صدر عن المجلس الأعلى للثقافة كتاب "الثقافة الاستراتيجية والمبادرة الحضارية: قراءة في المشروع الفكري للأستاذ السيد يسين" والكتاب عبارة عن وقائع ندوة علمية أقامها مركز الدراسات الحضارية تكريمًا للمفكر الكبير وعالم الاجتماع السيد يسين، ويحوي الكتاب دراسات عدة عن أعمال ومساهمات وأفكار السيد يسين. وقد جاء تكريم هذا المفكر انطلاقًا من الإيمان بأن "موت المؤلف" لا يعد شرطًا ضروريًا لمناقشة أعماله خلافًا لمنظري وفلاسفة "ما بعد الحداثة". وقد استن مركز الدراسات الحضارية عقد سلسلة ندوات سنوية لقراءة أعمال المفكرين وتناولها بالنقد والتحليل، وعلى مدى يومين متتاليين قام عدد من الباحثين بتناول أعمال السيد يسين التي استغرق في كتابتها ما يربو على أربعين عامًا شهدت اهتماماته البحثية المتنوعة وسجلت تحولاته الفكرية البارزة. في افتتاح الجلسات عرفت الدكتورة نادية مصطفى بالسيد يسين وحددت موقعه على خريطة الحياة الفكرية والسياسية، كما قامت بتعريف الحضور بذلك التقليد الذي أرساه المركز والخاص بتكريم الرواد من المفكرين ليس بالصورة الاحتفالية المألوفة وانما عن طريق تمحيص أفكارهم. وفي الندوة قدم السيد يسين لنفسه بنفسه وتحدث عن ملامح من سيرته ومسيرته وكيف أنه تربى عمليا في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية الذي دخله عام 1957 كباحث مساعد بعد تخرجه مباشرة من كلية الحقوق حيث تم تعيينه في قسم بحوث الجريمة الذي كان رئيسه العالم الشهير د. سيد عويس. وقد بدأت علاقة السيد يسين بدائرة العلوم الإنسانية مبكرًا فعندما كان طالبًا في الحقوق قرأ في علمي النفس والاجتماع والفلسفة وكذلك الشعر الإنجليزي واهتم بقراءة منشورات "جماعة علم النفس التكاملي"، كما قرأ رسالة الماجستير الشهيرة للدكتور مصطفى سويف "الإبداع الفني في الشعر خاصة" وكانت انقلابًا في دراسات علم النفس الأدبي ويبتسم له الحظ فيتتلمذ على يد د. مصطفى سويف، ود. يوسف مراد اللذين تعلم منهما أشياء كثيرة ما زالت تؤثر فيه حتى الآن. وتحدث د. السيد يسين عن مراحله الفكرية ابتداءً من الأربعينات حيث تشكل وعيه من خلال الحركة الوطنية وكان يلاحظ فجوة كبرى بين الأغنياء والفقراء فتوازى في تفكيره الاهتمام بالمشكلة الاجتماعية الأهم والأكثر إلحاحًا والتي لا تزال قائمة حتى الآن وهي مشكلة الفقر، مع الاهتمام بالحركة الوطنية ومقاومة الانجليز، وأثر في وعيه كذلك الاهتمام بالقومية العربية والذي لم يبدأ مع ثورة يوليو 52 فعروبة مصر تسبق هذا التاريخ وقد شهدت الحقبة الملكية عروبيين عظام أمثال عبد الرحمن عزام باشا والفريق عزيز باشا المصري. ويقول د. السيد يسين عن تلك الفترة " أنا ابن هذه المرحلة عشت النظام الملكي بوعي شديد وطالعت جرائد المعارضة وقرأت لمؤلفين كثر منهم خالد محمد خالد والذي أثر في جيلي كله، وقرأت كتاب سيد قطب –الذي ألفه قبل انضمامه للإخوان- "العدالة الاجتماعية في الإسلام" والذي كان قراءة يسارية للإسلام، وتأثرت بكتابات محمد مندور ويسار الوفد، وتأثرت بما كانت تنشره جريدة "الاشتراكية" لأحمد حسين، فقد نشر صورًا لمواطنين حفاة وكتب فوقها "هؤلاء رعاياك يا