* اعتمدت في كتابك علي فرضية مفادها أن اليسار انهزم بسبب انتصاره للقضية القومية الوطنية علي حساب القضية الاجتماعية, فكيف جاءتك هذه الفرضية, أم انك خلصت اليها بعد الانتهاء من البحث؟ ** هناك في البداية عدد من العوامل التي جعلتني اهتم بموضوع اليسار في مصر, أولا أنا من اسرة يسارية ومن ثم فان اهتمامي وتكويني وانحيازي واهتمامي اكاديميا باليسار, وعندما كنت طالبا بالجامعة تعرفت الي مجموعة من أفراد الجبهة الشعبية الفلسطينية اليسارية وتعرفت من خلالها علي رموز اليسار في مصر. الأمر الثاني هو انني, كان هناك اهتمام كبير من قبل الباحثين في أوروبا وأمريكا عندما بدأت أطروحتي للدكتوراة في عام2003 لدراسة الحركات الاسلامية والاسلام السياسي, كان هناك بالطبع قبل ذلك الكثير من الدراسات لكنها كانت استشراقية وتعتمد علي الصور النمطية للعرب والمسلمين, مثل كتاب ميشيل كبيل عن مصر في1985 أما مسألة اعادة النظر في أسباب اخفاق الحركة اليسارية فلم تكن الفرضية وانما كانت النتيجة الرئيسية للبحث, أما الفرضية التي انطلقت منها فهي انني عندما بدأت البحث, وجدت أن قيادة الحركة الطلابية فيما بعد النكسة كانت لليسار بمعناه الواسع من اليسار الماركسي أو حتي الشيوعي, ولكن لم تكن هناك مؤلفات ترصد ذلك, كل ما كان موجودا في تلك الفترة عن النظام والاسلاميين كقوة مواجهة للنظام, وأنا وجدت انه من المستحيل ان يكون هؤلاء هم طرفي المعادلة فقط, كان لابد للصورة لكي تكتمل من طرف ثالث, وهذا الطرف هو اليسار المصري المسكوت عنه في ملفات التاريخ والسؤال المخيف بالنسبة لي كان ماذا تبقي من كل هذا؟ ولحسن الحظ اني اكتشفت أن عددا كبيرا من المثقفين والباحثين والصحفيين والفنانين من رواد الحركة مازالوا موجودين. وعندما جئت الي مصر كونت صداقات كثيرة جدا مع شخصيات يسارية كانوا هم موضوع بحثي. وفيما بعد تكونت لدي الفرضية الثانية في البحث وهي تحدي المقولة السائدة بأن النظام استخدم الحركات الاسلامية لضرب الحركة اليسارية, ما افترضته أنا هو أن هناك اسبابا داخلية هي التي أدت إلي تفسخ الحركة وانهيارها, فاردت أن أعرف القصة من الداخل, وليس من الخارج, الكتاب اذن مجرد محاولة لفتح المناقشة حول هذه الأسباب. * قلت في كتابك ان الانتصار للقضية الفلسطينية والقومية كأولوية للنضال الوطني كان أهم أسباب فشل الحركة. لكن هذا الاتجاه القومي داخل اليسار له ظرف تاريخي قد يبرره؟ ** بالطبع! كان هذا الاتجاه الي حد كبير مفهوما عندما نفهم السياق العام في مصر والعالم العربي في ذلك الوقت. لكن ذلك لا يعكس الا خللا واضحا في قراءة الوضع الراهن من قبل قيادات اليسار. في أحد حواراتي الأولية مع محمد سيد احمد قال لي ملاحظة في منتهي الذكاء وهي أنه لم تكن هناك حركة يسارية في مصر, وانما حركة قومية يسارية, وأن القضية الفلسطينية افسدت الحركة طبعا بالنسبة لي الاتجاه القومي مفهوم في سياقه التاريخي, والصدمة التي تلقاها اليسار الذي يستمد الالهام من الاتحاد السوفيتي المناضل بعد الاعتراف المبكر جدا باسرائيل. ولكن كان هذا مقبولا مثلا في أواخر1973 لانك لديك منطقة كاملة محتلة, ويجب أن تكون لها الأولوية, ولكن بعد النصر ظل اليسار واقفا في مكانه مؤمنا بامكانية التحريك مع شعارات قومية, حتي بعد أن أصبح لديك احتقان شعبي وقضية اجتماعية متفجرة بعد تبني السادات لسياسة الانفتاح, ولديك احتجاج وغضب شعبي واضح, وتتركها لتشبث بالقضية الوطنية في مفهومها التخويني, يعني كيف تكون عندك أزمة اقتصادية طاحنة وترد عليها بشعارات قومية؟ وأنا أفسر ذلك بأن اليسار كان لا يزال ينظر الي الأمور ويقرأ الأحداث مستخدما نظرة عبدالناصر القومية, وذلك ينطبق حتي علي أقصي الجماعات اليسارية مثل العصبة التروتسكية. * وهل هذه في رأيك الأسباب الوحيدة للاخفاق؟ ** بالطبع لا كانت هناك اسباب أخري اقل في الترتيب تتعلق بغياب الديمقراطية وغياب آليات للمناقشة والمعارضة داخل المنظمات اليسارية مثل حزب العمال المصري والعصبة التروستكية, ولكن لذلك مبرراته المرتبطة بالقمع والسرية بحكم ظروف الحرب الباردة وتربص السادات بالشيوعيين والجيش الأحمر وما الي ذلك. وهناك مشكلة أيضا تتعلق علي مدار تاريخ اليسار المصري والي اليوم وهي عدم الارتباط بالجماهير. عادة تنشأ الحركات من صفوف الجماهير اذا كانت هناك مطالب أو حاجة حقيقية إلي تنظيم. ولكن اليسار في مصر يعمل بمنطق فلنطلق المبادرة من فوق وانشالله سوف تصل الي تحت! وهو ما أسهم بشكل كبير جدا في فشل الحركة اليسارية الي اليوم. * قلت في مقدمة كتابك انك تحاول تخطي الحدود النظرية التي اعتمدت في كتابة تلك المرحلة من تاريخ مصر علي الدولة كموضوع للتحليلات؟ فما هي الوحدة البديلة للدولة التي قامت عليها دراستك؟ ** في الواقع هناك مخاطرة كبيرة اذا قمت بتبني الدولة كمركز الاهتمام, لانك ترين القيم من وجهة نظر الدولة, ولكي تقدمي رؤية نقدية حقيقية للتاريخ لابد أن تقومي بعملية تبديل للمقاعد. هذه المدرسة في كتابة التاريخ, بدأت في أوروبا مع بداية الثمانينات, لكتابة التاريخ من الهامش, وبالاعتماد علي مجموعات خارج الحكومة أو السلطة. لكني لم أحاول اعادة كتابة التاريخ بتنحية الجانب الرسمي تماما, وانما حاولت فقط أن أضفر التاريخ الرسمي بتاريخ الحركات اليسارية المسكوت عنها, بالاعتماد علي الوثائق والتنظيمات السرية. * انتقدت في كتابك الاعتماد علي مؤلفات رفعت السعيد كمرجع اوحد وأساسي لليسار من ناحية لانه مؤرخ غير اكاديمي بتعبيرك ومن ناحية اخري لانه كان متحيزا في الكتابة, علما بان الكثير من مؤرخي الحركة اليسارية والعمالية تحديدا لم يكونوا من الدارسين. هل تشرح الفكرة قليلا؟ ** لم تكن المشكلة الاساسية بالنسبة لي انه غير اكاديمي. لكن عندما تكتب التاريخ لابد ان تتحلي بقدر من العلمية وتتبع اساليب اكاديمية تحميك من الوقوع في خطأ التحيز. ما فعله رفعت السعيد هو انه لم يضع فرقا بينه وبين مصادره في الكتابة, وكان شديد التحيز, فمثلا كان يصف حزب العمال المصري بانه مجموعة من الشبان المتطرفين وهذا رخيص جدا اقصد بشكل علمي ولا يصح ان يقدم كمؤلف تاريخي جاد, فلا توجد بها تحليل او تفسير جدي أو علمي. اذا اردت ان تكتب بجدية عليك ان تعدد من مصادرك وتعطي التاريخ حقه, وهذا كان التحدي الاكبر بالنسبة لي. * ولكنك اعتمدت علي الحوارات كوسيلة اولية للبحث, فما مدي صحة الاعتماد علي هذه الوسيلة الشفهية كمصدر اولي للبحث؟ ** هذه واحدة من أهم المشكلات التي واجهتني في بحثي. قمت بعمل الكثير من الحوارات لدرجة ان هوسا اصابني بمادتي العلمية, فكنت احلم بأنني شاب من شباب الانتفاضة, وانني بالسبعينيات, وفي الكثير من المقابلات كان الناس الذين اجري معهم الحوارات يتأثرون ويبدأون في البكاء, فكان الأمر شديد الصعوبة علي وكنت في حالة عاطفية كبيرة جدا, وهذا أمر شديد الخطورة علي الباحث. فكان من الممكن ان يتحول الامر الي كتاب عاطفي ابكي به علي أطلال الحركة اليسارية وأخون النظام لأنه السبب الوحيد في فشل الحركة العظيمة الخالية من العيوب لكني كنت أعي جيدا أن هذا غير أمين, كما أنه لن يخدم الحركة ابدا فحاولت ان يكون اعتمادي الي جانب تحليل المقابلات الشخصية علي تحليل النصوص الموجودة بالملفات السرية وفهمها في السياق العام للحركة وللنظام, واعتقد انني من خلال الكتاب نجحت الي حد ما في أن أكون موضوعيا وان انصف التاريخ. * ما أكثر الصعوبات التي واجهتك في بحث تاريخ المنظمات السرية؟ ** عندما بدأت2001 طبعا الحوارات الشخصية كانت مشكلة كبيرة جدا, لان الكثير من الناس خصوصا في بحثي كانوا يخشون التحدث معي بينما ساعدني اخرون وفتحوا أمامي المجالات ومدوني بأرشيف من المجلات والمطبوعات السرية وعلي رأسهم المفكر الكبير يوسف درويش الذي فتح لي بيته لاقامة الحوارات به. وعلي الرغم من صعوبة الحوارات كوسيلة الا انها كانت ايضا ممتعة وجميلة, فقد اتاحت لي ما لم تتحه النصوص الجامدة من امكانية ايجاد حوار درامي افتراضي بين من احاورهم من مختلف التوجهات الفكرية لسد ثغرات في بحثي, فكنت اكتب التاريخ بمتعة شديدة كمن يسرد الدراما, وهي دراما صنعتها تلقائية حركة التاريخ. أما الصعوبة الثانية فكانت في أن أصحاب المطبوعات السرية كانوا يكتبون بأسماء وهمية, فكنت مثل من يفك الغازا. * رغم حداثة كتابك, فقد ظل اصحاب الحركة متوجسين من الحديث معك بدعوي السرية الي أي مدي تري امكانية الاعتماد اليوم علي الحزب السري كوسيلة ناجحة داخل صفوف اليسار؟ ** هذا أمر يصعب علي الفهم بالنسبة لي, فاليوم جميع الاحزاب اليسارية بما في ذلك الاشتراكيون الثوريون لديهم مدونات, يدونون عليها افكارهم وصورهم وهويتهم وأماكن عملهم, ولديهم فيس بوك يدونون به بوضوح شديد هويتهم السياسية وانتماءاتهم الفكرية, وفي النهاية هل من المعقول ان نتعامل معها باعتبارها احزابا سرية غير معلنة؟ * ما رؤيتك لمستقبل اليسار فيما بعد1981 ؟ ** سؤال صعب جدا بدأت موجة جديدة من الحراك داخل صفوف اليسار ولكني اعتقد أنه بعد2005 ظهرت حركات مثل كفاية ومراكز المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي بشكل ما تمارس افكار اليسار مثل المناداة بحقوق اجتماعية واقتصادية. ولكن حركة المجتمع المدني تلك بها الكثير من المشاكل, منها المشكلة التاريخية التي شابت اليسار تاريخيا وهي التواصل مع الجماهير, فهي مرة اخري الي حد كبير نخبوية. المشكلة الثانية تتعلق في رأيي بالتمويل. فجميع هذه المنظمات تمول من الخارج, وهذا يعود الي عدم وجود قاعدة شعبية تدعمك. في النهاية اعتمادك علي الخارج يعني انك تستمد شرعيتك من فوق وليس من القاعدة مرة اخري. وهناك مشكلة اخري تتعلق بضعف وشكلية الانشطة الممارسة من قبل هذه المنظمات. مثلا في فلسطينالمحتلة هناك الكثير من الانشطة التي تقوم بها الجمعيات هناك لا علاقة لها بمقاومة الحصار ولا النهوض بفلسطين مثل صناعة الفازات والرقص والغناء. يبقي جانب مضيئ في هذه الحركة الجديدة وهو انها تتمتع بقدر كبير من الديمقراطية, وتعتمد علي الشباب لتجديد الدماء داخل صفوف اليسار. * كتبت بعد احداث11 سبتمبر ورقة عن الصحافة في مصر, انتقدتها فيها واهمتها بتبني الخط الحكومي هل تري ان هناك تحولا الآن في2010 المتعاطف مع الامريكيين والمدين للارهاب؟ ** بالطبع لا توجد مقارنة خصوصا بعد ظهور الصحافة المستقلة. في الواقع أنا أري أن ارهاصات الصحافة المستقلة بدأت من بين ثنايا الصحافة القومية, فيما بين2001 و2003 بقدر كبير من التنوع, وبدأ الكتاب مثل محمد سيد احمد وهو من كتاب الاهرام, مثلا يتبع في كتابته خطا مستقلا يخصه وحده, بغض النظر عن السياسة التحريرية للجريدة, فلم تكن هناك صحافة مستقلة, وانما كانت هناك اصوات مستقلة ومتنوعة. لكني ايضا حتي هذه المرحلة المبكرة لم أكن أتوقع ابدا ان يوجد صحيفة مثل المصري اليوم او الدستور او الشروق او البديل.