رائع وجدًا تلك الحوارات الموسعة والممتعة التي تقوم بها جريدة «روزاليوسف» اليومية مع الرواد والمفكرين والمصلحين، الذين يضعون المصالح العليا للأمة فوق كل الاعتبارات والذين لا يقفون عند حد تحليل الحاضر وقضاياه، وإنما يطرحون رؤاهم وتصوراتهم لمستقبل ينشدون تحقيقه لأمة هي به الأحق والأجدر. وما تقوم به جريدة «روزاليوسف» في هذا المجال، ليس فقط لتأكيد ريادة «روزاليوسف»، ودورها التاريخي، في النضال، وغرس ثقافة الاستنارة، وإنما لأننا بالفعل بحاجة ماسة وضرورية لوقوف الأجيال علي فكر ورؤي هؤلاء الرواد، والمفكرين والمصلحين، في ظل أوضاع وظروف اختلطت فيها الأوراق والمواقف، بل وباتت باعثة للإحباط، لما عليه حال خط الدفاع الأول والأخير عن الأمة، وهم وليس غيرهم المثقفون، فمن الواضح والمثير للأسي والإحباط أن هناك ممن كنا نعتبرهم رموزًا وأصحاب مواقف، تحولوا لسبب أو لآخر عن هذه المواقف، فمن أقصي اليسار إلي أقصي اليمين، والعكس صحيح تمامًا، بل وباتوا يستخدمون لغة في الحوار لا تليق بهم ولا بتاريخهم، ويدخلون ميادين لا يجيدون اللعب فيها، والخطير أنه تم اختراقهم، وتوظيفهم لتحقيق مصالح ومواقف أبعد ما تكون عن المصالح العليا للوطن، ولا تليق بما ينبغي أن يكون عليه المثقف من أخلاقيات وقيم، بل وأعطوا الفرصة لإنصاف المثقفين، وللأجسام الطافية علي وجه الحياة المصرية، لأن تتقدم الصفوف تحت شعارات الزيف والخداع. من هنا تأتي أهمية ما تقوم به جريدة «روزاليوسف» من حوارات مع هؤلاء الرواد والمفكرين والمصلحين الذين يتصفون بالثبات علي المواقف والالتزام بقضايا الأمة ومصالحها العليا، لبعث الأمل خاصة بين الشباب، وتنشيط الذاكرة الوطنية والقومية، بما يبذله هؤلاء الرواد، والمفكرون والمصلحون من جهود مضنية، بالاشتباك مع الواقع، والكشف عن تناقضاته، والعمل علي تغييره، مما يؤكد أن الساحة لا تزال بخير، وأن مصر هي دومًا الإبداع، العلم والثقافة، والقادرة دومًا علي التغيير، من هنا من أرض الواقع، وما يحدث الآن ليس إلا النشاز، والظرف الطارئ علي خط الحياة المصرية. والحق يقال: إن كل من أجريت معهم الحوارات حتي الآن، وما يتوقع أن يتم الحوار معهم بدليل هذه البدايات الرائعة في الحوار يستحقون وعن جدارة الكتابة عنهم، وهو ما نأمل القيام به، حسبما تسمح الظروف، فمعذرة لكل من تم الحوار معهم من هؤلاء الرواد والمفكرين والمصلحين. وعلي أي حال يشرفنا ويشرف هؤلاء جميعًا أن نتناول في هذا المقال الاقتراب من فكر أحد أهم هؤلاء، وهو مفكرنا العظيم «السيد يسين»، وقد لا نضيف جديدًا علي ما جاء في الحوار معه طوال الحلقات التي نشرت حتي الآن، وما سوف يتم بعد ذلك، لكن وفقط نطرح هنا ما قد يوضح أبعادًا أخري لهذا المفكر العظيم، الذي له فضل التلمذة علي يديه، والتلمذة هنا لا بالمعني المدرسي وإنما بالمعني الفكري الأكثر خلودًا واستمرارية، فعلاقتي به علاقة «التلميذ المريد للأستاذ الرائد»، علاقة تنشر الارتقاء بكل ما فيه خير هذه الأمة، إنه بالنسبة لي ولغيري النموذج والقدوة والمثال، ولم لا؟ وهو المشارك دومًا بفكره الثاقب ورؤاه الناقدة في ساحة الرأي العام، والمدافع ودومًا عن الفقراء والمقهورين، والمكرس لثقافة العدل والحب والتسامح، وقبول الآخر، ولحقوق الإنسان، وقيم المواطنة، كما أنه يتمثل مجموعة من القيم، التي يجمع بينها دون تناقض أو تعارض، فمن خلال حواراته التي أجرتها جريدة «روزاليوسف»، ومن خلال الأعمال والمناصب التي تولاها، والمعايشة معه، يستطيع الإنسان وبكل وضوح أن يلمس فيه التواضع الجم مع الأباء وعزة النفس، ومع ريادته وأستاذيته تأتي فضيلة حبه للإفادة من الآخرين، ولو من تلاميذه، ومع اعتلائه منصات الإلقاء، يكون المستمع الجيد، ومع حبه الكتابة والتفرغ لها، يسارع بالاستجابة لأي دعوة مهما كان بعد المكان، ومع القدرة علي التحدث إلي النخبة المثقفة تأتي القدرة علي مخاطبة الجماهير الواسعة، ومهما كانت درجة ثقافتها، وقبل وبعد كل هذا تشجيعه لتلاميذه ومريديه مهما كلفه هذا من مشقة، مهما كان قدر التلميذ من تواضح المستوي بالنسبة له، ولم لا؟ وكان كاتب هذه السطور أحد هؤلاء التلاميذ، حيث كان لي شرف استجابته الفورية لندوة دعوته لها في جامعة الفيوم، بل ومع كل قامته الرفيعة استجاب لندوة عقدتها رابطة التربية الحديثة لمناقشة كتاب لي بعنوان: «التربية والثقافة فيما بعد الحداثة» ولم يكتف بهذا، بل كتب عنه مقالاً بجريدة القاهرة، قال فيه ما يعد وسامًا علي صدري، وما من مرة دعوته للرابطة إلا وكانت الاستجابة، متعه الله بالصحة والعافية. باختصار: عشرات القيم والفضائل والخصال التي يتمتع بها مفكرنا العظيم، ويصعب حصرها ويطول شرحها. وهنا، ومن باب التمتع بالكتابة عن الأستاذ الرائد، أشير وفقط إلي بعض من إنتاجه الفكري والجهود العلمية التي يقوم بها، ويصعب حصرها، لتعددها وتنوعها، وثرائها، وفيها ينطلق من منهجية نقدية، عميقة الرؤي والتأصيل الاجتماعي والثقافي، وعلي سبيل المثال لا الحصر: قيامه بالتأصيل النظري المفسر لما حدث ويحدث من تغيرات وتحولات كبري، بديلاً عن تلك الصياغات النظرية التقليدية في تفسير هذه التغيرات والتحولات، وقد أثمر هذا الجهد عن وضع العديد من الكتب والمؤلفات، وفي القلب منها : «الوعي التاريخي والثورة الكونية» (1995)، «العولمة والطريق الثالث»(1999)، «المعلومات وحضارة العولمة» (2001)، «شبكة الحضارة المعرفية، من المجتمع الواقعي إلي العالم الافتراضي» (2009). أما المواطنة وحقوق المواطن، فقد أولاها مفكرنا ما يستحقه من الاهتمام، وكان كتابه المتميز «المواطنة في زمن العولمة» (2001)، وهو الكتاب الذي كان له فضل اهتمامنا بالمواطنة، ووضع كتابًا بعنوان: «التربية والمواطنة في عالم متغير»، ولقد كان لي شرف تصديره بالإهداء إليه، «اعتزازًا وتقديرًا بالفضل في إثارة الوعي بقضية المواطنة، فكان هذا الكتاب للسير علي خطاه». وأعطي قضية الحوار بين الحضارات اهتمامًا خاصًا، وهذا ما نجده في كتابه «الحوار بين الحضارات»، وفي كتاب آخر يحمل عنوان «الحوار الحضاري حول العولمة»، وغيرها من الكتب التي تصب في هذا الاتجاه. عشرات الكتب والمؤلفات، إلي جانب أعماله وجهوده الأخري التي يطول شرحها عددًا، فاعلية وتأثيرًا، ابتداء من تأسيسه الصرح العلمي الكبير «مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام» عام 1975م، واستمرارية رئاسته له حتي عام 1994، وفي هذا المركز وعلي يديه تخرج من هذا المركز العديد من الأسماء اللامعة في حياتنا الثقافية والفكرية، ولا يزال متعه الله بالصحة والعافية مستشارًا بهذا المركز، ومرورًا بإنشائه المشروع العلمي الضخم «التقرير الاستراتيجي العربي» عام 1978، وأخيرًا وليس آخرًا الإسناد إليه لكتابة التقرير السنوي عن الثقافة والمثقفين: رصد الحاضر، وتحديدًا بخطي المستقبل. أما عن المنهجية العلمية التي يتبناها مفكرنا العظيم في كل ما قام ويقوم به من جهود فكرية وعلمية، فهي المنهجية «النقدية»، التي تقوم علي أساس التشخيص والتحليل النقدي للواقع، وأنه لا يستهدف من تحليله وطرح رؤاه وأفكاره «الوصول إلي اليقين» (كما جاء في عناوين الحوار معه بجريدة «روزاليوسف») وإنما إلي «الصدق»، الذي يتضمن ويعترف بأنه قابل للنقد والتفنيد، لأن معياره «الفكرة» والنظرية العلمية الصادقة هي القابلية لهذا النقد والتفنيد، ومن ثم لا يمكن كما يقول فيلسوف العلم كارل بوبر أن يتم الحكم بمصداقية الفكرة أو النظرية إلا إذا كانت قابلة للنقد والدحض، أما الفكرة أو النظرية أو العقل الذي ينشر اليقين كما يقول مفكرنا السيد يسين فإنما هو في مجال الدين، فالمنهج في البحث الديني ينشر اليقين، أما المنهج العلمي في الظواهر غير الدينية، فإنه ينشر الصدق القابل للحكم عليه بالخطأ. وهنا يمكن القول إن جاز لنا التعبير أن عقل السيد يسين إنما هو «بوبري» المنهجية (نسبة إلي فيلسوف العلم كارل بوبر).. وهذا أحد أهم أسرار روعة وعظمة مفكرنا الكبير السيد يسين، وتزداد الروعة والريادة في استمرارية تدفق نهر عطائه، حاملاً معه الحب والخير لكل البشر، كاسحًا أمامه تلك الوجوه الطائفية علي الوجه المشرق للحياة الثقافية في مصر، وفي العالم العربي، ضاربًا النموذج القدوة والمثل للسائرين علي الدرب من تلاميذه ومريديه، أطال الله في عمره ومتعه بالصحة والسعادة.