عالم الاجتماع البارز الاستاذ السيد يسين من الباحثين القلائل الذين يتابعون بشكل منتظم ويرصدون منهج علمي وتحليلي التحولات الاساسية التي حدثت في ببية المجتمع الدولي وقواعده والنظم والنماذج التي حكمته علي مدي الحقب الخمس الماضية ، ويحاول بهذا المنهج التحليلي من خلال متابعة المناظرات الكبرى التي دارت بين مدارس الفكر المختلفة استشراف خريطة المجتمع الدولي الجديد ومعالمه والقضايا الكبرى التي ستشغله ، غير ان متابعة الاستاذ يسين هذه التحولات ( العربي التاريخي والثورة الكويتية حوار الحضارات في عالم منتصر – 1995 ) قد تميز باكتشافه لمنهج التحليل الثقافي وتركيزه علي نظم الافكار في شئونها وتحولها وتغيرها والمنارة هذا المنهج مدخل اساسى لفهم ما حدث للرأسمالية والماركسية ، وعلي هذا فهو يعتمد التحليل الثقافي باعتباره المنهجية الملائمة للدراسة وتحليل وتفسير التغيرات الكبرى التي حدثت في العالم وتتأكد عنده قيمة هذا المنهج بعد ان تبين عجز المناهج السياسية والاقتصادية السائدة ليس فقط عن التنبؤ بمصير النظام القديم وانما ايضا عن تفسير الظواهر المصاحبة لانهياره واليوم ، وبعد 20 عاما من تقديم منهجه في التحليل الثقافي ، يشرع الاستاذ يسين في تجديد هذا المنهج وتأصيله وتوسيع نطاق تطبيقه علي المجتمع العربي وعلي التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي شهدها المجتمع المصري بعد ثورتي 25 يناير و30 يونيو. ويؤصل الاستاذ يسين لمنهج التحليل الثقافي فيعتبر انه لم يتبلور الا في العقود الاخيرة ، نتيجة اسهامات مجموعة من كبار المنظرين في العلم الاجتماعي الغربي ، ابرزهم ميشيل فوكو الفرنسي ، وهابر ماس الالماني ، وبيتر برجر الامريكي ، وماري دوجلاس الانجليزية الاصل ، ويمكن ان يضاف اليهم ايضا دريدا الفرنسي غير ان اهمية التحليل الثقافي لم تبرز فقط نتيجة هذه الابداعات النظرية والمنهجية ، ولكنها ظهرت لان عديدا من المشكلات التي تجابه العالم الان ، عجزت المناهج السياسية والاقتصادية السائدة عن سبر غورها، وتفسير تجلياتها المتنوعة . ومن ابرزها حركات الاحياء الديني ، ومن بينها الصحوة الاسلامية التي تقلق عديدا من الدوائر الغربية ، وانبعاث القومية من جديد ، وتأثيرها المباشر علي تغيير خريطة الدول ، والاهتمام العالمي بحقوق الانسان في اطار ثقافات مختلفة، وكذلك نقد احتكار وسائل الاعلام العالمية، الي غير ذلك من مشكلات تحتاج الي منهج تحليل ثقافي شامل .ويدلل علي اهمية التحليل الثقافي ما يتردد في الوقت الراهن من دعاوي تتعلق بانهيار الحضارة الغربية ، وتقلص هيمنتها الثقافية علي العالم ، وبروز حضارات اخري كالحضارة اليابانيةوالصينية مرافقة لنهضة اقتصادية كبري حققتها اليابان فعلا ، وتشق الصين طريقها اليها ، بالإضافة الي بروز الحضارة الاسلامية علي المسرح العالمي مرة اخري . وعند الاستاذ يسين ثمة مداخل متعددة ، يمكن حصرها في اربعة مداخل رئيسية : المدخل الذاتي ، والمدخل البنيوي ، والمدخل التعبيري ، والمدخل المؤسسى . وفي تساؤله عما الذي جري في العالم يعتبر ان اهم تغير حدث هو سقوط الانظمة الشمولية التي كانت تقوم علي احتكار الحزب الواحد للسلطة ، وصعود موجة الليبرالية والتعددية السياسية من خلال حركة الجماهير السلمية الايجابية التي خرجت لكي تقضي علي الاغتراب السياسي والاقتصادي والثقافي الذي عانته طويلا . ومعني ذلك سقوط الانساق السياسية المغلقة . والتي كانت تحتكر الحقيقة السياسية ، وظهور انساق سياسة مفتوحة ، وتتعدد فيها الاصوات ، وتبرز المعارضة وتتنافس الاحزاب والجماعات السياسية . ويتوقع الاستاذ يسين في ضوء المؤشرات والتغيرات الثقافية والايديولوجية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية ، ظهور نمط سياسي واقتصادي ثقافي توفيقي جديد ، سيحاول ان يؤلف تأليفا خلاقا بين متغيرات تبدو في الظاهر متناقضة ، وستمر هذه المحاولة في مرحلة تتسم بالصراع الحاد العنيف ، والذي قد يأخذ احيانا شكل المجابهة العسكرية المحدودة في هوامش النظام وليس في مركزه . يتسم النموذج التوفيقي العالمي الجديد بسمات اربع ، لو استطاعت قوي التقدم ان تنتصر علي قوي الرجعية : • التسامح الثقافي المبني علي مبدأ النسبية الثقافية في مواجهة العنصرية والمركزية الاوروبية والغربية . • النسبية الفكرية بعد ان تنتصر علي الاطلاقية الايديولوجية. • اطلاق الطاقات الخلاقة للإنسان في سباقات ديمقراطية علي كل المستويات . بعد الانتصار علي نظريات التشريط السيكولوجي ، والتي تقوم علي اساس محاولة صب الانسان في قوالب جامدة باستخدام العلم والتكنولوجيا . • العودة الي احياء المجتمعات المحلية ، وتقليص مركزية الدولة . • احياء المجتمع المدني في مواجهة الدولة التي غزت المجال العام ولم تترك الا مساحة ضئيلة للمجال الخاص . • التوازن بين القيم المادية والقيم الروحية والانسانية . ويستخلص استاذ يسين اننا نشهد وبإيجاز ، فيما يري – المرحلة الاخيرة من حضارة عالمية منهارة كانت لها رموزها وقيمها التي سقطت ، وبداية تشكل حضارة عالمية جديدة شعارها « وحدة الجنس البشري « . في وسط هذه التغيرات العالمية صار السؤال الذي يطرح نفسه الان : اين الوطن العربي من كل هذه التغيرات الجوهرية في النظام العالمي ؟مما له دلالة كبري في هذا الصدد ، ان النظم العربية في مصر والعراق والسعودية وليبيا والكويت اهتمت اهتماما حقيقيا بدراسة هذه المتغيرات العالمية ، من خلال تكليف مراكز الابحاث بإعداد دراسات عنها ، او عن طريق عقد الندوات . لكن القضية ليست هي فهم ما حدث – علي اهميته القصوى – ولكن القضية هي مدي استعداد هذه النظم لكي تغير من ادائها لكي تتكيف مع حقائق العالم الجديد. وينتقل الاستاذ يسين الي تطبيق منهج التحليل الثقافي علي المجتمع العربي. فقد تبني هذا المنهج في قراءة التراث العربي الاسلامي مفكران عربيان بارزان هما محمد أركون الباحث الجزائري والاستاذ بالسوربون ، ، ومحمد عابد الجابري المفكر المغربي المعروف صاحب كتاب « نقد العقل العربى».