لم يكن أكثر المتفائلين وعيًا بالاحتجاجات التي اشتعلت ضد نظام مبارك صبيحة الخامس والعشرين من يناير 2011 يتصور أنها ستستمر أيامًا متتالية، وأنها ستنجح بعد 18 يومًا داميًا في تقويض أركان نظام جثم على أنفاس المصريين طيلة 30 عامًا، كما لم يتصور أحد ما حدث أثناء تلك الثورة من شيوع روح جديدة بين المصريين المشاركين في الثورة، والتناغم بين أطيافه المختلفة من مثقفين وعمال وفلاحين وطلاب وتلاميذ وأساتذة، رجالاً ونساءً شيبًا وشبابًا وشابات، مسلمين ومسيحيين؛ حتى اقتربت من درجة “,”مثالية“,” قبل أن تحاصرها رياح الاختلاف، وتعصف بها أعاصير المصالح السياسية الضيقة. وكان ملفتًا ما شكلته ثورة يناير من نقطة اقتراب وتداخل بين عنصري الأمة: مسلميها ومسيحيها ليشكلا وحدة واحدة، وشعبًا متماسكًا، وهو ما دفع للبحث في الأسباب التي أدت لتلك النتائج، والتي كان منها أربعة تطورات مهمة يمكن قراءتها فيما يلي.. أولاً: التغيرات التي بدأت تطرأ على الجماعة الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين؛ حيث يتصل التغيير الأول بالتنامي تاريخيًّا عند جماعات الإسلام السياسي؛ لنبذ العنف والعمل بآليات السياسة، والثاني أنه من خلال ممارسة السياسة سوف يتم توجيههم، وذلك من شأنه أن يخفف تطرفهم العقيدي لصالح ممارسة السياسة المتنوعة والمرنة التي ليس العنف من بينها، أما التغيير الثالث فمتعلق بأن أجيال الشباب أصبحت لا ترضى بالأفكار السابقة الخاصة بكبار السن، ومن ثم فهم أكثر انفتاحًا على الأفكار الحديثة. ثانيًا: أن الجماعة القبطية بدأت تواجه بعض التغيرات هي الأخرى؛ حيث ضعفت سيطرة الكنيسة على الشباب الذين بدءوا يرون أن سلطة الكنيسة ينبغي أن تقتصر على أمور العبادة، وأن لا دخل لها بالسياسة، وأن هناك ميلاً إلى أن تكون ممارستهم للسياسة ليست مقصورة على قضايا قبطية فقط، بل ممارسة ومشاركة تتعلق بقضايا وهموم مصر كأمة ينبغي أن ينشغل بقضاياها الجميع، يضاف إلى ذلك بداية حدوث خلاف بين أقباط المهجر وأقباط الوطن. ثالثًا: اتساع النخبة المدنية التي ترفض تديين قضايا وتفاعلات وسلوكيات المجال العام. وأخيرًا ملل الشعب المصري من التطرف الديني، والفتن والعنف والقتل على الهوية الدينية. وقد اهتم مركز “,”المسبار“,” للدراسات والبحوث بدراسة عن “,”الأقباط بعد 25 يناير“,”، خاصة في ظل صعود التيار الإسلامي إلى الحكم؛ حيث تناول الكتاب في طياته ومن خلال عشرة فصول قضايا متعددة تعالج وترسم صورة الوضع القبطي في مصر بعد الثورة. كما تناول الكتاب عددًا من القضايا الخاصة بالأقباط مثل (دور الأقباط في بناء المجتمع المصري، الأقباط والعمل الاجتماعي في مصر: آليات الاندماج والحضور المجتمعي، القوى المسيحية في مصر وموقفها من الثورة، مصر.. مخاوف الأقباط بعد صعود الإخوان المسلمين، مخاوف الأقباط من حقبة الإخوان في مصر، السلفيون والأقباط في مصر، الأقباط في مصر وتحديات الواقع السلفي، الأقباط في المهجر النشأة والمسار، ثقافة الفتنة وقضايا الأقباط في الإعلام المصري، وأخيرًا قراءة في كتاب “,”الكنيسة المصرية.. توازنات الدين والدولة). وفيما يتعلق بمخاوف الأقباط بعد صعود الإخوان المسلمين، تناول