مولانا" مما مثل نقدًا عنيفًا للنظام الملكي في ذلك الوقت" ويحكي المفكر السيد يسين كيف انضم بعد ذلك لجماعة الإخوان المسلمين وكان أحد خطبائهم المرموقين ولأنه كان يبحث عن العدل الاجتماعي ويريد تفسير علمي لظاهرة تراكم رأس المال وازدياد الفقراء فقرًا والأغنياء غنى فإنه لم يجد عندهم نظرية علمية تساعده على فهم المجتمع المصري، وكان خلافه الأهم معهم عندما طالبوه عام 1954 بمهاجمة هيئة التحرير التي أنشأتها ثورة يوليو وقالوا له أنه بوصفه عضوًا في جماعة الإخوان فإنه يجب أن يكون ملتزمًا حزبيًا، ورفض السيد يسين الانصياع لأوامرهم بل إنه كره الحزبية وما تفرضه من التزام وأيقن في تلك الفترة المبكرة أن الاستقلال الفكري مسألة أساسية بالنسبة له. ولما لم يجد معينًا فكريًا عند الإخوان ولا نظرية عميقة تفسر له حركة المجتمع فقد بدأ يقرأ في مكتبة الشرق بالإسكندرية ليجد ضالته في الماركسية التي تأثر بها آنذاك من حيث المنهج وإن لم يؤمن بها كأيديولوجيا متكاملة غير أن ما أعجبه فيها هو قدرتها على التحليل ونظرتها الشمولية. وتمثل مرحلة العمل في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مرحلة مهمة وثرية في حياة السيد يسين ففيها تبلور منهجه العلمي الذي يسميه "المنهج التاريخي النقدي المقارن" بمعنى أن الدراسة للظاهرة لابد أن تعتمد على إعادة تشكيل البعد التاريخي لها وكلمة "نقدي" تعني تطبيق مفاهيم علم اجتماع المعرفة والذي يذهب إلى أن الكاتب حين يكتب فهو يعبر بطريقة شعورية أو لا شعورية عن جماعة اجتماعية ما. ويأتي أحد أهم تحولات سيد يسين عام 1990 حين ذهب إلى عمان كأمين عام لمنتدى الفكر العربي وهناك صاغ إطارًا نظريًا جديدًا تحت تأثير انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية الحرب الباردة والتحول إلى نظام الأحادية القطبية وقد عبر عن ذلك في كتابه "الثورة الكونية والوعي التاريخي" وكان هذا الكتاب أساس سلسلة البحوث التي قام بها بعد ذلك، وقد اكتشف أثناء إقامته في عمان مفهوم العولمة في فترة مبكرة جدًا وسماه في ذلك الوقت "الكونية". وكان للمفكر السيد يسين مآخذه وملاحظاته على الحقبة الناصرية كذلك مع أنه كان يتبنى المشروع القومي الناصري قبل هزيمة 1967 لكنه أدرك أن الدولة المصرية وقت ذاك تحولت إلى "البوليسية" وسيطرت عليها مراكز القوى وقد عبر عن انتقاداته في مؤتمر المبعوثين المنعقد في الإسكندرية عام 1966 وفي هذا المؤتمر الذي دعي إليه بوصفه كان مبعوثًا إلى فرنسا قام بتشخيص سلبيات المشروع الناصري وتوصل إلى نوع من القناعة أن العدل الاجتماعي لا يصلح بدون ديمقراطية والعكس أيضًا صحيح. وأخيرًا راجع السيد يسين نفسه وأعاد النظر في قناعته بدور النخبة في التغيير الاجتماعي وقد تراجع عن هذه الفكرة بعدما شاهده من بؤس النخبة السياسية في مصر وإفلاسها وعجز النخبة الثقافية عن التجدد المعرفي. وفي الختام يذكر السيد يسين أننا بحاجة إلى نظرية جديدة تؤلف بشكل واع وخلاق بين واجبات الدولة وحرية السوق وأن مصر لابد أن تعيد النظر في سياساتها الاقتصادية، كما يجب العمل على رفع الوعي الاجتماعي العام فبدون ذلك لا أمل في التغيير أبدًا.