هل يمكن الحديث عن وجود أزمة ثقافية عربية والحاجة إلي نهضة شاملة للمجتمع العربي في عصر العولمة, بغير مناقشة الأدوار المتغيرة للمثقف العربي؟ لقد لعب المثقفون العرب منذ بداية النهضة العربية الأولي ادوارا بالغة الأهمية مهدت لهذه النهضة, وحددت مساراتها وساعدت علي تحقيق انجازاتها المبهرة, وهي تعبر بالمجتمع العربي من حالة التخلف الي آفاق التقدم.. لقد قام المثقفون العرب أولا بممارسة النقد الثقافي لمختلف جوانب التخلف في المجتمع العربي. وقد آثار هذا النقد الذي اتخذ اشكالا شتي في مجال المقالات والروايات والقصص والاشعار الوعي الجماهيري بخطورة التخلف السياسي والاقتصادي والثقافي, وأهمية إرساء قواعد نهضة حضارية شاملة. للتخلف السياسي. غير أن المثقفين العرب لم يقنعوا بدور النقد الثقافي مع أهميته القصوي, ولكنهم تقدموا خطوات اخري حين مارسوا التعريف بالحضارة الغربية من خلال رحلاتهم المباشرة التي قاموا بها للبلاد الاوروبية المختلفة, وسجلوا في كتب مهمة قراءاتهم لمظاهر هذه الحضارة وتحليلا للأسس التي قامت عليها, ودعوة جادة لنقل قيمها الي البيئة العربية, مع مراعاة اهمية تكييفها وتعديلها حتي تتناسب مع بعض ملامح الخصوصية العربية, وذلك ادراكا عميقا منهم أن القيم السياسية والاجتماعية والثقافية لا تعمل في فراغ, وانما هي محصلة التفاعل الجدلي بين القوي السياسية والاجتماعية والسياق التاريخي الذي يمر به المجتمع, والذي يتغير بالضرورة عبر العصور.. بعبارة أخري التاريخ السياسي والاجتماعي الفريد لأوروبا كان من شأنه أن يولد نسقا متكاملا من القيم, يعكس في الواقع الصراع علي سبيل المثال بين الإقطاع والرأسمالية علي الصعيد الاقتصادي, وبين الاستبداد والديمقراطية علي الصعيد السياسي, وبين الانغلاق الفكري والانفتاح المعرفي علي الصعيد الثقافي. وهكذا يمكن القول إنه نشأت لدينا في الوطن العربي فئة خاصة من المثقفين هم الرحالة العرب, الذين سافروا الي الغرب للدراسة او السياحة او الاطلاع, وعادوا وسجلوا مشاهداتهم ونشروا تحليلاتهم القيمة في كتب أصبحت علامات في التاريخ الفكري الحديث, والتي كونت تراثا خاصا يطلق عليه أدب الرحلة. وربما كان الكتاب الشهير لرائد الفكر العربي الحديث الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي تخليص الابريز في تلخيص باريز نموذجا بارزا لهذا النمط من الكتابات العربية المبكرة, التي حاولت ان تستكشف بوعي ثقافة الآخر من خلال استطلاع الخرائط المعرفية للحضارة الغربية. وقد انجزت الباحثة اللبنانية الدكتورة نازك سابا يارد كتابا مرجعيا بالغ الاهمية يوثق هذا النمط من كتابات المفكرين العرب الرواد, ونشر بعنوان الرحالون العرب وحضارة الغرب في النهضة العربية الحديثة بيروت: مؤسسة نوفل,1979. وقد درست فيه أجيالا متعددة من الرحالة العرب من أول رفاعة الطهطاوي حتي طه حسين, وحرصت في كل جيل ان تركز علي الرحالة المسلمين والمسيحيين معا علي اساس ان نظرة كل فئة للحضارة الغربية قد تختلف وفق العقيدة الدينية لكل رحالة. وكنموذج لهذا المنهج اختارت نازك سابا يارد أربعة رحالين في الحقبة الاولي وهم رفاعة رافع الطهطاوي المصري1801 1873 وخير الدين التونسي1810 1890 واحمد فارس الشدياق اللبناني1804 1887 وفرنسيس مراش الحلبي1836 1873. واذا كنا قد أشرنا الي دورين أساسيين من الادوار التي قام بها المثقفون العرب منذ بداية النهضة العربية, وهو ممارسة النقد الثقافي لتخلف المجتمع العربي من ناحية, والتعريف النقدي بمظاهر وقيم الحضارة الغربية من ناحية أخري, فإن اخطر الادوار التي قام بها المثقفون العرب من الأجيال التالية هو محاولة إقامة مؤسسات سياسية ابرزها الاحزاب, للنضال أولا ضد الاستعمار الغربي للدول العربية بصوره المختلفة, ولإرساء قواعد الديمقراطية, ليس ذلك فقط بل لقد كافحوا لتطوير نظم التعليم في بلادهم ليصبح تعليما عصريا يتجاوز نظم التعليم المتخلفة السائدة ولكي يؤسسوا جامعات حديثة علي النمط الغربي, كما فعل المثقفون المصريون حين أنشأوا جامعة القاهرة والتي كانت في بدايتها جامعة اهلية اكتتب الناس لإنشائها. ومعني ذلك ان المثقفين العرب لم يؤسسوا فقط لبداية نهضة عربية حديثة, ولكنهم في عصر الاستعمار الغربي لبلادهم مارسوا النضال الوطني ضد الاستعمار, واختلطت صفة المثقف