نتحدث دائما عن الدولة الحديثة في مصر, باعتبارها الإنتاج السياسي والاجتماعي والثقافي الأكثر أهمية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر, وذلك لأن هذا الإنجاز الاستثنائي لم يكن من قبيل الموروثات التي تلقاها المصريون عن آبائهم وأجدادهم. بعض أبناء الصفوة السياسية والمثقفة بذلوا مجهودات فكرية وسياسية وتنظيمية هائلة من أجل بناء مؤسسات قومية, وأجهزة للدولة تشكل قاطرة لتحريك المجتمع المصري من روابطه وعلاقاته وأطره وولاءاته التقليدية الحميمية إلي شبكات من العلاقات الاجتماعية والسياسية والرمزية أكثر تعقيدا وتركيبا من الروابط الدينية أو المذهبية التي تكرست قبل الدولة الحديثة. ساعدت الدولة من خلال الأنظمة والأطر التحديثية في أن تدفع المصريين من مجرد التجمع الإنساني لمجموعات عائلية أو قبلية وعشائرية تدور حول روابطها الأولية إلي بدء مسار تاريخي معقد من العلاقات والانتماءات فوق الأولية نحو بناء الأمة المصرية الحديثة. الأمة نتاج حداثوي وتحديثي مركب بامتياز, يتداخل فيها تاريخ كفاح المصريين وتمردهم علي الحكام والولاة الطغاة ومن والاهم. الأمة الحديثة هي نتاج لدولة محمد علي والخديو إسماعيل ونوبار وشريف باشا وثورة1919 الوطنية. المؤسسة العسكرية الوطنية كانت صنوا للتحديث المؤسسي السلطوي من حيث الأطر التنظيمية لقطاعات الجيش, والتدريب, والانخراط في الجندية بقطع النظر عن بعض مقاومات الفلاحين المصريين إزاء مفهوم الجندية والعمل العسكري. عملية تحويل بعض أبناء الفلاحين إلي جنود يخضعون للقوانين وأشكال الانضباط العسكري ثم يشاركون في حروب دولة محمد علي والخديو إسماعيل, هي عملية تاريخية واجتماعية وثقافية ورمزية استثنائية. الانتقال من عالم الزراعة التقليدي وفضاءاته وعلاقاته بالزمن, ومن أنماط العائلة والأسرة والقرابة إلي عالم' المؤسسة العسكرية' ليس أمرا هينا أو بسيطا إنما عمل تاريخي بارز. شارك أبناء الفلاحين بصعوبة وألم ونجاح في المؤسسة من خلال أنظمة تدريبها والعلاقة مع السلاح, ومع نظام قيادي هيرراكي, وفي أطر من التخطيط الحربي, الأمر الذي شكل نقلة نوعية في تطور الوعي بالمؤسسة والدولة والنظام والقانون الصارم بعيدا عن أنظمة المكانة والروابط التقليدية وقوانينها وعوالمها والحنين إلي أرحامها الأولية. عملية تاريخية كبري تمت علي أرض مصر قادها رجال دولة رفيعو المقام بقطع النظر عن بعض الآثار السلبية المؤلمة التي ترتبت علي عملية الانتقال الكبري من العالم التقليدي إلي محاولة استشراف أبواب التحديث والحداثة السلطوية المبتورة أو المبتسرة. نعم ثمة جروح دامية ترتبت علي علاقة دولة محمد علي وجيش مصر بالفلاحين, وبقطع النظر عن مستويات الوعي السائدة آنذاك ومدي إدراكها لمعاني عملية تحويل الفلاح إلي جندي ضمن مؤسسة, ومعني الحرب في ميادين القتال خارج حدود مصر. من التبسيط المخل التقليل من أهمية عملية التحول المعقدة والآلام الهائلة والجروح الدامية التي يتكبدها التقليدي كبشر