حاولنا من قبل تفسير السعي البطولي لمئات المتضامنين مع الشعب الفلسطيني لفك الحصار عن غزة. ولفت نظرنا أنهم يحملون جنسيات دول متعددة, وينتمون إلي ثقافات متنوعة. ويدينون بالإسلام والمسيحية واليهودية لافرق بينهم. وهم لم يقنعوا بتنظيم المظاهرات في عواصم دولهم احتجاجا علي الهمجية الإسرائيلية, ولكنهم نظموا قوافل الإغاثة, وركبوا البحر في أسطول الحرية, وبعد ذلك في السفينة راشيل كوري, برغم علمهم بالمخاطر التي تحيط بهم, بعد التهديدات الإسرائيلية بمنعهم من الوصول إلي غزة. كيف يمكن أن نفسر سلوك هؤلاء المتضامنين الأجانب؟ قدمنا بهذا الصدد تفسيرا أساسيا يقوم علي أساس تبلور وعي كوني نتيجة الثورة الاتصالية الكبري, وفي قلبها البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الأنترنت, وهذه الثورة أتاحت لملايين البشر في كل مكان أن يشاهدوا الأحداث في الزمن الواقعيRealTime لحدوثها, مما أتاح برزو ثقافة كونية مفرداتها الأساسية هي التسامح والاعتراف بالخصوصيات الثقافية للشعوب, وإدانة العنف والعدوان علي حرية الشعوب, وأهمية النضال ضد الفقر الذي يسود عديدا من البلاد النامية. غير أننا لو ألقينا البصر علي المشهد العالمي لاكتشفنا أن هذه صورة واحدة من صور المشهد, لأننا نعيش عصر التناقضات الكبري. بعبارة موجزة الصورة الأولي إيجابية, تشير إلي أننا نعيش زمن العقلانية والانفتاح الكوني والتعاطف مع الآخر, والصورة الثانية هي الارتداد السلبي إلي الطائفيات والمذهبيات, بل وأكثر من ذلك تطور التقاليد القبلية لتصبح قبائلية جديدة, ساعدت علي نشوئها ثورة الاتصالات التي جعلت الجماعات المتعصبة سياسيا أو ثقافيا أو دينيا تنشيء لنفسها مواقع علي الانترنت, وتحشد الأنصار في سياق إنتاج خطابات متعصبة, تمجد الذات وتعادي الآخر المختلف سياسيا أو ثقافيا أو دينيا. والسؤال الذي ينبغي أن نثيره الآن هل هذه الصورة السلبية نتاج العولمة في جوانبها غير الخلاقة, أم هي أبعد من ذلك نتيجة طبيعية للهيمنة الغربية التي سادت العالم منذ قرون, ومازالت تجدد نفسها في كل عصر, وإن اتخذت أشكالا مختلفة؟ أثار هذا السؤال المثقفون العرب الذين تصدوا للعولمة من ناحية, وواجهوا إشكالية الهيمنة الغربية من ناحية أخري, وقد أتاح لنا عالم الاجتماع المصري المعروف د. محمد حافظ دياب في كتابه المهم تعريب العولمة( القاهرة2009) الفرصة لكي نلم بالاتجاهات الأساسية التي تبناها المثقفون العرب إزاء العولمة. وابتداء يمكن القول أن هؤلاء المثقفين كما يقرر دياب لم يواجهوا قبلا تساؤلات علي قدر عال من الكثافة والجدال كما يبدو في الراهن بإزاء العولمة وقد طرح المفكر المصري العالمي سمير أمين قائمة من الأسئلة الصعبة التي تثيرها العولمة. وتساءل كيف نعرف العولمة والاستقطاب الملازم لها؟ بالسوق العالمية أم بشمولية التكنولوجيا, أم بالتقدم علي طريق بناء نظام إنتاجي عالمي؟ وبأي الوسائل يتم ذلك بالسياسة أم بالتقاليد, وكلتاها تقتربان من اتخاذ سمات أكثر كونية, وهل تنتج العولمة استقرار أم أنها تزيد من تخلخل الأنظمة؟ وفي تقديرنا إن هذه الأسئلة بالغة الأهمية الاستكناه طبيعة العولمة باعتبارها عملية تاريخية, وتحديد ملامحها وقسماتها الأساسية, وتقييم إيجابياتها وسلبياتها, وقد تصدي للرد وإن كان بشكل غير مباشر علي بعض هذه الأسئلة الكبري الفيلسوف المصري المعروف الدكتور حسن حنفي في مقال له بالغ الأهمية عنوانه الهوية الثقافية العربية( نشر في مجلة سطور العدد119, أكتوبر2006). لقد قدم أطروحه متكاملة تقوم علي فكرة محورية مبناها أن العولمة هي بكل بساطة إفراز معاصر من إفرازات الهيمنة الغربية. وهو يدلل علي صدق أطروحته بمسح حضاري شامل, يتعقب فيه العلاقات المعقدة بين المركز والأطراف. وهو لذلك يرصد النشأة التاريخية للمركز الأوروبي في عصوره الحديثة, وترويجه لثقافته خارج حدوده إلي باقي الثقافات. وقد أدي ذلك كما يقول حسن حنفي إلي أن أصبح مسار التاريخ الأوروبي عن وعي أو عن لاوعي هو المسار التاريخي لجميع الثقافات. ولو ألقينا البصر علي المشهد العالمي لاكتشفنا أن الغرب الحديث الآن هو المركز, ومن ثم يفرض مساره علي باقي الثقافات مما يؤدي إلي زيادة الاغتراب الثقافي والحضاري عند كل الشعوب. وقد أدت المركزية الأوروبية إلي تزييف التاريخ العالمي, فقد أسقطت الإبداعات التي قدمتها الحضارات غير الأوروبية من سجل التقدم الإنساني وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية, التي