لا يعرف العامة عن التصوف والطرق الصوفية ورموز أقطابها في عالمنا العربى الإسلامى سوى الاحتفال بالموالد وتوافد الدراويش على حلقات الذكر وطواف المجاذيب والهائمين على وجوههم والمريدين وذوى الحاجات بأضرحة أولياء الله الصالحين للتبرك بهم. هذا العالم المحاط من كل جانب بشيوع الخرافات والبدع والخزعبلات، لم يكن بعيدًا عن صفاء النفوس والروحانيات والزهد وحياة التقشف تقربًا إلى الله، فهذا العالم محاط أيضا بالغموض والأسرار المرتبطة بدولة الصوفية وزعمائها الذين جاءوا إلى مصر في فترات متعاقبة من القرنين السادس والسابع الهجريين. هؤلاء دخلوا البلاد وسط أجواء وظروف سياسية مضطربة، شهدت صراعا مريرا على الحكم بين أطراف مختلفة لا تربطهم بالمحكومين أي علاقة أو صلة، إلى جانب أوضاع اقتصادية واجتماعية اتسمت بالاضمحلال والجهل والتخلف، بداية من انتشار البدع والدجل وليس نهاية بالسعى وراء الخرافات للانصراف الطوعى عن الحياة العامة، جراء الفقر وتسلط أهل الحكم في فرض الضرائب. يقف على رأس المتصوفين قطب الأقطاب وزعيم دولتهم بلا منازع أو منافس «السيد أحمد البدوى» الذي اتخذ «الدلتا» مقرًا لدولته ومركزًا لنفوذه الطاغى على بقية الأقطاب في زمنه. لكن في ذات الوقت، لم يحظ قطب صوفى بنصيب من الجدل بين الباحثين حول ظروف وأسباب قدومه وغموض شخصيته، وقدرته الفائقة على حشد المريدين حوله، مثلما نال «البدوى» الذي ذاع صيته وانتشرت طريقته سريعًا بين قرى ومدن مصر، اتبعها عشرات الآلاف من المريدين بطول البلاد وعرضها، فضلا عن أن المحيطين به أضفوا عليه هالة من القداسة تفوق في مكانتها منزلة الأنبياء، ظنًا منهم أن ذلك يصب في صالحه ويقلل من قيمة بقية الأقطاب في عصره، الأمر الذي أساء للرجل كثيرًا، أما الذي أساء إليه أكثر فهو الخرافات المرتبطة بالأحاديث في وصف كراماته التي ترقى إلى مستوى المعجزات، عبر ترويج المغالطات وتأليف الأساطير عن أمور خارقة للعادة، نسبتها إليه مجموعة من المنتفعين كانوا يعيشون على حساب سمعته حيا وميتًا، فهؤلاء المنتفعين كان يهمهم في المقام الأول إظهار شيخهم في صورة القادر على كل شىء، قادرا على تفريج الكروب وكشف الغمة، وهو ما كان دافعا لأصحاب الحاجات اليائسين البائسين، لأن يقصدوا الشيخ وأتباعه ومدهم بالعطايا والنذور، لأنهم فقدوا القدرة على التعايش مع الواقع بكل ما فيه من آلام ومتاعب حياتية، وسقطوا في براثن الخيال والوهم تعويضًا للواقع. لم يكن غريبًا أن يساهم هذا كله في انتشار الكرامات حول الأولياء، خاصة إذا علمنا أن عقلية الشعب المصرى في عصر السيد البدوى والعصور التالية له، تميل للاعتقاد في أولياء الله والإيمان بقدرتهم الخارقة على تصريف الكون، باعتبار أن هذا الاعتقاد من ميراث الأزمنة السحيقة قديمة الجزور، التي تجسدت بجلاء في الخضوع لتعاليم وأوامر الكهنة ووكلاء الآلهة في العصور الفرعونية. وربما كان لدى الذين يعملون على ترويج الأساطير حول البدوى ونظرائه من أئمة الصوفية دراية تامة بنفسية وعقلية المصريين، لذلك نجحوا في ترويج وتعميق الأساطير والخرافات عن المعجزات التي لا تتسق مع العقل حول الأولياء. رغم كل ما أحاط بالسيد أحمد البدوى من حكايات مثيرة للجدل، على الأقل لدى الباحثين في الشأن الصوفى والطرق، إلا أن هذا لم يمنع من تنامى الشكوك التي أحاطت به منذ مجيئه إلى مصر واستقراره في قرية صغيرة بإقليم الغربية اسمها «طنتدة» التي صار اسمها في العصور اللاحقة «طنطا». أما الشكوك التي ذهب إليها البعض في مقدمتها اتهامه بالجاسوسية تعنى التخابر في زماننا، وأنه جاء خصيصا إلى مصر تحت ستار التقية، ويحمل بداخله أغراضا ومخططات «علوية» لم يفصح عنها، وهذه المخططات لم يتم اكتشافها من أحد بمن فيهم القريبون منه، أما هدفها فهو المؤامرة