"الاقتصاد" ليس بعيدا عن "السياسة" في هذه الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل علي قطاع غزة، بل هما متداخلان ومتشابكان، وقد حاولت الدولة اليهودية أن تستخدم كلا منهما لخدمة الآخر في السنوات التي سبقت هذا العدوان الغاشم الذي لم يتقرر فجأة وإنما جاء نتيجة تخطيط مبيت منذ سنوات. وإذا أردنا أن نمسك ببداية خيط هذا التداخل بين الاقتصاد والسياسة فيما يتعلق بالممارسات الإسرائيلية الاستعمارية إزاء قطاع غزة، والضفة الغربية بطبيعة الحال، فإننا سنجد هذه البداية تعود إلي الأيام السوداء لهزيمة يونية 1967. فمنذ احتلال القطاع والضفة في أعقاب "النكسة" انتهجت إسرائيل سياسة اقتصادية هدفها جعل اقتصاد المناطق المحتلة بلا قاعدة إنتاجية مستقلة، بل أن يكون هذا الاقتصاد خادما للطلب في السوق الإسرائيلي. وظل هذا هو واقع الحال حتي اتفاقات أوسلو وما أعقبها من انسحاب إسرائيلي من الضفة والقطاع، وقيام ما أسميناه ب "السلطة الوطنية الفلسطينية". وتحدثت دوائر عالمية وعربية وفلسطينية عن "أحلام" تطور الاقتصاد الفلسطيني في الأراضي الفلسطينية "المحررة". لكن كل هذه الأحلام سرعان ما تبخرت، بل تحولت إلي كوابيس. فليس صحيحا أن الاقتصاد الفلسطيني بدأ رحلته مع المعاناة بعد الصعود السياسي لحركة "حماس" فقط، وإنما بدأ قبلها. بل إن فوز حماس في الانتخابات التشريعية كان هو ذاته رد فعل شعبي ضد تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، حيث كانت البطالة وقتها تتجاوز 60% من إجمالي القوي العاملة، وكانت 61% من الأسر الفلسطينية تعيش تحت خط الفقر البالغ 350 دولارا في الشهر للأسرة الواحدة "حسب الأونكتاد"، كما ارتفع معدل التضخم إلي نحو 20%، وتراجعت قدرة المواطنين الفلسطينيين علي تأمين قوت يومهم. وفاقت اتفاقات أوسلو أزمة الاقتصاد الفلسطيني، حيث زاد اعتماده علي إسرائيل وتبعيته للاقتصاد الإسرائيلي، نتيجة بروتوكول باريس في إبريل 1994 في إطار اتفاق أوسلو والذي زاد من ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي في إطار اتحاد جمركي، ولو غير كامل، وأيضا نتيجة لما نص عليه هذا البروتوكول من أحقية الحكومة الإسرائيلية في التحكم بالتحويلات الموجهة للسلطة الفلسطينية بالإضافة إلي تحكمها في مستحقات "السلطة" من إيرادات الجمارك وضريبة القيمة المضافة وحقوق المقاصة، التي تشكل أحد الموارد المهمة للموازنة الفلسطينية. يضاف إلي ذلك أن هذه الاتفاقات أدت إلي زيادة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني علي "المانحين"، أي "المساعدات" الأجنبية، وبطبيعة الحال فإنه لا توجد في السياسة الدولية أعمال خيرية أو مساعدات لوجه الله وإنما كل مليم وكل سنت يكون مشروطا بألف شرط وشرط. وبعد أن فازت "حماس" في الانتخابات وانتقلت من المعارضة إلي الحكم زادت الأوضاع الاقتصادية سوءا. فحركة حماس حصلت علي هذه الشعبية الواسعة التي أوصلتها إلي مقاعد الحكم لأسباب متعددة منها معارضتها لاتفاقات أوسلو. لكن كراسي الحكم التي وصلت إليها مصنوعة بحبر هذه الاتفاقات وأموال الدول المانحة التي لم تقدمها إلا بشروط كثيرة من بينها الصلح مع الدولة اليهودية والاعتراف بها والخضوع لمشيئتها. وكان هذا هو أحد التناقضات الذاتية التي واجهتها "حماس" من اللحظة الأولي لأن تسلمها للسلطة يجعلها شاءت أم أبت وريثة لمسار أوسلو. وكان عليها أن تأخذ نصيبها من هذه "التركة" أو تدفع الثمن. وكان دفع الثمن هو ما حدث.. وبدأ "الحساب" بلغة الاقتصاد قبل أن يصل إلي لغة السلاح والحرب الوحشية. وكان السلاح الاقتصادي المفضل لدي الإسرائيليين هو سلاح الحصار والتجويع. واتخذ هذا الحصار مسارا متدرجا فقد تزامن مع فوز حماس بالانتخابات التشريعية، ثم جري تشديده بعد عملية "الوهم المتجدد" في 25 يونية 2006 التي أدت إلي أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط، أغلي جندي في العالم. ثم ازداد الحصار صرامة وقسوة، وأصبح دوليا وعربيا أيضا وليس إسرائيليا فقط، بعد الانقلاب الذي قامت به حركة "حماس" وانفرادها بالسلطة في غزة. حيث قامت إسرائيل بإغلاق المعابر الستة التي تربطها بقطاع غزة، وهذا يعني منع دخول المواد الخام اللازمة للصناعة، مما أدي إلي إغلاق 3500 مصنع ومشغل وتشريد 120 ألف شخص يعملون بها، وسد الطريق أمام الصادرات الزراعية التي يتم إنتاجها في غزة، ومنع خروج رجال الأعمال الفلسطينيين للالتقاء بنظرائهم الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو حتي في إسرائيل، علما بأن قطاع غزة يحتاج يوميا إلي 600 طن من القمح و72 طنا من الأرز و43 طنا من الزيوت و6 أطنان من الشاي و230 طنا من الألبان.