شكلت الهندسة القانونية الحديثة أحد المداخل الرئيسية لبناء الدولة المصرية ومؤسساتها حول مشروعي محمد علي وإسماعيل باشا, وذلك علي عديد المحاور التي يمكن رصد بعضها تمثيلا لاحصرا فيما يلي: 1 الانتقال من قوانين الأعراف والتقاليد, والنزعة الانتقائية في أعمال القانون التقليدي إلي بدايات المنظومات المكتوبة والمقننة. 2 تطوير الأنظمة الإدارية التي تؤطر عمل وتمأسس بعض أجهزة الدولة والموظفين العموميين. 3 بروز بدايات للتوجه إلي التقاليد القانونية والفقهية الوضعية الغربية حول المرجعية اللاتينية الإيطالية والفرنسية والبلجيكية التي ستؤثر علي الفكر القانوني والسياسات التشريعية في غالب مراحل التطور القانوني للدولة والمجتمع, وذلك بقطع النظر عن طبيعة وشكل النظام السياسي المصري, من المرحلة شبه الليبرالية إلي نظام يوليو من الناصرية إلي الساداتية إلي المرحلة الراهنة لحكم الرئيس حسني مبارك. 4 تكوين جماعة قانونية مصرية تضم جماعات فرعية كالقضاة والفقه والمحامين, استطاعت أن تؤقلم المنظومات وبني الأفكار والنظريات والمفاهيم والمباديء والمصطلحات القانونية الحداثية علي الواقع الاجتماعي والسياسي والإداري.. إلخ المصري. ويمكن القول بأن الجماعة القانونية المصرية راكمت إنتاجا قانونيا نظريا وتطبيقيا ودفاعيا مرموقا رادت به النظم والجامعات القانونية العربية, ولاسيما تلك التي أخذت بالتقاليد القانونية اللاتينية. 5 في مختلف مراحل تطور الفكر القانوني المصري الحديث والمعاصر, سيطرت النزعة الانتقائية والتوفيقية, وبعض أشكال السرد الإصطلاحي المستعار من البلاغة الإصطلاحية اللاتينية, ثم الأنجلو أمريكية مع انفتاح القضاء الدستوري المصري علي الفقه والتجربة الأمريكية متمثلة في قضاء المحكمة العليا, وذلك الاتجاه راده المستشار عوض المر رئيس المحكمة الأسبق. 6 يبدو لي أن معرفة الإسهامات التي قدمها المفكر المصري السيد يسين في مجال الدراسات القانونية تتطلب مقاربة تتجاوز عرض بعض الأفكار والمفاهيم الأساسية التي طرحها من خلال مؤلفه عن السياسة الجنائية المعاصرة علي أهمية ذلك, ولكنها ستبدو محاولة وصفية وسردية وشكلية, وجزئية. وما يدفع الكاتب لهذه الوجهة من النظر أن الإنتاج الأكاديمي والبحثي للسيد يسين في مجال البحث والدرس القانوني الاجتماعي أكثر تركيبا وتنوعا, وثمة خطوط ومسارات وتداخلات أثرت علي نمط ممارسته البحثية, ونسقه اللغوي والإصطلاحي وجمالياته البلاغية, وتحليلاته في مراحل تطوره وإنتاجه الفكري الأخري, علي اختلافها. في هذا الصدد لابد من تتبع مسارات تطوره كباحث اجتماعي, وموقع المرحلة السوسيو قانونية فيها, وأثرها علي توجهاته وإنتاجه المعرفي واللغوي بعدئذ. ترتيبا علي ذلك يمكننا أن نستعيد تقسيمنا السابق في بعض المقالات لأعماله علي عديد المراحل فيما يلي: أ مرحلة التأسيس المنهجي, والخطاب حول المنهج في العلوم الاجتماعية. ب مرحلة البحث في السلوك الإجرامي, والسياسة الجنائية ومعاملة الجانحين والمقاربات السوسيو قانونية. ج مرحلة الانتقال إلي علم الاجتماع السياسي في تحليل الظواهر والمشكلات والأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المصرية, والقضايا والمشكلات الاستراتيجية علي المستويين الدولي والإقليمي. د مرحلة التحليل الثقافي في المقاربات الإستراتيجية للظواهر العولمية والإقليمية والمصرية. هذا التقسيم التاريخي/المعرفي/المنهجي, سبق لنا عرضه في عديد المقالات والخطابات الشفاهية حول الإنتاج الفكري وتطوراته لدي الأستاذ الكبير السيد يسين نستعيده هنا ليس بغرض السرد والتوصيف, وإنما لمعرفة أين تقع المرحلة القانونية, ولاسيما في مجال الخطاب البحثي حول السياسة الجنائية في إطار هذه المراحل. وقد يغلب علي ظن بعضهم أن المرحلة القانونية هي مرحلة تاريخية, انتهت بانتقاله من البحث في سوسيولوجيا القانون والجريمة والعقاب في المركز القومي للبحوث الاجتماعية إلي مجال الدراسات الاستراتيجية وعلم الاجتماع