على الدولة الأيوبية عبر الدعوة للمذهب الشيعى والعمل على إعادة سلطان الدولة الفاطمية التي زالت وحلت بدلا منها الدولة الأيوبية. ساهم في رواج تلك الشكوك غموض الرجل وصمته المثير لدهشة معاصريه، فضلًا عن أمور أخرى كثيرة عضدت الميل لاتهامه بالجاسوسية منها أنه ينتمى للأسرة العلوية، إلى جانب اتفاق المؤرخين على جملة من الحقائق، مفادها أن أجداده التسعة «أي نسبه الممتد إلى الجد التاسع» من الأئمة الاثنى عشرية، وهى أحد المذاهب الشيعية، واتفاقهم أيضا «الباحثون» على انتهاء نسبه إلى الحسن بن الإمام على بن أبى طالب، كرم الله وجهه. هاجرت أسرة البدوى من مكة إلى مدينة فاس بالمغرب في بدايات القرن الثانى الهجرى، عندما اضطربت الأحوال المعيشية في الجزيرة العربية، وفى بلاد المغرب العربى وجدت الأسرة الشريفة مكانًا لائقًا بها باعتبارها ذات نسب بالرسول الكريم، وتنتمى إلى الحسن بن على، وهيأ لها ذلك نوعًا من التبجيل والتكريم من الحكام أينما حلت. ولد البدوى في «فاس» سنة 596 هجرية، وبعد سنوات قليلة من مولده عادت أسرته إلى مكة، وفى شبابه اتجه مع شقيقه الأكبر الشريف حسن إلى العراق، أرض الأئمة والأقطاب في ذلك الزمان، الزيارة كان عنوانها التبرك بمقام السيد أحمد الرفاعى «شيخ ومؤسس الطريقة الرفاعية»، لكن كل الدلائل تؤكد أن البدوى كان يحمل بداخله طموحًا لأن يتبوأ مكانة مرموقة ونفوذًا داخل دولة الصوفية التي اتسعت للمريدين في الكثير من البلاد الإسلامية، وفى الطريق إليها وبالتحديد قرب الموصل شمال العراق، واجه البدوى صراعًا من نوع خاص، هذا الصراع كان مع امرأة اسمها «فاطمة بنت برى»، وهى حسب ما جاء في كتب التراث كانت جميلة غنية مغرمة بإيقاع الرجال في شباك جمالها الفتان ومالها الوفير، حيث احترفت اللعب بعواطفهم، تستمتع بشبابهم ثم تتركهم. أثناء وصول السيد أحمد البدوى، كانت فاطمة تبحث عن رجل عظيم، فتوة له نسب وحسب، وعندما علمت به، أمرت خدامها وعبيدها أن يحضروه إليها، وبالفعل أحضروه فحاولت الإيقاع به لكنها لم تستطع، أغرته بالزواج منها لكن محاولتها باءت بالفشل، إلى أن تابت من المعاصى على يديه، هذه الواقعة المؤكدة تاريخيًا أضيفت إليها الأساطير والحكايات بمعرفة مريديه على غير الحقيقة، بما يتجاوز عقل البشر في التصور، حيث روج المريدون أن هاتفًا جاء للبدوى أثناء نومه في مسجد الرفاعى أمره بالذهاب إلى بنت برى لهدايتها وعندما أرادت أن تكشف عنه لثامه خرت صعقة.. إلخ. لم يمكث البدوى كثيرًا في العراق فقد وجد طموحاته مهددة بل أن تحقيقها صعبا إن لم يكن مستحيلا في ظل وجود تلاميذ شيوخ طريقتى «الرفاعية والجيلانية» ويتمتعان بنفوذ طاغ في العراق، لكن «البدوى» كان يتمتع بذكاء شديد حفز عقله على أن يفكر في الانتقال إلى مكان آخر يجعله مركزا يحقق من خلاله طموحاته بعيدا عن أرض الأئمة ومقر قادة وزعماء الصوفية فقصد مصر. كانت المحطة قرية «طنتدة» وهذا الاختيار لم يكن مصادفة، بل يحمل العديد من الدلالات التي تحرض على الوقوف أمامها كثيرا، فهذا المكان تحديدا يعتبر «صرة» الدلتا ومركزا للنشاط الاقتصادى، كما أنها تصلح أن تكون منارة للإشعاع الفكرى والروحى لأى حركة وليدة، حيث ظهرت تلك المميزات لهذا المكان في عصور ما قبل الإسلام، فكانت مركزًا لأسقفية كبيرة في العصر المسيحى، واسمها القبطى «طنيطاد»، وربما كانت الأسباب الدافعة للكنيسة القبطية اختيار المكان لأسقفية وسط الدلتا، هي ذات الأسباب التي جعلت البدوى أن يختارها مقرًا لدعوته. عندما وصل إليها نزل على بيت تاجر للعلف والعسل اسمه «ركين الدين بن شحيط»، وتشير بعض المراجع التاريخية إلى وجود سابق معرفة له بالشخص والمكان، وأن تلك العلاقة تشكلت عندما كان في طريقه من المغرب إلى مكة، فقد تناولت إحدى الروايات أن