بالسياسي بالمناضل, واصبح لدينا في الوطن العربي فئة اجتماعية جديدة تقوم بتنوير الجماهير, وتمارس السياسة بكل أبعادها بما في ذلك جذب الجماهيروتنظيمهم في أحزاب سياسية, وتقوم في نفس الوقت بالنضال الوطني ضد الاستعمار وفي كل هذه الادوار دفع المثقفون العرب الثمن غاليا, فقد وقعت عقوبات السجن علي عشرات منهم, كما ان عددا غير قليل أبعدوا الي المنافي الاجنبية, ومن بقي يناضل داخل بلده ضيق عليه في رزقه وحرياته الأساسية. وهكذا يمكن القول إن المثقفين في عصر التحرر الوطني لهم سمات خاصة وفريدة, بالرغم من انتماءاتهم الايديولوجية المتنوعة, فقد كان منهم الماركسي والليبرالي وصاحب التوجه الاسلامي, وداعية القومية العربية غير انهم جميعا شاركوا في النضال ضد الاستعمار, حتي تحررت في الخمسينيات كل البلاد العربية المستعمرة. وجاء عهد الدولة الوطنية التي مارست مهامها في ظل عصر الاستقلال ليفرض علي المثقفين العرب ادوارا جديدة مغايرة لما قاموا به في الماضي. فقد دخل عديد منهم دوائر السلطة المباشرة وأصبحوا رؤساء لبلادهم أو وزراء في عديد من التشكيلات الوزارية, أو زعماء لأحزاب سياسية حاكمة. ومن ناحية أخري أصبح بعض المثقفين العرب من زعماء المعارضة في بلادهم. وهكذا نشأ لدينا في الوطن العربي نموذجان من المثقف مثقف السلطة و المثقف المعارض, ودارت بين المثقفين الذين يندرجون تحت كل فئة معارك أيديولوجية وسياسية شتي اتسمت بعضها بالعنف الشديد والقمع السياسي المباشر, لدرجة توقيع عقوبات بالإعدام علي بعض المثقفين المعارضين, مما جعل سنوات الاستقلال في بعض الأحيان تكاد تكون أقسي وأعنف من سنوات الاحتلال! ويمكن القول إنه لايمكن إطلاقا في مقال وجيز الإلمام بالتاريخ الزاخر للمثقفين العرب وللأدوار المتنوعة التي قاموا بها. غير أنه لايمكن الحديث عن نهضة ثقافية عربية مرغوبة بغير التحديد الدقيق للمشكلات التي تواجه المثقف العربي اليوم, واستطلاع نوع العطاء الذي يمكن أن يقدمه للاسهام في عبور المرحلة التاريخية العربية الراهنة, والتي تتسم بسيادة الشمولية والسلطوية من الناحية السياسية, وبالتطرف الفكري من الناحية العقائدية, الي آفاق الديمقراطية والانفتاح المعرفي, والتفاعل الحضاري المنفتح مع الآخر. وهناك دراسات عربية متعددة كتبت عن المثقفين العرب في المراحل التاريخية المختلفة التي مرت بها الأمة العربية من العصر الحديث حتي المرحلة المعاصرة. وهي تختلف في مقارباتها المنهجية وفي قيمتها الفكرية. غير أنه لفت نظري وأنا أعد نفسي لمعالجة الموضوع كتابا بالغ الأهمية بعنوان المثقف العربي: همومه وعطاؤه أشرف علي إعداده الباحث الفلسطيني العربي المرموق الدكتور أنيس صانع, وشاركت فيه نخبة من ألمع المفكرين العرب. وقد نشر هذا الكتاب مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسة عبدالحميد شومان( بيروت,1995) ويلفت النظر في هذا الكتاب المرجعي المهم الذي تستحق دراساته المتميزة تحليلات متنوعة المقدمة العميقة التي كتبها الدكتور أنيس صايغ. والتي رصد فيها أبرز الظواهر المتعلقة بالمثقفين العرب والتي تحتاج إلي مناقشة نقدية. وقد حدد في هذا المجال أربع ظواهر. الظاهرة الأولي: أن المشكلات التي يواجهها المثقف العربي ليس بالضرورة أن تكون خارجية. والظاهرة الثانية أن الظروف الصعبة التي عادة ما تحد من قدرة المثقف علي الانطلاق قد تكون هي بذاتها حافزا للانجاز. والظاهرة الثالثة: أن الثقافة قد لاتشكل وحدها سلاحا ينتصر به المثقف علي واقعه المتخلف. والظاهرة الرابعة هي أن الثقافة لاتتسم بحكم طبيعتها بالسكون بل هي في حالة تحرك دائم وتحول مستمر, ومن هنا أهمية رصدها في المراحل التاريخية المختلفة. وأحسب أن كل ظاهرة من هذه الظواهر التي رصدها بدقة الدكتور أنيس صايغ, تحتاج إلي تحليل عميق يكشف عن أبعادها من ناحية, ويربط كل منها بالسياق التاريخي من ناحية أخري. وبعبارة موجزة في بحث الأدوار المتغيرة للمثقف العربي لابد لنا أن نمارس التحليل الثقافي بكل أبعاده الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية, حتي نحدد الامكانيات التي يمتلكها المثقف العربي في الوقت الراهن, وقدرته علي تغيير المجتمع العربي, في ضوء التحولات الكبري التي أحدثتها العولمة في بنية المجتمع العالمي المعاصر. المزيد من مقالات السيد يسين