شككت في قيمة الأدب الجاهلي وألححت في الشك، أو قل ألح على الشك، فأخذت أبحث وأفكر، وأقرأ وأتدبر، حتى انتهى بي هذا كله إلى شيء إلا يكن يقينًا فهو قريب من اليقين، ذلك أن الكثرة المطلقة مما نسميه أدبًا جاهليًا ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر مما تمثل حياة الجاهليين. ولا أكاد أشك في أن ما بقى من الأدب الجاهلي الصحيح قليل جدًا لا يمثل شيئًا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصر الجاهلي. وأنا أقدر النتائج الخطيرة لهذه النظرية، ولكني مع ذلك لا أتردد في إثباتها وإذاعتها، ولا أضعف عن أن أعلن إليك وإلى غيرك من القراء أن ما تقرؤه على أنه شعر أمريء القيس أو طرفه أو ابن كلثوم أو عنترة ليس من هؤلاء الناس في شيء وإنما هو نحل الرواة أو اختلاق الأعراب أو صنعة النحاة أو تكلف القصاص أو اختراع المفسرين والمحدثين والمتكلمين. وأنا أزعم مع هذا كله أن العصر الجاهلي القريب من الإسلام لم يضع، وأنا نستطيع أن نتصوره تصورًا واضحًا قويًا صحيحًا، ولكن بشرط ألا نعتمد على الشعر، بل على القرآن من ناحية، والتاريخ والأساطير من ناحية أخرى. وستسألني: كيف انتهى بي البحث إلى هذه النظرية الخطيرة؟ ولست أكره أن أجيبك على هذا السؤال، بل أنا لا أكتب ما أكتب إلا لأجيبك عنه. ولأجل أن أجيبك عليه إجابة مقنعة يجب أن أتحدث إليك في طائفة مختلفة من المسائل، وسترى أن هذه الطائفة المختلفة من المسائل تنتهي كلها إلى نتيجة واحدة هي النظرية التي ذكرتها منذ حين. يجب أن أحدثك عن الحياة السياسية الداخلية للأمة العربية بعد ظهور الإسلام ووقوف حركة الفتح، وما بين هذه الحياة وبين الأدب من صلة. ويجب أن أحدثك عن حال أولئك الناس الذين غلبوا على أمرهم بعد الفتح في بلاد الفرس وفي الشام والجزيرة والعراق ومصر، وما بين هذه الحال وبين لغة العرب وآدابهم من صلة. ويجب أن أحدثك عن نشأة العلوم الدينية واللغوية وما بينها وبين اللغة والأدب من صلة. ثم يجب أن أحدثك عن اليهود في بلاد العرب قبل الإسلام وبعده، وما بين اليهود هؤلاء وبين الأدب العربي من صلة، ويجب أن أحدثك بعد هذا عن المسيحية وما كان لها من الانتشار في بلاد العرب قبل الإسلام وما أحدثت من تأثير في حياة العرب العقلية والاجتماعية والاقتصادية والأدبية، وما بين هذا كله وبين الأدب العربي والشعر العربي من صلة. ثم يجب أن أحدثك عن مؤثرات سياسية خارجية عملت في حياة العرب قبل الإسلام وكان لها أثر قوي جدًا في الأدب العربي الجاهلي، وفي الأدب العربي الذي نحل وأضيف إلى الجاهليين، وهذا المباحث التي أشرت إليها ستنتهي كلها إلى تلك النظرية التي قدمتها وهي أن الكثرة المطلقة مما نسميه الأدب الجاهلي ليست من الجاهلية في شيء. د. طه حسين