كانت هي الملهمة للمفكرين والباحثين الأوروبيين لكي يخرجوا أوروبا من غياهب القرون الوسطي, اعتمادا علي العلم العربي في مجالات علمية متعددة. ولقد أدت الهيمنة الغربية منذ نشأتها وخصوصا في حقبة الاستعمار التقليدي إلي تحفيز الهوية العربية الإسلامية لكي تدافع عن نفسها إزاء هجمات الاستعمار, واتخذت هذه الهوية مسارات شتي من بينها التركيز علي الأصولية الإسلامية في صورتها الوسطية الصحيحة, والتي انحرفت من بعد تحت ضغوط الهيمنة الغربية لكي تتحول إلي نزعات متطرفة, أدت إلي نشوء جماعات إرهابية تتشح بزي الإسلام وهو بريء منها تماما. واللافت للنظر أن حسن حنفي يعتبر بشكل قاطع أن العولمة هي أحد أشكال الهيمنة الغربيةالجديدة التي تعبر عن المركزية الأوروبية في العصر الحديث والتي بدأت منذ الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر. ويدلل علي ذلك بتتبع الموجات الاستعمارية الغربية في أفريقيا وآسيا أيام الاستعمار القديم الذي انتقل مع بداية هذا القرن إلي استعمار جديد, باسم مناطق النفوذ والأحلاف العسكرية في عصر الاستقطاب, والشركات المتعددة الجنسية, واقتصاد السوق والعالم ذي القطب الواحد. والواقع أنه بالرغم من موافقتنا علي الخط النقدي العام الذي تبناه الدكتور حسن حنفي في تحليله للآثار السلبية للهيمنة الغربية, إلا أننا نتحفظ علي اعتباره أن العولمة هي أحد أشكال الهيمنة الغربية التي تعبر عن المركزية الاوروبية في العصر الحديث. فهذا الحكم يختزل ظاهرة العولمة والتي هي عملية تاريخية كبري متعددة المصادر, زاخرة بالأبعاد, في كونها مجرد تعبير عن الهيمنة الغربية والمركزية الأوروبية. والحقيقة أن العولمة لها جذور تاريخية قديمة, ولا نريد في هذا المجال العودة بها قرونا إلي الوراء كما يزعم بعض الباحثين, لأننا نعتقد أن الأصل الحديث لها هو الثورة العلمية والتكنولوجية التي شهدتها الدول الصناعية الكبري في القرن العشرين مثل الولاياتالمتحدةالأمريكية وألمانيا واليابان والاتحاد السوفيتي قبل انهياره. وقد سبق لنا أن أصلنا نشوء هذه الثورة العلمية والتكنولوجية في دراسة لنا بعنوان الايديولوجيا والتكنولوجيا. نشرت في مجلة الكاتب عام1969 وضمنتها كتابي الحوار الحضاري في عصر العولمة( القاهرة, ط2002,2). وقد عرفت في هذه الدراسة الثورة العلمية والتكنولوجية بأنها هي التي جعلت العلم أحد مصادر الإنتاج الرئيسية, بالإضافة إلي مصادر الإنتاج التقليدية مثل الأرض ورأس المال والتنظيم. هذه الثورة غيرت العالم, لأنها أعادة صياغة طرق الانتاج, واكتشفت مواد طبيعية جديدة, واخترعت مواد جديدة ليست موجودة في الطبيعة. شقت هذه الثورة طريقها, وأعيدت صياغة المجتمعات الصناعية في ضوئها, إلي ان قامت الثورة الاتصالية الكبري, ومن قلبها البث الفضائي التليفزيوني وشبكة الإنترنت, التي خلقت فضاء عاما جديدا هو الفضاء المعلوماتيCyberSpace والذي أدي إلي ثورة كبري في مجال الاتصال الإنساني. ترافق الثورة العلمية والتكنولوجية مع الثورة الاتصالية هو الذي أبرز ظاهرة العولمة التي ظهرت إرهاصاتها منذ أواخر السبعينيات, وكشفت عن كل ملامحها في الثمانينيات والتسعينيات. ووجدنا أنفسنا ننتقل بسلاسة من نموذج المجتمع الصناعي إلي نموذج مجتمع المعلومات العالمي الذي يتحول ببطء وإن كان بثبات إلي مجتمع المعرفة. بعبارة أخري ستصنف المجتمعات الانسانية في القرن الحادي والعشرين علي أساس التفرقة بين مجتمعات منتجة للمعرفة علي أساس تنمية الإبداع الفردي والمجتمعي, ومجتمعات مجرد مستهلكة للمعرفة, ولا دور لها في تقدم الحضارة الإنسانية. والدليل علي أطروحتنا والتي مبناها أن العولمة ليست ما ذهب حسن حنفي في مقاله الممتازة مجرد تعبير عن الهيمنة الغربية, أن مجتمعات آسيوية استطاعت استخدام أدواتها بطريقة إيجابية خلاقة لتنطلق انطلاقة كبري في مضمار التنمية المستديمة. ولعل نموذج ماليزيا تعبير عن هذا الاتجاه, والذي ظهرت بوادره قبل النموذج المبهر للصين, التي تحاول الجمع بين إيجابيات العولمة, والحفاظ في نفس الوقت علي الهوية الثقافية الصينية. هذا هو التحدي أمام العالم العربي ونعني الدخول في صميم الثورة العلمية والتكنولوجية, والاستفادة القصوي من ثورة الاتصالات, والاعتماد علي أدوات العولمة المتقدمة لتطوير المجتمع العربي, في ظل تأليف خلاق بين الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية, والانفتاح الحضاري وفق رؤية عصرية للعالم.