هل تحقق الاماكن النجاح حين تزداد الكثافة السكانية بحيث تقصر المسافات وتقلل الانقسامات؟ هذا التساؤل كان مثار الجدل في جلسة عقدها المركز المصري للدراسات الاقتصادية حول تقرير عن التنمية، والذي اصدره البنك الدولي تحت عنوان "إعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية"، وهو ما يفتح الباب أمام السؤال الصعب: ما الذي يجب أن نفعله لإعادة برمجة المجتمع وتحقيق النمو المتوازن؟ ورغم أن هناك اتفاقا حول كثير من نقاط التقرير وخاصة فيما يتعلق بضرورة التكامل الاقتصادي بين الاقاليم لتعميم منافع العولمة، لكن ما اختلف حوله الخبراء هو أن النزوح من المناطق النائية إلي المدن لم يحقق الرفاهية لأولئك الذين يعيشون في العشوائيات والذين يقدر عددهم بحوالي مليار شخص اغلبهم في البلدان النامية وحتي مع استمرار ازدياد غني وطول اعمار الاخرين فسوف يستمر الفقر وارتفاع معدلات الوفيات بين "المليار الواقع في الاسفل" غير القادرين علي الوصول للاسواق العالمية. ويبدو أن خبراء البنك الدولي يحاولون إيجاد فكرة جديدة بل رؤية جديدة للحكومات للخروج من نفق الفقر الذي عمقه سوء توزيع ثمار النمو. وكما ترصد الدكتورة لبني عبداللطيف مستشار أول وزير التنمية المحلية وعضو اللجنة الاستشارية التقرير تري أنه يقدم تصورا للمزج بين مميزات الاقتصاد والجغرافيا والسياسة، مشيرة إلي أن هناك 4 نقاط أساسية في التقرير: أولا أنه يصر علي أن النمو لا يمكن أن يكون متوازنا ولكن ذلك لا يعني ان التنمية تكون متوازية.. ثانيا أن التقرير يطلب من صانع القرار عدم منع نمو المدن والاسواق لأن ذلك يقتل التنمية في الوطن كله، وثالثا انه يمكن إتاحة الاستفادة من عوائد النمو لكل الناس رغم تركزه في فئة منهم من خلال مساعدة الناس علي التحرك لجعل التنمية شاملة.. ورابعا انه يجب ألا نحاول زرع النمو في مكان لم يحدث فيه النمو؛ لان ذلك يعني استخدام الحكومات سياسات تعطي نوعا من الحوافز تكون مكلفة وغالبا لا تكون ناجحة. وتتساءل الدكتورة لبني عبداللطيف: هل يمكن لصانع القرار أن يستخدم هذه النصائح الاربع؟ هل الحكومات تقبل بوقف النمو في مكان وتنقله إلي مكان آخر؟ وخاصة أن بعض هذه التجارب فشلت في مصر. الشرط المهم كما تشير إلي أن التقرير يضع شرطا مهما للدول للاستفادة من النمو في المدن وهو وجود شبكة طرق محلية تضمن تحرك الافراد وهجرتهم للاستفادة من النمو في المدن وهو ما لا يتوافر في مصر وخاصة أن شبكة الطرق الداخلية تسيطر عليها المحليات وقدرتها ضعيفة جدا علي إيجاد هذه الشبكة الجيدة.. وتوضح أنه رغم ان التقرير يصنف مصر علي انها دولة متقدمة لوجود الامكانيات بها فإنه كان يجب أن يلقي نظرة علي شرط شبكة الطرق المحلية للاستفادة من تلك الامكانيات. وتضيف د. لبني أن تركز مؤشرات التنمية في القاهرة الكبري و3 محافظات اخري ويتم من خلالها تحقيق ثلثي النمو ويقطن بها ثلاثة ارباع السكان، وهو ما يعني اننا نتحدث عن التركز في إقليمالقاهرة الكبري الذي ساعدت الحكومة في تحويله إلي اقليم رئيسي في مصر وباقي المحافظات تعتبر إقليما اخر. وبالنسبة لعنصر التجزئة فقد تبدو مصر دولة موحدة كما جاء في التقرير ولكن هذا ليس حقيقيا وخاصة أن هناك فوارق