السياسي في إطار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. أتصور أن هذا التوجه في تحليل الإنتاج المعرفي للسيد يسين يبدو غير دقيق من وجهة نظري وأرجو ألا أكون مخطئا, لأن جذور وتمرينات وممارسات ولغة هذه المرحلة ستنتقل معه في غالب المراحل التالية, وهو ما سأشير إليه, عقب طرح أهمية المرحلة القانونية في تطوره, وذلك علي النحو التالي: 1 تساوقت مرحلة التأسيس المنهجي الاولي وتوازت وتزاوجت مع المرحلة القانونية وغيرها من المراحل الاخري. بدت مراحل التكوين المنهجي التأسيسية حول المقاربة القانونية الوضعية خلال مراحل الدراسة بكلية الحقوق. من خلال دروس كبار فقهاء القانون كالأستاذ الفقيه الدكتور حسن كيرة ودروسه التأصيلية رفيعة التحليل واللغة في أصول القانون ونظرياته, وحسن المرصفاوي في القانون الجنائي, وغيرهما. وأبرز ما في كتابات الفقيهين الكبيرين, هو النزعة التأصيلية النقدية للأفكار والنظريات الكبري والفرعية, وتقصي جذور الأفكار وشجرة أنسابها الفكرية وتحولاتها في فقه القانونين المدني والجنائي اللذين يشكلان عصب الدرس القانوني الأكاديمي والبحثي والتعليمي في غالب فروعه تاريخيا. أن تحليل كتب ومقالات السيد يسين في المرحلة القانونية يكشف عن مران وممارسة بحثية اتسمت بملكة التأصيل للأفكار من خلال استخدام المنهج التاريخي في مقارباته, وذلك من خلال تتبع جينولوجيا الأفكار, وذلك بالرجوع إلي بدايات تكون الأفكار والنظريات تاريخيا, ثم تطورها ومسارات تحولها, وتداخلاتها مع شبكات أخري من الأفكار. هذا التوجه في المقاربة البحثية والخطاب المنهجي يعود إلي مرحلة التكوين, الممارسة. من ناحية أخري, أسهمت مطالعاته ثم بحوثه حول مناهج البحث في العلوم الاجتماعية ولاسيما كتابه مع د. جمال زكي أسس البحث الاجتماعي في تطوير ملكاته وأدواته وإرهاف حسه البحثي من خلال الاطلاع علي الأسس والمبادئ والمقاربات المنهجية للظواهر والمشكلات, والكتابة عنها, والأهم استخدامها في التمرينات الذهنية والكتابية, ثم علي مستوي الممارسة البحثية التي اتسمت بالإتقان والرصانة في غالب الأحوال. نستطيع القول بأن التكوين الأكاديمي, والبحثي حول أسس البحث السوسيولوجي, والممارسة النظرية والتحليلية النقدية شكلا معا المقدمات التأسيسية التي تداخلت وتواشجت مع المرحلة القانونية من منظورات التحليل السوسيو قانوني, والسوسيو جنائي, وذلك حول عديد مؤلفاته ودراساته, ومنها: 1 دراسات في السلوك الإجرامي ومعاملة المذنبين( القاهرة: دار الفكر العربي,1963) 2 مدخل للمشكلات الأساسية لعلم الاجتماع القانوني, المجلة الاجتماعية القومية, مايو سنة1968. عدد2, مجلد153,5 175. وفي هذا السياق البحثي والمعرفي يمكن وضع مؤلفه السياسة الجنائية المعاصرة دراسة تحليلية لنظرية الدفاع الاجتماعي الطبعة الأولي, دار الفكر العربي, القاهرة1973. يمكننا استخلاص عديد الملاحظات من تحليل هذا السياق التاريخي/ المنهجي/ التكويني فيما يلي: 1 التداخل بين المقاربة التاريخية التأصيلية والمقارنة. 2 الرجوع إلي المصادر الأساسية للأفكار والنظريات. 3 بروز الأبعاد السوسيو ثقافية في التحليل السوسيو قانوني, وفي تحليل السلوك الإجرامي, والمعاملة العقابية للمذنبين. 4 اللجوء إلي الأنظمة القانوية والنظرية والتجارب المقارنة في مجال السياسة الجنائية ومعاملة الجناة, علي نحو ما برز جليا في مؤلفه الهام السياسة الجنائية المعاصرة. 5 بروز المقاربة السوسيو قانونية ذات المنابت والجذور الماركسية الاجتماعية ولاسيما المادية التاريخية. 