الباحث أشرف عبد العزيز عبد القادر هذه النقطة من خلال عرضه لمشاكل الأقباط قبل 25 يناير، والمتمثلة في (جمود الإسلام السياسي في ظل مناخ القمع، وعزلة الأقباط في مجتمع خاص بهم)، وأكد أن مخاوف الأقباط من الإخوان تتمثل في: - التعرض للاضطهاد الديني، وسوء المعاملة، وكبت حرية المعتقدات والممارسات الدينية، ويؤكد الكاتب أن الخوف من الإخوان ليس نابعًا من الدين الإسلامي، ولكن من تيار الإسلام السياسي وتوظيفه للدين في تعامله مع الآخر، خاصة في بعض تصريحات التيارات الإسلامية كالحديث عن الجزية، ونظام الملة، ومصطلح أهل الذمة.. إلخ، وهو ما يمثل خطورة على حرية الاعتقاد الديني، وممارسة الشعائر الدينية، وكذلك بناء دور العبادة (الكنائس). - التهميش أو الاستبعاد السياسي، ويُقصد به الاستبعاد من المناصب العليا، والتخوف من عدم وجود قانون موحد لدور العبادة، وتقليص وجود الأقباط في المناصب الحساسة بالدولة مثل الجيش والشرطة وغيرها من المناصب التي لا علاقة لها بالدين باختيار من يشغلها. ثم أوضح كيفية تعامل الأقباط مع هذه المخاوف من خلال عدة أمور تتلخص في الخروج عن السلطة السياسية للكنيسة؛ حيث التعبير عن مطالبهم من خلال تحقيق مبدأ المواطنة والمساواة، وإنهاء كل صور التمييز، وذلك من خلال التحرك في الشارع، وسحب التفويض الممنوح للكنيسة لحل مشاكل الأقباط بالصورة التقليدية. محاولة الدخول في معترك السياسة؛ حيث كان قبل 25 يناير لم يكن لدى الأقباط اهتمام ملحوظ بالدخول بقوة في معترك الحياة السياسية، لكن في ظل صعود التيار الإسلام السياسي دفعهم للدخول بقوة في معترك الحياة السياسية والمشاركة فيها، وقد اتضح ذلك في الانتخابات البرلمانية واستفتاء مارس 2011، والتفاف معظم الكتلة التصويتية القبطية خلف الكتلة المصرية التي رأوا فيها أنها الداعم لمدنية الدولة، فضلاً عن تأسيس جماعة الإخوان المسيحيين على غرار جماعة الإخوان المسلمين. ثم جاء خيار الهجرة إلى الخارج، نتيجة لشعور البعض بالتحديات التي تواجههم من صعود التيار الإسلام السياسي، فبعض التقارير غير الرسمية أشارت إلى أن هناك هجرة لأكثر من 300 ألف مسيحي منذ سقوط مبارك، وهناك تقديرات صادرة من الكنيسة في مصر أشارت إلى أن نحو 10 الآف مسيحي تقدموا بطلبات للهجرة إلى دول أوروبية وأمريكية بعد ظهور نتائج الانتخابات البرلمانية التي أسفرت عن فوز الإسلاميين بثلثي المقاعد. وعلى مستوى تعامل الإخوان مع هذه المخاوف فقد كانت هناك إجراءات تكتيكية مثل المشاركة في احتفالات عيد الميلاد وتأمين الكنائس، وزيارة المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين للكنيسة الإنجيلية والأرثوذكسية للاطمئنان على صحة البابا، وكان هناك خطوات على المستوى الفكري؛ حيث أبدت الجماعة استعدادها لإعادة النظر بشأن رؤيتها لبعض من القضايا المتعلقة بحقوق الأقباط في المجتمع، وتحميل النظام السابق وجود أي مخاوف أو هواجس فكرية لدى الأقباط في حال وصولهم للحكم. كما أوضح الباحث أن مسألة الحوار بين الجانبين قد تواجه مجموعة من التحديات سواء قبل البدء فيه أو خلال مراحل الشروع فيه نتيجة غياب الخبرة المتراكمة، أزمة الثقة بين الجانبين، وشخصية البابا