ومحمولات ورموز وثقافة وعلاقة بالزمن والذات والعالم والآخر في كسر وهدم قلاعه الحصينة وعيونه المعدنية. إنها حالة من العذاب والعناء والمشكلات والارتباكات والتشوش والاختلاطات في أثناء الخروج من الكهوف المظلمة إلي النهار, لأن الحداثة والتحديث وشروطهما ومعطياتهما ومفاعيلهما ليسا محض معطي مجاني يمكن استيراده أو استعارته, أو إسقاطه بالمظلات علي واقع مغاير ومعقد ويختلف عن عالم الحداثة والتحديث الأوروبي بامتياز إنما نحن إزاء كفاح ضار من المعرفة والخبرة والتعلم. من هنا يتعين علينا أن نستعيد إلي ذاكرتنا القومية المصرية تاريخ الألم والمعاناة واستراتيجيات التوطين للحديث, ومناورات الصفوة المصرية في الدمج بين بعض التقليدي وبعض الحداثوي والحديث في مزاج فيه من التأليف والتوليف, والتنافر والابتسار التي قامت بها عقول مصرية كبري في عوالم الأفكار والقيم والقانون والجيش والعمارة وبناء المدينة وفضاءاتها, وفي هندسة الزمن وإيقاعاته وتنظيمه بعيدا عن الزمن التقليدي التكراري الذي يدور حول رحمه الأول, أما زمن الحداثة والمدنية صاعد لأعلي وإلي الأمام, أو هكذا بنيت أسطورة الزمن الحداثي ودلالته التقدمية. كان الانتقال البارز من العالم التقليدي نحو الأفق الحديث من خلال هندسة الدولة والأمة الحديثين, ومن ثم عبر الانتقال من المدن التقليدية وأحيائها وفلسفتها المعمارية ومنطق الستر والأحجبة المعمارية التي تجعل من الحياة الأسرية/ العائلية داخل البيوت وعوالمها المغلقة, وثقافة التنصت والنميمة... إلخ إلي عالم المدينة وتنظيمها وعالمها المعماري حول قاهرة القرن التاسع عشر, والإسكندرية الكوزموبوليتانية, في استعارات معمارية فرضها منطق الحداثة والتحديث المؤلم والجارح الذي أدي إلي تهتك أنسجة غالب العلاقات الحميمية القديمة الخارجة من الرحم الأمومي والأسري, البطريركي التي لا تزال بعض من قيمها وفضاءاتها غالبة علي بعض الناس وعلاقاتهم-, ومن ثم لا يزال بعض النقد يوجه من بعضهم إلي تحطم وتهتك المنظومات والروابط التقليدية وعماراتها مستغلا واقع الفوضي المعمارية وتشوهاتها وعشوائيتها الذي أشاعته ذهنية المقاولين وأتباعهم من المهندسين وفساد البيروقراطية والسياسة علي مدي مراحل تاريخية وعديد العقود, لاسيما في الستينيات حتي المرحلة الراهنة. المؤسسة العسكرية المصرية الوطنية وطلائعها الرائدة من جيش محمد علي وإبراهيم باشا, وإسماعيل باشا, حتي ثورة يوليو1952 أيا كانت المثالب والأزمات علي اختلافها-, شكل طليعة من طلائع التحديث وثقافته والأهم كان أحد أبرز محاور التوحيد والتكامل الوطني المصري. شكل جيش الأمة وطلائعه ورموزه جيش شعب مصر بوتقة صهر, ولا يزال حول المواريث التاريخية لسعي المصريين نحو الاستقلال, ونحو حماية حياتهم وجهدهم وإنتاجهم إزاء الغزوات والاحتلالات الأجنبية وهي أمور لا يعرفها كثر هنا, أو في دول الطوائف والشيع والملل والنحل والقبائل التي ترفع الأعلام حولنا في الإقليم. المؤسسة العسكرية الوطنية