ومن المعروف ان هناك قراءات حديثة متعددة للتراث اهمها محاولات حسين مروة « النزعات المادية في الاسلام» و«الطيب تزيني» من التراث الي الثورة : حول نظرية مقترحة في قضية التراث العربي « وحسن حنفي» من العقيدة الي الثورة . وفي رايه انه ليس من المبالغة القول ان التشخيص الاساسي لازمة المجتمع العربي عند اركون تتمثل في الهيمنة الشديدة للخطاب الاسلامي بما يتضمنه من نصوص مقدسة في القرآن وأحاديث للرسول الكريم علي مجمل حركة المجتمع العربي. وفي تقديره انه لابد من تفكيك هذه النصوص (والتفكيك مصطلح منهجي حديث ابتدعه الفيلسوف الفرنسي دريدا) والكشف عن طريقة عملها، وتخليصها من الاساطير التي تحيط بها ( واركون يستخدم مصطلح الاسطورة بالمعني الانثروبولوجي للكلمة، ولا يقصد الحط من قداسة النص). ويشدد الاستاذ يسين على ان العقل العربي في نظر بعض المفكرين العرب يحتاج الي تحديث لأنه عقل ساكن هيمن الجمود علي جنباته ، كما نري في كتابات المفكر اللبناني حسن صعب ، وهو عقل يحتاج الي نقد جذري يكشف عن الانظمة المعرفية الاساسية التي يقوم عليها كما نري في كتابات المفكر المغربي محمد عابد الجابري .والفكرة الرئيسية التي ننطلق منها في بحثنا هي ان المجتمع العربي قد وصل الي نقطة ، ثبت منها ان النسق الثقافي عاجز عن القيام بهذه الوظائف ، ومن هنا تأكيدنا اننا نواجه في الوقت الراهن ازمة ثقافية عربية . في هذا السياق يثير الاستاذ يسين ما يسميه خطاب الازمة الذي ساد منذ هزيمة يونيو 1967 . وهناك في الادبيات العربية تشخيصات مختلفة للازمة ، تتباين بتنوع المناهج التي يصدر عنها الباحثون العرب . فاذا تركنا مؤقتا تكييف الازمة وهل هي ازمة تحول ام ازمة جمود ، فانه يمكن القول ان هناك جوانب متعددة للازمة المجتمعية الشاملة . ذلك ان لدينا في الواقع أزمة سياسية وازمة اقتصادية ، وازمة اجتماعية وازمة ثقافية . • الازمة السياسية: وتتجلي الازمة السياسية ابتداء في ازمة المشاركة السياسية . وتكشف عن هذه الازمة مؤشرات متعددة ، اهمها : الانفراد باتخاذ القرار السياسي بواسطة الحزب الحاكم ، والتعددية السياسية المقيدة ، وضعف الاحزاب السياسية المعارضة . • الازمة الاقتصادية تمر البلاد بأزمة اقتصادية واضحة لعل اهم مؤشراتها غياب خطة متكاملة للتنمية المستدامة في مجالات الزراعة والصناعة والتكنولوجيا ، مما يؤدي الي عشوائية عملية صنع القرار في كل هذه المجالات . • الازمة الثقافية: ومن ابزر مؤشراتها ارتفاع معدل الامية ( حوالي 35%من السكان ) ، والانخفاض الشديد بالتالي في مستوي الوعي الاجتماعي ، وشيوع انماط التفكير الخرافي ، وغياب الوعي بالتفكير العلمي ، وعدم توافر مصادر للثقافة العلمية متاحة للجمهور العريض. ويوضح الاستاذ يسين أن ابرز علامات الازمة الثقافية الانفصام الثقافي بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير ، والصراع العنيف بين رؤيتين للعالم ( ورؤية العالم هي النظر للكون والمجتمع والانسان ) احداهما دينية منغلقة ومتطرفة انجذبت لها جماهير متعددة ، ويكشف عن ذلك سيادة موجات التدين الشعبي الذي لا يقوم علي فهم صحيح للدين ، وتزايد موجات الفتاوي التي تحرم وتحلل في موضوعات متعددة بدون مراعاة روح العصر ، والأخرى رؤية ليبرالية منفتحة وان كانت مشتتة ، وعجزت عن انتاج خطاب جماهيري مقنع . ويتساءل الاستاذ يسين عن نتائج الازمة الاجتماعية ويعتبر انه من شأن الازمة المجتمعية بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ان تؤدي الي نتائج سلبية في