اقتصادية كبيرة بين المحافظات وهناك مشاكل في تجزئة التجارة بين المحافظات لعدم وجود ادوار واضحة للمحليات، وهناك حدود سميكة بين كل محافظة وأخري. سؤال مستقبلي أما الدكتور سمير رضوان عضو مجلس إدارة هيئة الاستثمار وعضو اللجنة الاستشارية للتقرير فيؤكد أنه حاول الربط بين الفقر والهجرة رغم انهما قضيتان منفصلتان، مشيرا إلي أن التقرير يأتي ضمن إصدارات البنك الدولي التي تركز علي رسم المستقبل رغم تعرضه لمفهوم قديم وهو النمو المتوازن من خلال الجغرافيا الاقتصادية. ويضيف رضوان انه اذا قمنا بتطبيق هذا المنهج علي مصر فسنجد أن المدن المصرية اتبعت نمطا منطقيا؛ حيث بدأت الهجرة الكبيرة من الريف إلي المدن منذ بداية العشرينيات ورغم ذلك نجد أن هناك مدنا استفادت، فالقاهرة تمثل 14% من الناتج المحلي.. وتساءل رضوان كيف يمكن ضمان تحول نجاح مدينة إلي مدينة أخري؟ ويؤكد رضوان أنه وفقا لما جاء في التقرير عن النمو غير المتوازن والتنمية الشاملة فإن الوضع سيظل كما هو عليه لسنوات طويلة مشيرا إلي ان النمو المتوازن كما نفهمه أن يكون هناك توزيع متكافئ لموارد النمو.. كما أن الآثار البيئية والاجتماعية الناجمة عن التركز والكثافة العالية والتي حاول التقرير الاجابة عنها محدودة للغاية.. وقال: ماذا سيحدث في مصر عام 2025 وماذا يجب ان نقوم به وهل هي تحتاج للتركيز علي بعد أو بعدين من ابعاد الجغرافيا الاقتصادية؟ جغرافيا الفقر واتفقت مع الرأي السابق الدكتورة فائقة الرفاعي النائب السابق لمحافظ البنك المركزي متسائلة: هل البنك الدولي لديه تصور لمساعدة الحكومات علي تنفيذ ما جاء بالتقرير من ادوات سياسية لإعادة تشكيل الجغرافيا الاقتصادية للفقر؟ أما السفير جمال بيومي الامين العام لاتحاد المستثمرين العرب فيري أن اعادة توزيع ثمار النمو مجرد فكرة لم تتفق حولها الصفوة إلي الآن وهل يمكن ان يستفيد الجميع من تلك الثمار؟ وتساءل: هل يمكن تنفيذ ذلك من خلال اعتماد نموذج بؤر التنمية وترك تلك المناطق التي نمت بالفعل وهو الحل الاسهل، أم يجب البحث عن مضاعفة التنمية مع ضمان عدالة التوزيع؟! وتساءلت كورشينج كوه كبير الاقتصاديين بالتقرير عن اهم المشكلات التي تواجهها الجغرافيا الاقتصادية في افريقيا مشيرة إلي انها تتركز في عنصر الكثافة ولكن مصر لديها مشكلة خاصة، فرغم أن مصر لديها جغرافيا سياسية وعمرانية تقودها نحو التركز ومزيد من الكثافة فإنها تحتاج إلي الخبراء الذين يجعلون من الكثافة السكانية فكرة ناجحة والتخفيف من آثار المناطق العشوائية علي المدن وآلامها، مؤكدة انه لا توجد دولة في العالم تغلبت علي العشوائيات بصورة ناجحة ولكن الاهم هو الاستخدام الجيد لما جاء من توصيات في التقرير وخاصة المؤسسات والبنية الاساسية والحوافز. واعترض الدكتور طاهر حلمي رئيس مجلس إدارة المركز المصري للدراسات الاقتصادية علي فكرة ان النمو غير المتوازن سيدفع بعد فترة التنمية الشاملة مؤكدا أنه في مصر رغم وجود الاحياء الراقية وبجوارها العشوائيات لسنوات عديدة فإن تلك العشوائيات لم يصبها أي عدوي من التنمية المحيطة بها وهو ما يجعلنا نتساءل عن مدي جدية ما جاء بالتقرير بأن إلحاق الاماكن الفقيرة بالغنية يجعلها تسير في ركب النمو.