"نوبة" من النصائح انتابتني مدفوعة بمشاعر الأمومة بمناسبة استعداد ابنتي سمر للسفر لقضاء عام دراسي في جامعة لويزيانا الأمريكية. ثقل اللحظة ربما كان يحتاج مني لأكثر من النصائح، التي قد تبدو محفوظة، ممجوجة ومنفرة، ولكن تداخل خوف الأم التلقائي علي ابنتها ذات التسعة عشر ربيعاً، مع ربكة الموقف غير المسبوق، فتحولت إلي إنسان أقل من عادي، هربت مني الحنكة والخبرة، وكياسة الثقافة والتعليم، وحضرت فقط علي لساني عبارات يمكن أن تقولها جدتي أو أمي، أو أي أم، حاولت أن أغلفها بخفة دم وذكاء مصطنعين.. قلت: إياك من الارتباط بأمريكي، أو أن تأخذك الحماسة، فتظنين أنك من أحفاد الفتح الإسلامي الجدد في تلك الجامعة الأمريكية النائية.. لابد أن تضعي هدفك نصب عينيك: التعليم.. التعليم وفقط؟! ردت "سمر" وهي تجاريني في ادعاء الذكاء "المفقوس": "سوف آخذ معي بوستراً كبيراً لجمال عبد الناصر، وأعلقه علي حائط غرفتي، لأتذكر علي الدوام انتمائي للوطن والعروبة".. وعلقتُ قائلة: "يا خوفي أن تكون صورة أوباما هي البديلة لناصر بعد قليل!". وخضنا حواراً شيقا حول رمزية عبد الناصر، فقد تعلمت "سمر" طوال سنوات تعليمها الماضية، واحتكاكها بالعديد من أساتذة الجامعة الأمريكية، خاصة الأمريكيين، مكانة عبد الناصر، وتجربة ثورة 23 يوليو، بالنسبة للفكر الأكاديمي والسياسي الغربي.. وتلك الأهمية التي يولونها لهذه الحقبة في التجربة المصرية، لا تعني بالضرورة التعاطف، أو الحب، ولكنها بالأحري، احتراما، أحياناً مصدره معرفة العدو، نتيجة قيمة تلك التجربة، وتميزها. وسعدت بتعليق "سمر" فأنا ألمسه بوضوح كلما سافرت في جولات عمل خارج مصر، ورغم مضي 57 عاماً، علي ثورة يوليو، و39 عاماً علي رحيل عبد الناصر، فإن الثورة وناصر مازالا حاضرين بقوة.. وكم شعرت بالفرح، وأنا في أوغندا في أحد أسفاري، عندما وجدت الدليل السياحي يأخذني إلي مكان بالقرب من منبع بحيرة فكتوريا، فأجد تمثالا حجريا صغيرا لجمال عبد الناصر، واكتشفت أن ذلك الشاب الأوغندي يحمل لهذا الزعيم تقديراً كبيراً، وفي حماسة شديدة دافع عن مكاسب مصر وإفريقيا من ثورة يوليو، وهي نفس المكاسب التي نستند عليها في مصر اليوم للهجوم علي الثورة ورجالها. وكنت مرة في كينيا، وبمجرد أن نطقت كلمات بالعربية، انفرجت أسارير مرافقي، وأخذ يصرخ "ناصر، ناصر"، رغم أنه لا يعرف أني من مصر، لكن "ناصر" وحد بين لغتي العربية، ولغته السواحلية، وأصبح في لحظة أداة التواصل بيني وبينه. وعندما كنت في زيارة إلي بكين، حرصت علي القيام بجولة في الحي الذي يسكنه المسلمون الصينيون، وقادتني قدماي في قلب الحي القديم إلي مسجد عتيق هناك، وتجمهر حولي أناس كثيرون بمجرد أن قلت: "أنا من مصر!" وبادر إمام المسجد إلي جلب كتب قديمة، منها مصاحف للقرآن الكريم، وبعض كتب التفسير، ودواوين شعر، وروايات، كلها كتب علي صفحتها الأولي هدية من مصر، وإمضاء الرئيس جمال عبد الناصر. وفي زيارة إلي ماليزيا.. قابلت أساتذة جامعيين أخذوا يتحدثون بفخر عن ثورة يوليو، وعن وطنية "الزعيم" عبد الناصر وعندما أعود بذاكرتي إلي الطفولة في مدينة صفاقسالتونسية أستحضر لقطات حفرت في مخيلتي.. أتذكر