6 تأثر السيد يسين بأساتذة وفقهاء كبار استطاعوا ريادة مقاربة سوسيو قانونية مغايرة للمقاربة الشكلانية للمدرسة الوضعية القانونية, ولفقه الشرح علي المتون والنصوص السائد في الخطابات القانونية والقضائية والفقهية والدفاعية للمحامين, ويأتي علي رأس هؤلاء الأستاذ العلم د. ثروت أنيس الأسيوطي وكتاباته الرائدة, حول الصراع الطبقي وقانون التجار, وفلسفة التاريخ العقابي مجلة مصر المعاصرة, العدد335, يناير209,1969 294 ونشأة المذاهب الفلسفية وتطورها, دراسة في سوسيولوجيا الفكر القانوني مطبعة جامعة عين شمس1967. وكتاباه عن مبادئ القانون, ونظرية الحق. أن أهمية كتابات ثروت أنيس الأسيوطي, أنها أولا: فتحت الباب أمام الباحثين للخروج من أسر الوضعية القانونية, والمقاربة الشكلية للأنساق القانونية, وثانيا: وظفت التحليل الطبقي والمادية التاريخية في الممارسة البحثية النظرية وبعض تطبيقاتها سواء في القانون التجاري وتاريخه وأصوله وتقاليده, بل وفي دراسة قوانين الأحوال الشخصية, لغير المسلمين من المصريين. وثالثا: أدخل الدرس الفلسفي في المقاربة المنهجية والتاريخية لفهم أصول القانون وطبيعة المصالح المتصارعة حوله. تأثر السيد يسين ببعض فقهاء القانون الجنائي من ذوي الاطلاع علي الجوانب النظرية والمفاهيمية الحداثية في مجال التحليل الاجتماعي للقانون الجنائي حول الجريمة والعقوبة, وعلي رأسهم علي راشد, وخاصة مؤلفه المفهوم الاجتماعي للقانون الجنائي, أو نظرية القانون الجنائي الاجتماعي, دروس في القانون الجنائي مع التعمق(1967 1968) أو كتاباته حول القانون الجنائي والنظرية العامة للجريمة. شكلت التجربة الفرنسية في دراسة القانون الجنائي, وإطلاعه علي المراجع الأساسية للفقه, ومناهج البحث مجددا, دعما لإدراك ولمسعي دواعي الأستاذ السيد يسين في الكشف عن مدي محدودية المقاربات الشكلانية واللغوية في الدرس القانوني شرحا وتأويلا وتطبيقا. ان الخلفية التكوينية المنهجية والفلسفية والسوسيولوجية للباحث المقتدر أبرزت أن القانون ومنظوماته أحد أبرز محاور الصراعات الاجتماعية والسياسية حول المصالح المتنازعة بين القوي الاجتماعية علي اختلافها في المجتمعات المعاصرة, ومن ثم يشكل أحد ميادين حسم الصراع وإ قرار المصالح للقوي الغالبة بلا نزاع. وأن الوصول إلي توازن ما في المصالح هو تعبير أكثر تعقيدا عن أن الدولة وسلطاتها وأجهزتها تصل في بعض المراحل إلي مستوي يتجاوز حدود المصالح الضيقة للقوي الاجتماعية والسياسية المسيطرة وصفوتها الحاكمة وظهيرها الاجتماعي إلي مصالح أكثر اتساعا تتصل بقوي اجتماعيا أوسع نطاقا, أو مصالح أكبر تتجاوز الصراعات الاجتماعية والمصالح الضيقة للصفوة السياسية الحاكمة. وفي فكر وممارسات السيد يسين الفكرية والبحثية للظواهر والسياسات والآليات القانونية, وتعبيرا عن معرفة وثقافة عميقة بعلم الاجتماع عموما, والقانوني علي وجه الخصوص. من الشيق أن نلاحظ أن الخطاب البحثي لبعض الفقهاء المصريين, والغربيين ركز علي التحليل الاجتماعي والفلسفي والاقتصادي, وبعض المؤثرات الثقافية, في مقاربة الظواهر علي اختلافها مما أضفي ولا يزال علي كتاباتهم وبحوثهم رونقا وأناقة أسلوبية وتحليلية, وعمقا في مقاربة الظواهر والمشكلات القانونية, وهو ما استطاع باحثنا الكبير أن يضطلع به في عمله البحثي ومشروعه العلمي في هذه المرحلة.وتدليلا علي هذا المنحي التحليلي لاحظ مثلا إشارة الأستاذ السيد يسين المرجعية لمؤلف المستشرق جاك بيرك حول إشكالية الأصالة والمعاصرة التي تواجه المجتمع العربي في مقاربته لحركة الدفاع الاجتماعي والمجتمع المعاصر, وذلك برجوعه إلي مؤلف بيرك الذائع. J,Berque.lesArabesd'hierademain,EditionSeuil,Paris,1960 وذلك في كتابه حول السياسة الجنائية المعاصرة, ص13. التأثر ثم التجاوز والإضافة هي سمت الإنتاج البحثي للأستاذ السيد يسين شأن أي باحث مقتدر موهوب وصناع إذ شئنا استعارة هذا النعت من البلاغة الكلاسيكية وهو الوصف الملائم للإنجاز البحثي الذي قدمه في هذه المرحلة. ثلاثة مؤلفات رئيسية ومهمة شكلت إضافات في وقتها, ولا تزال تحمل أهمية واستمرارية في أية مقاربة نظرية وبحثية وتطبيقية لموضوع من موضوعاتها علي اختلافها, من زاوية التأصيل المنهجي والتاريخي والمقارن لهذا الحقل من الممارسة البحثية النظرية والتطبيقية في مجال علمي الإجرام والعقاب والسياسة الجنائية, وعلم الاجتماع القانوني.