الممارسة اهمها : • التوترات الاجتماعية Social Tensions يتعرض المجتمع لحالة من التوتر اثناء عملية التغيير الاجتماعي ، وعندما يبدأ التغيير فإنه يثير مؤثرات اجتماعية قد تستمر اذا لم يستطع النسق الاجتماعي استيعابها وخلق آليات للتكيف معها ، وفي هذه الحالة يتحول التوتر الي مصدر للقلق والمشكلات الاجتماعية . • العنف Violence يشير مفهوم العنف الي السلوك الذي يؤدي الي الحلق الأذى والضرر بالآخرين . ورغم ان مفهوم العنف يختلط بكثير من المفاهيم مثل مفهوم تمثل الطغيان الذي ينبغي مواجهته بالانقلاب عليه وباستخدام كل الوسائل .بما في ذلك قتل المدنيين الابرياء، ولكنه وسعه من نطاق رؤيته الارهابية ليضع في دائرة اهدافه الغرب عموما باعتباره يمثل الكفر والانحلال . ويعتبر الاستاذ يسين ان السؤال الرئيسي الذي ينبغي اثارته الان هو كيف نواجه التطرف ؟ هناك اجابة تقليدية تتمثل في استخدام الوسائل الامنية والادوات السياسية ، وهو منهج في تقديرنا عقيم، لأنه ليس بالأمن وحده يجابه الارهاب. وهناك اجابة اخري نتبناها وتتمثل في منهج السياسة الثقافية الذي يقوم علي اساس تحليل ثقافي عميق لظواهر التطرف والارهاب .ويعتبر انه واذا كانت هذه الوسائل يمكن ان تكون فعالة في المدي القصير، فأنها لا تصلح لمواجهة التطرف والارهاب علي المدي الطويل ، لان هذه الظواهر عادة ما تعبر عن « رؤي للعالم» لها جذور في الثقافة، من خلال تأويلات منحرفة للنصوص الدينية، بالإضافة الي انها تعبير بليغ عن التأخر السائد في المجتمعات العربية والاسلامية ، نتيجة لارتفاع معدلات الجهل والامية من ناحية بين الجماهير العريضة، وبسبب انحياز شرائح من النخب المثقفة للتفسيرات الدينية المتطرفة لأسباب شتى . هذا التحليل الثقافي يعود الي اكتشاف انه في مقدمة الاسباب اختراق الجماعات المتطرفة لنظام التعليم بكل مؤسساته . ويساعد علي هذا الاختراق ان التعليم في البلاد العربية والاسلامية يقوم علي التلقين وتقوية الذاكرة ، ولا يقوم علي الفهم ولا علي النقد ولا علي الحوار بين الافكار . فاذا اضفنا الي ذلك ازدواجية نظم التعليم ، بحيث نجد تعليما مدنيا في جانب وتعليما دينيا خالصا في جانب اخر ،( مثاله البارز التعليم الازهري في مصر ، والمدارس الاسلامية في باكستان ) ، لادركنا ان هذه الازدواجية احد اسباب التطرف الايديولوجي . فالتعليم الديني – كما يمارس فعلا – يساعد علي بلورة رؤي للحياة تتسم بالانغلاق ، ويغلب علي دراساته النقل وليس العقل . وفي سياق التحليل الثقافي لا يجوز ان نتجاهل ظاهرة الاحباط الجماعي للجماهير العريضة نتيجة الفشل الحكومي الذريع في اشباع الحاجات الاساسية للجماهير وانتشار الفساد ،وغياب المحاسبة . ومما لا شك فيه ان ما يفاقم من ظواهر التطرف الأيديولوجي تهافت الخطابات الليبرالية والعلمانية ، وعجزها عن الوصول الي الجماهير العريضة من خلال خطاب سياسي وثقافي سهل التناول ، وقادر علي اقناع الناس والتأثير في اتجاهاتها وسلوكياتها . وفي مجال التحليل الثقافي للمجتمع العربي ، وهو ما ينطبق بالضرورة علي المجتمع المصري ، ركز الاستاذ يسين علي ثلاث ظواهر اساسية ، وهي هيمنه النص الديني علي العقل الجمعي ، وتهافت اداء العقل العربي ، وسيادة البنية الاجتماعية القمعية في ظل ما يطل عليه المجتمع « البطريركي» او المجتمع الابوي الذي تمارس فيه السلطة سياسية كانت او ثقافية بطريقة مطلقة . وباعتبار حجم ما حدثته ثورة 30 يونيو من تأثيرات ، فانها عند الاستاذ يسين تفرض التساؤل عما اذا كان الصراع المجتمعي الحالى صراعا سياسيا ام ثقافيا ؟ وهو ما يعود الي تساؤل جوهري :- هل يمكن- كما هو سائد في لغة الخطاب اليوم – تحقيق مصالحة سياسية تقوم اساسا علي ان يتنازل كل طرف عن جزء من مشروعه للتغيير السياسي ؟ ويستخلص الاستاذ يسين ان التوصيف الدقيق لهذا الصراع التاريخي انه في الواقع –لو شئنا الدقة العلمية – لقلنا انه صراع ثقافي في المقام الاول ؟. فهذا الصراع في الواقع يقوم اساسا بين نموذجين معرفيين ينطلق كل واحد منهما من رؤية للحياة Vision du monde مناقضة للأخرى ولا يمكن لهما ان يتلاقيا تحت اي ظرف. النموذج المعرفي الاول هو الحداثة modernity، النموذج المعرفي الثاني مناقض للحداثة ، ويقوم علي اساس محاولة استعادة نموذج تقليدي اسلامي هو الخلافة الاسلامية وفق مشروع اخواني محدد الملامح والسمات. ولو طبقنا منهجيه التحليل الثقافي لوصلنا الي نتيجة رئيسية مؤداها ان المجتمع التقليدي العربي لم يستطع اجتياز اختبار الحداثة الغربية، والتي كانت اساسا للتقدم الغربي كله في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة . والسؤال الذي ينبغي اثارته الان : ما هي الملامح الاساسية لهذا المجتمع الثوري المصري الجديد الذي خلفته ثورة 25 يناير ؟ قبل الاجابة عن هذا السؤال المحوري ينبه الاستاذ يسين اننا نعيش في عصر ما بعد الحداثة . واهم سماته سقوط السرديات القبري او الانساق الفكرية المغلقة التي كانت تأخذ عادة شكل الايديولوجيات المصمتة كالماركسية المتطرفة او الرأسمالية الجامحة . كما سقطت ايضا اوهام الحقائق المطلقة او المواقف الفكرية الثابتة التي لا تتغير حتي لو انقلبت الاحوال ، وبرزت ظواهر جديدة غير مسبوقة تحتاج الي اطار نظري جديد يحاول الغوص الي اعماق المشكلات في عصر لابد فيه من الاعتماد علي الانساق الفكرية المفتوحة ، التي تستطيع ان تؤلف تأليفا خلاقا بين متغيرات متعارضة ، كان يظن انه لا يمكن لجمع بينها في مؤلف فكري او سياسي واحد . كالتأليف بين العلمانية والدين، او بين الاشتراكية والرأسمالية ، اوبين الحرية والعدالة الاجتماعية . ويرصد الاستاذ يسين ملامح المجتمع الثوري المصري الوليد ، واول ملامحه ان دور المثقف التقليدي والذي ساد طوال القرن العشرين والذي كان يقوم علي اساس تبني رؤية نقدية لأحوال المجتمع والاهتمام بالشأن العام من خلال تبني ايديولوجيات متعددة ، قد سقط لحساب دور جديد ناشئ لمن يطلق عليه «الناشط السياسى» والملمح الثاني من ملامح المجتمع الثوري هو ظهور فئة « الحشود الجماهيرية الهائلة» والتي حلت محل فئة الجماهير التقليدية التي كان يمكن ان تخرج الي الشارع للمعارضة في صورة مظاهرة لا يتعدى عدد اعضائها المئات ، مما يسهل مهمة قوات الامن في تفريقها. غير ان الحشود الجماهرية حين يصل اعداد المشاركين فيها الي مئات الآلاف او الي الملايين في بعض