البدوى في رحلته الأولى توقف في قرية «فيشا المنارة» بالقرب من طنطا بعد أن تعرض لضربة شمس وحر شديد جعلت عينيه تتورمان، ووجد طفلا صغيرا، طلب منه بيضة يداوى بها التورم، وكان هذا الطفل اسمه عبدالعال الذي صار فيما بعد أكثر المريدين له قربا بل وصاحبه الأول ورفيقه الأوفى وخليفته من بعده، وأثناء قدومه مر بالقرية واصطحب معه عبدالعال وشقيقه عبدالمجيد ولدى الفقيه شمس الدين إلى طنطا للإقامة معه. على سطح منزل ركين الدين أقام الشيخ الوافد وبدأ في نشر دعوته والتفوق على نظرائه في الأقاليم الأخرى، وبسرعة لافتة للأنظار تحول مكان إقامته مقصدا للتبرك به، من القادمين من كل مكان داخل مصر وخارجها. كان الرجل حسب وصف المعاصرين له شارد الذهن كثير الغياب عن الناس شاخصًا ببصره إلى السماء، يمكث بالأيام دون طعام أو شراب وكثير الصياح المتواصل من فوق السطوح، ولعل هذه الأسباب جعلت الناس في طنطا والأماكن المجاورة لها يحتارون في أمره ولا يعرفون شيئا عن حقيقته، فكان ذلك دافعا للجدل حوله، حيث تضاربت الأقوال بشأنه، مرة يتم وصفه أنه مجنون ومرة أخرى أنه متصوف، وكان لتلك الاتهامات والأوصاف ما يبررها لدى العامة والمهمومين بشأنه على حد سواء، حيث كان شقيقه الشريف حسن المقيم بمكة دائم القلق عليه وينتظر الحجاج القادمين من مصر للسؤال عنه وعن أحواله. رغم التشكيك وتضارب الأقوال حول السيد البدوى وشخصيته الغامضة المثيرة للجدل منذ قدومه، إلا أن الحقائق وقتها راحت تتكشف بالتدريج إلى أن أصبحت كالشمس الساطعة، فقد بدأ الكثيرون يقدرون الرجل وينظرون إليه بقدر هائل من التوقير والاعتقاد فيما يقول، الأمر الذي ساهم في تنامى أعداد الوافدين إليه من كل الأنحاء. أما العلامات التي أضفت الغموض على شخصيته، فحدث عنها ولا حرج، هي متعددة ومتنوعة، منها أنه كان يضع لثاما على وجهه، ولا يكشف عنه أبدًا، فزاد هذا من الغموض وساهم في التشكيك، فقد كان الشيخ يغطى باللثام أمراضا جلدية تغطى وجهه «دمامل وبثور»، لكن بعض مريديه حاولوا إطلاق الأساطير على اللثام الذي أصبح لونه الأحمر شعارا للطريقة الأحمدية البدوية كما أوصى هو بذلك، قالوا إن أحدا لا يستطيع النظر إليه، ولو أزاح جزءًا من الغطاء عن وجهه لكان الموت من نصيب من ينظر إليه من فرط الجمال الملائكى الذي يفوق قدرة البشر على رؤيته، فضلا عن خرافات أخرى كثيرة لإضفاء نوع من تصعيده فوق عن الجنس الإنسانى. إن تاريخ البدوى ملىء بالحكايات الحقيقية والأساطير المسيئة له وهو أمر شجع الباحثين على أن يجعلوه محورا لاهتماماتهم كجزء من تاريخ الصوفية المنظمة، فالصوفية قبل قدوم البدوى كانت أشبه بالرهبنة على الطريقة المسيحية، بما فيها من عزلة وتقشف وجهاد للنفس في مواجهة ترف الحياة، هي بدأت في بلاد المغرب، وإن كانت قادتها الكبار، رغم أنهم من تونس والمغرب، جعلوا المشرق خاصة العراق مركزا لدعوتهم فانتشرت طريقتا «الرفاعية» نسبة للشيخ أحمد الرفاعى، و«الجيلانية» نسبة للشيخ عبدالقادر الجيلانى. فالصوفية بدأت في دولة المرابطين التي نشأت في بلاد المغرب العربى، بغرض الجهاد بعد سقوط دولة المسلمين في الأندلس، حيث تم توزيع كل فريق من المجاهدين في رباط على حدود دول شمال أفريقيا، وعندما انتهت دولة الرابطين وحل بدلا منها دولة الموحدين، هاجر المرابطون إلى مصر في زمن صلاح الدين الأيوبى الذي أمر ببناء «خانقاه سعيد السعداء» وهى الدار الموجودة حتى الآن في شارع المعزلدين الله الفاطمى. وجرت عزلتهم عن الناس وتقديم الطعام لهم فارتدوا الخرق وأصبحوا إتكاليين لا يعملون، ورغم صراع صلاح الدين مع الشيعة والدولة الفاطمية، إلا أن البعض قال في عنايته بالمرابطين إنها رغبة في تحويل الصوفية الشيعية إلى صوفية سنية، هذه هي قصة البدوى وحكاية دخول التصوف مصر.