العالمي، وتوازناته الجديدة المتغيرة. فمثلا، تمضي اقتصادات القوي الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل قدما للأمام، وتحقق نموا بصورة ملحوظة بدون تأثيرات جذرية بأزمة المصارف العالمية، بينما تستمر معدلات النمو في الولاياتالمتحدةوفرنسا وبريطانيا تعاني مشكلات ومستويات متذبذبة. فالولاياتالمتحدة تعاني عجزا يفوق نسبة 10 % من الناتج المحلي الإجمالي، ويدرس الكونجرس اتخاذ حزمة جديدة من الانفاق بقيمة 100 مليار دولار، في محاولة لخفض نسبة البطالة التي وصلت إلي 7 .9 %، كما اتخذت دول الاتحاد الأوروبي قرارات بخفض الانفاق في الأسابيع الأخيرة، في ظل شبح تجدد أزمة علي غرار الأزمة اليونانية. ويبدو الموقف الأوروبي عموما في وضع لايحسد عليه، فهناك شكوك حول مصداقية اليورو، وأشارت دراسات أوروبية إلي أن 80 مليون مواطن أوروبي، أي 17 % من عدد السكان يعيشون تحت خط الفقر، وان 49 % من الأوروبيين يرون أنه من غير المحتمل حصولهم علي فرصة عمل جديدة في حال طردهم من عملهم. لذلك يتنامي الاحساس بالتشاؤم بين الأوروبيين، وهناك منظمات تنظم دعوات عامة منها " معا نتحرك ضد الفقر " . غير أن أهم وربما أخطر المواجهات الاقتصادية علي المستوي العالمي تتمثل في المواجهة بين الولاياتالمتحدة والصين. فالكونجرس الأمريكي يرفض ما أعلنته الصين حول إخضاع " اليوان " لمرونة أكبر في سوق العملات الدولية، بمعني حدوث ارتفاعات تدريجية للعملة الصينية، والتوقف عن تثبيت السعر، حيث يعتبر نواب الكونجرس أن الإجراء الصيني يهدف إلي الالتفاف حول العلاقات التجارية، غير العادلة بين الصين وأمريكا، والتي تؤدي إلي زيادة العجز التجاري بينهما لصالح الصين. ويبدو أن الولاياتالمتحدة كانت علي وشك اتخاذ قرار بإعلان الصين ( منتهك للعملة ) كخيار أخير. وكانت عدة ضغوط قد مورست علي الرئيس الأمريكي باراك أوباما لاتخاذ موقف قوي تجاه الصين، خاصة في مواجهة الشعار التقليدي " الصين تنتج.. وأمريكا تستهلك " وقد أظهرت بيانات التبادل التجاري في مايو الماضي زيادة الصادرات الصينية للولايات المتحدة، بنحو 50 %. وبوجه عام يتركز السعي الأمريكي علي السعي من أجل خلق فرص العمل، واستمرار النمو الذي وصل حاليا إلي 3 %، بعد ان كان يواصل الانكماش بنسبة 6 %، وتؤكد صحيفة وول ستريت جورنال أن النمو الأقوي، مع خلق فرص العمل في الولاياتالمتحدة يعتمد أساسا علي توسيع وانتعاش الاقتصاد العالمي. الواقع الأسوأ لم تنفذ الدول الغنية تعهداتها السابقة والتي تقضي بتقديم مساعدات للدول الفقيرة بنحو 50 مليار دولار. وجاء ذلك مناقضا لتقرير تنمية الألفية الذي أطلقته الأممالمتحدة بهدف طموح هو السعي لإنجاز له قيمته بالنسبة للهدف الذي تحدد مسبقا وهو القضاء علي ظاهرة الفقر وتخفيف عدد الفقراء إلي النصف في العالم في غضون عام 2015. وتواصل الدول الكبري مناقشاتها حول أسواقها وميزانياتها، بينما وصل عدد الجوعي في العالم إلي 2. 1 مليار نسمة، وفي كل 6 ثواني يموت طفل في العالم من الجوع، ويبلغ العدد الحقيقي لمن يعيشون في فقر واضح إلي 8. 1 مليار نسمة. وبالطبع، فإن فقراء سكان أفريقيا ليسوا مثل نظائرهم من فقراء أوروبا ( 80 مليونًا) فالنظم الاجتماعية الحكومية في الدول الأوروبية، لاتزال برغم ظروف الأزمة، توفر الحد الأدني من متطلبات المعيشة، والضمانات الاجتماعية التي تضمن مستوي معيشة، هو قطعا أفضل من مستوي معيشة فقراء الدول الفقيرة.