الاحيان ، فمعني ذلك عجز اي قوة امنية عن تفريقها او وقف انتشارها. والملمح الثالث من ملامح الخريطة المعرفية للمجتمع المصري بعد الثورة هو بروز التناقض بين الشرعية الثورية والشرعية الديمقراطية. ما هي اهداف السياسة الثقافية الجديدة ، وفي تقديره انه في مقدمه هذه الاهداف تحديدا واضح للأهداف الاساسية التي نهدف الي تحقيقها وهى :- • تكوين العقل النقدي ويتطلب ذلك في الواقع ثورة تعليمية شاملة تحاول الغاء عملية التعليم التلقينية السائدة والتي تصوغ عقولا اتباعية عاجزة عن الابداع ، ولا تستطيع ان تحل المشكلات بحلول مبتكرة . • نشر ثقافة التجدد المعرفي الدائم وذلك في ضوء المسلمة السائدة الان في العالم وهي اهمية « التعليم مدي الحياة»، بعبارة اخري التقاليد البالية التي تقضي بنهاية التعليم مع الحصول علي الشهادة – أيا كان نوعها – انتهت في العالم المتقدم . واصبحت هناك مسئولية ثقافية علي عاتق الرواد في المجتمع من الاكاديميين والساسة والمثقفين المفكرين وهي التجدد المعرفي الدائم . • تجسير الفجوة بين التعليم الديني والتعليم المدني لان التعليم الديني في مصر يقوم علي النقل ولا يقوم علي العقل ، والتعليم المدني يقوم علي التلقين وحفظ قشور المعرفة العلمية . فلابد للقضاء علي ظاهرة الانفصام الثقافي الخطيرة ان نجدد في برامج التعليم الديني من ناحية ، وان نعيد النظر كلية في مناهج التعليم المدني بما يتفق مع تطورات العالم المعاصر . —وباعتبار ما يتردد كثيرا هذه الايام الدعوة لإنتاج « خطاب اسلامي وسطى» حيث يقوم الازهر بمكانته الحالية في الدور الاكبر في هذه العملية الضرورية والمهمة هامة . الا ان الاستاذ يسين ينطلق من رؤية ثقافية مغايرة لهذا المطلب البالغ الاهمية .انه ينبغي ان نلتفت الي حقيقة مهمة هي انه لا كهانة في الاسلام .وتقتضي هذه القاعدة الا تترك عمليه التفسير والتأويل لمن يتخصصون في الدين فقط ، بل ينبغي ان تفتح لكل المفكرين المؤهلين للدخول في عملية تجديد الفكر الاسلامي بما يلائم حاجات العصر ، وخصوصا اذا كانوا قد درسوا بعمق « اصول الفقه» والتي يمكن اعتبارها هي مناهج البحث الاسلامية. وهكذا يعيد الاستاذ يسين تقديم منهجه في التحليل الثقافي الذي اهتدي اليه من عجز المناهج التقليدية عن تفسير التحولات التي حدثت في العالم ، ولعل الجديد في كتاب الاستاذ يسين الاخير هو ما نطبقه علي المجتمع العربي ومن خلال استعراض كتابات المفكرين العرب لازمة المجتمعات العربية ينتهي انها تتمثل في الهيمنة الشديدة للخطاب الاسلامى، ومن ثم فان الفصل العربي يحتاج الي تجديد لأنه عقل ساكن يهيمن الجمود عليه . غير ان من اهم الاسئلة التي يطرحها الاستاذ يسين هو كيف نواجه التطرف، وهو يخلص الي تعقم المواجهة الامنية للتطرف، لأنه ليس بالأمن وحده يحارب الارهاب ويقدم تحليلا ثقافيا عميقا لظواهر التطرف والارهاب . ان كتاب الاستاذ السيد يسين هو هديه للباحثين الذين يجتهدون في قراءة تحولات العالم وعصر التغيير العالمي الشامل الذي بدأت موجاته منذ سقوط الاتحاد السوفيتي خاصة بعد ان فشلت المناهج التقليدية في التنبؤ بهذه التحولات ويفسر تحليلاتها المتنوعة التي تشتبك معها الان .