صهرت كافة أبناء الأمة وساعدت علي بلورة مفهوم الأمة الحديثة ضمن عديد العوامل والفواعل والجهود الأخري المعقدة لدي المصريين, حيث جميع أبناء المصريين سواسية لا فارق بين مسلم ومسيحي وبين الأثرياء والفقراء ومتوسطي الحال, وبين نوبي أو صعيدي أو فلاح من الدلتا أو غيرها من مناطق مصر. من هنا الشرعية الوطنية لجيش شعب مصر, جيش الأمة جزء لا يتجزأ من الأمة والدولة الحديثة. من هنا تبدو بعض الدعاوي الإيديولوجية الدينية أو اليساروية والقومية حول تحلل الدولة أو انهيارها إلي آخر هذه الأحكام القيمية السياسية, ما هي إلا تعبيرات عن القلق أو الخوف أو الاحتجاج أو لهجاء السلطة والصفوة السياسية الحاكمة. قلق يبدو مشروعا ومطلوبا, لكنه يجافي الواقع الموضوعي, ولا تاريخ الدولة الحديثة ومؤسساتها, وعلي رأسها جيش الأمة ويتناسي بعضهم المشروعية التاريخية للعروة الوثقي الوطنية بين الجيش والشعب وفق أنور عبد الملك. ثمة بعض من الخفة والتسرع في خطاب تحلل وانهيار الدولة الذي يطرحه بعضهم في هجاء رعونة السلطة وبعض أجهزة الدولة القمعية, أو إزاء فسادات شائعة في بعض أجهزة الدولة, والشعب. نعم في مصر دولة/ أمة حديثة رغم عديد أعطابها البنائية, وبعض ابتساراتها, ولكن لسنا كالآخرين في النظام الإقليمي, ومعنا فقط وإلي حد ما المغرب الشقيق أمة ودولة حديثة علي النمط الأورو/ أمريكي. هذه هي حقائق التاريخ وتجاربه المؤلمة, الآخرون ليسوا سوي قبائل وطوائف ترفع أعلاما كما قال تحسين بشير ذات مرة. من هنا لابد من وضع خطاب تحقير الدولة والقول بانهيارها أو اللغة الجانحة والمغرضة التي تري أن الدولة الحديثة لم تولد بعد-, في حدوده الموضوعية, بوصفه تعبير عن اللدد في الخصومة مع السلطة الغشوم, أو حالة فوارة من الغضب الجامح, أو في أفضل الأحوال محض توصيفات مجازية عن بعض معالم الوهن البنائي, وتراجع دولة القانون في مناشط الحياة اليومية وعلاقاتها, أو سجال فظ وغاضب مع رعونة بعض رجال السلطة من رجال الأعمال والخلط بين عملهم الوزاري, وبين استثماراتهم وأعمالهم. الدولة/ الأمة/ المؤسسة العسكرية الوطنية/ العقول المفكرة الحداثية التي بنت معرفتها ورأسمالها الفكري وإنتاجها وهيبتها رغما عن القمع والجهالة يشكلون مصادر قوة مصر التي لاتزال عفية بإبداع أبنائها الموهوبين مهما كان العنت الذي يواجههم في حياتهم. من حقنا الاحتفاء بالدولة وقيمها ومواريثها, وإحياء معناها العميق كرمز وحدة شعب مصر وحضورها الحي, وقدرتها الكامنة علي تجاوز أمراض عدم التسامح والتعصب الديني, والفساد, وخلط الدين بالسياسة والمصالح, والغوغائية وسلطة العوام ونخب غير كفؤة وبعضها جهول في الحكم والمعارضة تعيش خارج زمن العالم, وزمن مصر المتغير, مصر/ العنقاء التي سرعان ما سوف تخرج من رماد وظلمة لحظة وشخوص وخطابات رثة وضوضاء عابرة في تاريخها التليد. مصر الأمة والدولة ستخرج من عتمة اللحظة القاتمة إلي نهارات العالم الجديد الباهرة.' انهض لقد نوديت باسمك لقد بعثت'.