والدي وهو يستمع إلي صوت العرب، ويجهش بالبكاء بصوت مخنوق.. وقلما أتذكر له موقفا مشابها بنفس ذلك الحزن الطاغي، وسألته في براءة: "جدي مات؟" فردّ في كلمة لا أنساها: "أبونا مات!".. وفي نفس ذلك اليوم، توافدت علي منزلنا أفواج من الأصدقاء والأقارب، وأخذوا يتقبلون التعازي، ويواسون بعضهم بعضا، والدموع تملأ أعينهم، وأقيمت سرادقات عزاء في كل مكان من مدن وقري تونس، وعلي بعد آلاف الكيلومترات من مكان وفاة الزعيم، وبشكل غير مسبوق. ورغم أني لست من جيل الثورة، وتفتحت أعيني ونما وعيي علي النكسة وتداعياتها، إلا اني أتذكر قصة رواها لي والدي وأكدها عدد من أصدقائه، عندما زار عبد الناصر لأول مرة تونس وفي إشارة مليئة بالمعاني الكبيرة وكان ذلك بمناسبة احتفالها بجلاء قوات الاستعمار الفرنسي عن الأراضي التونسية، وحط عبد الناصر في ميناء بنزرت، وكان عشرات الآلاف من المواطنين في انتظاره، فقد حشدوا أنفسهم من كل المحافظات واستقلوا سيارات نقل مكشوفة، وساروا مئات الكيلومترات حتي وصلوا إلي ميناء بنزرت، وكان المطر ينهمر بقوة وكأنه ستارة بيضاء، ولكن لم يمنعهم ذلك من الحضور لتحية الزعيم، الذي ساعد حركة التحرر في تونس، بل وفي كل بلدان الشمال الإفريقي، وظلت تلك الذكريات عن الزيارة التاريخية يتناقلها ذلك الجيل بفخر شديد. لقد دعمت ثورة يوليو وقائدها جميع الثوار في حركات التحرر ضد الاستعمار، في تلك الحقبة، وشهدت عمارة في قلب وسط البلد، تجمعا لكل الثوار والزعماء من المغرب العربي، واتحاد الطلبة العرب، وهي الآن مقراً للمركز الثقافي الجزائري، حيث اشترت الجزائر المبني في الوقت الحالي. ومازالت الكثير من الصور التذكارية لتلك الاجتماعات تزين حوائط ذلك المقر. وأذكر أني في زيارة إلي ألمانيا في مطلع التسعينيات تعرفت علي عالم ألماني، كان كثير التردد علي مصر في الستينيات، وشارك في التحضير للمشروع النووي المصري، الذي دفن بعد ذلك، بموت عبد الناصر، وحكي لي الرجل كيف أن المخابرات الأمريكية كانت تحاول الإيقاع بعبد الناصر، ودراسة كل تصرفاته، وأهوائه بحثاً عن نقط ضعفه، وكتبت في تقاريرها بعد يأس، إنها لم تجد في ذلك الزعيم الوطني، ما يمكن استخدامه، فعبد الناصر، لم تكن له مغامرات نسائية، كما أنه لا يحب المال، ومستعص علي الرشوة والفساد، وسلوكه متقشف، ولا يميل إلي الرفاهية، ويقضي إجازاته مع عائلته، ولا يسافر في عطلات خارجية.. لذلك كله فقد يئسوا منه وقرروا أن يكتبوا أنه وطني، نظيف اليد والسيرة، وليست لديه نقاط ضعف لاستخدامها أو لابتزازها وبكلمات قليلة، لخّص لي ذلك العالم الألماني حكمة سنوات العمر قائلا: عندما يكون لك أب شرعي، فأنت لا تحتاج للبحث عن أب غير شرعي، ولابد أن تكون فخوراً به، لأنه بذلك فقط تستطيع أن تتفوق عليه!. تلك هي رمزية عبد الناصر التي جعلت ابنتي سمر، تقرر أن تختاره ليكون أمامها هدياً لمشوارها العلمي القادم، وهي نفس الرمزية التي كتبت له الخلود لدي شعوب في أقصي الشرق والغرب، دون أن تكون لهم مصلحة آنية معه، غير اقتناعهم بصدقه الوطني، ونظافة ذمته. ولا عجب بعد ذلك أن الزعماء الحقيقيين لا يموتون أبداً، مهما كانت أخطاء تجاربهم.