الجديد، وطبيعة الحراك القبطي بعد الثورة، ورؤية الإخوان لقضية المواطنة. وقد أكد الباحث أن الصعود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد الثورة يمثل تحديًا حقيقيًّا بالنسبة للأقباط في مصر، منبعه الخوف على مستقبلهم الديني (حرية العقيدة) والسياسي. أما المحور الخاص بتناول مخاوف الأقباط من حقبة الإخوان في مصر، فقد تناوله الباحث عصام عبد الله من خلال عرضه لوضع الأقباط في الحقب السابقة منذ ثورة 1952 مرورًا بمرحلة السادات ومبارك، ثم ثورة 25 يناير 2011، والتي تساءل فيها عن هذا: ربيع عربي أم شتاء إسلامي؟ حيث تقاعست الدولة عن مرتكبي الجرائم الطائفية ضد الأقباط أو مشايخ الفضائيات في الجوامع الذين يسبون الأقباط (شركاء الوطن) ويكفرونهم ليل نهار، فضلاً عن حلم الإخوان بالخلافة الإسلامية في مواجهة العلمانية، وتخوف الأقباط من تحول الدستور المصري إلى نسخة من الدستور الإيراني. وقد انتهى الكاتب إلى أن مشاكل الأقباط المزمنة هي مشاكل الدولة المدنية في مصر التي أسسها محمد علي قبل أكثر من قرنين، وقضايا الأقباط هي نفسها قضايا المصريين جميعًا المتمثلة في الحقوق والحريات وسيادة القانون والمواطنة والديمقراطية، وبصعود الإخوان المسلمين إلى الحكم ستحول مصر إلى مسرح للفتن الطائفية، ومن ثم تنطلق الدعوة لحماية الأقباط، وهو ما يفتح الباب للتدخل الأجنبي عسكريًّا بحجة حماية الأقليات، وعندئذ ستنطلق دعوات لتقسيم مصر من أجل إقامة دولة للأقباط وأخرى للبدو وثالثة للنوبيين، ولا يُستبعد ضياع سيناء كجزء من التقسيم إرضاءً لبعض دول الجوار. من جانبه، عرض الباحث وائل لطفي لمحور الأقباط في مصر، وتحديات الواقع السلفي، فلم يشهد الموقف السلفي من الأقباط المصريين وحقوقهم كمواطنين اجتهادات تُذكر منذ نشأة هذا التيار في العقد الثاني من القرن الماضي، وحتى الآن، وعلى الرغم من تنوع الطيف السلفي في مصر وتعدد أطره التنظيمية، ومنطلقاته الفكرية واختلافاته في قضايا أخرى شتى، لعل أهمها الموقف من السلطة وقضايا أخرى مثل الحاكمية والتنظيم وخلافه، إلا أن الموقف من أتباع الديانات السماوية الأخرى، ومن بينهم الأقباط هو موقف ثابت لا يتغير منذ نشأة هذا التيار وحتى الآن، ولعل ذلك يعود إلى وحدة المناهل الفقهية للأطياف السلفية المختلفة، والتي تتمثل بشكل أساسي في الآراء الفقهية لابن تيمة وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب، وغيرهم من الآباء الفقهيين للسلفية، وبشكل عام يمكن وصف النظرة السلفية تجاه الأقباط من خلال تحليل المضمون لخطب وتصريحات الرموز السلفية في مصر؛ بأنه خطاب ينتقص من الحقوق السياسية للأقباط كمواطنين مصريين، فقد تجتمع الآراء السلفية على أنه ليس من حق المواطنين الأقباط ولا النساء أيضًا تولي الوظائف الكبرى والقيادية، في حين يصرح منظر التيار السلفي ياسر برهامي بأن المسيحيين كفار وعليهم دفع الجزية. وقد انتهى إلى أنه- بشكل عام- فهم الموقف السلفي من المسيحيين المصريين، في ضوء فهم تيارهم لفكرة المواطنة؛ حيث يرى التيار السلفي أن المسلم الكامل، ومن ثم المواطن الكامل، هو المسلم السني الذكر، وفيما عدا ذلك، فهو لا يتمتع بكامل حقوق المواطنة.