اعتادت إسرائيل كل فترة من الزمن أن تشن حربا أو عدوانا أو تقوم بضربة خاطفة ضد بلد عربي أو أرض عربية, وسواء كانت هناك حجة منطقية للحرب والعدوان أو انتفت هذه الحجج. فإن سياسة إسرائيل واحدة وهي اثبات نظرية الردع وتكثيف الخوف لدي الجيران. ورغم فارق القوة العسكرية بين إسرائيل والأطراف التي اعتدت عليها في السنوات الأربع الماضية, وهي لبنان وقطاع غزة, فقد ثبت أن إسرائيل ليست بالطرف الذي يستطيع أن يشن حربا دون أن يواجه بمقاومة كبيرة, فهكذا جاءت تطورات العدوان علي لبنان في2006 وأيضا العدوان الغاشم علي قطاع غزة في نهاية2008 ومطلع.2009 وبالرغم من ذلك فإن بنية الدولة الإسرائيلية نفسها لا تميل إلي تصديق الدروس التي يختزنها التاريخ الانساني, وأبرزها أن الحرب لن تحل مشكلة, وأن الشعوب الضعيفة التي تدافع عن نفسها وأرضها ومواردها وحياتها تستطيع أن توجه أيضا الضربات القاسية لمن يعتدي عليها أيا كانت قوته وجبروته. مشكلة الذاكرة التاريخية الاسرائيلية أنها تلفظ الحقائق وتعيد انتاج الأوهام التي تصور إسرائيل وجيشها كبلد لا يقهر وجيش لا ينكسر أبدا. وهي أوهام سقطت مرارا في العديد من الجولات التي مرت علي الصراع العربي الاسرائيلي طوال الأعوام الخمسة والثلاثين الماضية, بدأت بحرب اكتوبر1973 وامتدت إلي العدوان علي غزة قبل عام وشهر, ومع ذلك يعتقد بعض ساسة إسرائيل لاسيما من اليمين المتطرف من أمثال ليبرمان ونيتانياهو بأن الحرب هي مجرد قرار من أجل النزهة وقتل آلاف البشر واحتلال أراضي الغير وتخريب بنيتهم الأساسية ومن ثم إثبات قوة إسرائيل الجبارة. ولايشك أحد في أن إسرائيل تمتلك قوة عسكرية جبارة ومتطورة وهي من أحدث ما تنتجه مصانع الأسلحة الأمريكية والإسرائيلية التي تتعاون مع مثيلتها الامريكية, غير أن القوة العسكرية وحدها ليست كل شئ, فالنزال والمواجهة بين الاحتلال والغصب من جانب وبين أصحاب الأرض الأصلاء ونبل المقاومة والنضال من جانب آخر يتضمن الكثير من العناصر المعنوية التي بإمكانها أن تحول مسار الأحداث وتلغي كثيرا من فجوة القوة المادية. لكن غرور القوة وقصر النظر هما اللذان يدفعان كثيرا من القيادات الاسرائيلية المتعصبة إلي القيام بالخطأ ذاته ودفع الثمن مرة أو مرات أخري متكررة. هذه الصورة الكلية التي تميز إسرائيل عن غيرها ككيان احتلالي استيطاني توسعي عدواني, تفسر إلي حد كبير تلك الأزمة البنيوية التي تواجهها في العقد الأخير. فبالرغم من القوة العسكرية فإنه يتأصل شعور جارف بالخوف من قوي ومنظمات مسلحة صغيرة سواء في لبنان أو في فلسطينالمحتلة, كما يتجسد دائما شعور بأن إسرائيل في موضع خطر وتواجه تحديا مصيريا, وأن مستقبل الكيان نفسه هو محل تساؤل. وتلك الأزمة النفسية الجماعية التي يتلاعب بها قطاع كبير من الساسة يكشف عن الوجه غير الاخلاقي الذي يتميز به هؤلاء, ليس فقط في مواجهة الخصوم والأعداء, بل أيضا في مواجهة بني جلدتهم. من هنا فإن قيمة الحرب أو التهديد بها بالنسبة للكيان الاسرائيلي هي قيمة وجودية, أو بعبارة أخري هي مبرر للوجود ذاته والحفاظ عليه معا. ولذا لا تمر فترة إلا وتنخرط القيادات المتعصبة في حديث عن الحرب مع هذا الطرف أو ذاك, ثم تبدأ الحرب فعلا بعد فترة وجيزة. وطوال السنوات الاخيرة لم ينقطع حديث الحرب الإسرائيلية ضد إيران, باعتبار أن الحرب حسب اليقين الاسرائيلي الصهيوني هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن توقف البرنامج النووي الإيراني. وهكذا حاولت وضغطت إسرائيل لأن تضع هذا الخيار أمام متخذ القرار في واشنطن, والذي كان ينظر للأمور بطريقة مختلفة, حيث قرار الحرب من بين عدة قرارات يجب أن تعطي لها الاولوية قبل التفكير في حرب تقول كل المؤشرات أنها ستكون كارثة ستصيب العالم بأسره وليس فقط إيران. ومنذ نهاية العدوان الاسرائيلي علي لبنان صيف2006, وبرغم ما تكبدته إسرائيل ماديا ومعنويا من جراء هذا العدوان الهمجي, فإن تهديداتها للبنان ولحزب الله لم تتوقف. والآن يتخذ التهديد الاسرائيلي بالحرب ضد كل من لبنان وسوريا أبعادا خطيرة, فالأمر لم يعد من قبيل التلميحات العابرة أو كلمات يتفوه بها مسئولون من مراتب دنيا, بل تصريحات مرتبة ومعدة جيدا وتحمل دلالات ومعاني خطيرة وتزداد حدتها مع تزامنها بتحركات وتدريبات عسكرية واسعة المدي توصف بأنها لضمان الاستعداد والجاهزية لأي قرار بالحرب من قبل سوريا أو لبنان وتحديدا حزب الله. فالصيغة التي تحدث بها وزير الخارجية الاسرائيلي ليبرمان بشأن التعليق علي تصريح قال به الرئيس بشار الاسد أمام وزير خارجية أسبانيا بأن إسرائيل ليست جادة في السلام, وهي كذلك بالفعل, كانت تعبيرا عن رؤية عدوانية تستهدف سوريا نظاما وشعبا وموارد. إذ هدد ليبرمان سوريا بأنها ستخسر اي حرب قد تشنها ضد إسرائيل وأن الرئيس بشار الأسد سوف يخسر نظام حكمه أيضا. فالخسارة هنا وفقا لقناعة المتطرف ليبرمان سوف تكون مزدوجة للبلد وللنظام, ومن ثم للشعب السوري الذي إن فقد نظام الحكم عاني الفوضي والضياع. قد يبدو تصريح ليبرمان عنتريا ويحمل سمات البلطجة المعتادة في سلوكه ومواقفه السياسية, ولكنه يحمل أيضا قناعة بوجوب تدمير سوريا. وهنا مكمن الخطر, لأن التدمير لن يكون سوي حصيلة مواجهة عنيفة وكبيرة وشاملة. وكأن ليبرمان ينذر المنطقة كلها بحرب ضروس. فهل تستطيع إسرائيل أن تفعل ذلك؟ هنا تأتي إجابات عديدة. إحدي هذه الاجابات يمكن استخلاصها من التعليقات التي نشرتها صحف عبرية علي تصريحات ليبرمان. وفيها أن إسرائيل تشعر بقلق بالغ نظرا لمستوي التسلح الذي بات عليه حزب الله في لبنان, وهو التسلح الذي يأتي عبر سوريا ومن قبل إيران, ويضم صواريخ ذات قدرات تدميرية هائلة, ويمكن أن تصل إلي كل المدن الاسرائيلية. وكذلك قلق من الاستعدادات العسكرية التي باتت عليها سوريا بفعل الخطط التي اعدت لمواجهة اي عدوان إسرائيلي, وهي خطط تعتمد نظرية حرب العصابات طويلة المدي عبر تشكيل فرق مجهزة ومدربة جيدا لهذه النوعية من الحروب التي تستنزف قدرات الأعداء وتفشل أهدافهم. ومعني هذا القلق هو أن إسرائيل باتت تخشي الوقوع فريسة لنمط حرب غير نظامية كما كان الحال في صيف2006 علي يد مقاتلي حزب الله, وإذا كان الأمر قد تم استدراكه جزئيا في حالة لبنان, فإنه سيكون خطيرا إذا ما اتسع وشمل الجبهة السورية أيضا. هكذا تتبلور قناعات إسرائيلية مشوشة. هذه الطريقة من التفكير تجسد نظرية الفعل الاستباقي والعدوان الخاطف, ورغم أن كل الظروف تؤكد فشل وخيبة هذا الأسلوب وضعف مردوده, لكنها إسرائيل التي تفشل في استيعاب الدروس وتعيد تكرار نفس التجربة القاسية. فأي متمعن في التصريحات السورية سواء التي قال بها الرئيس بشار أو وزير الخارجية وليد المعلم, خاصة ما تعلق بأن أي عدوان إسرائيلي سوءا علي لبنان أو سوريا سيتحول إلي حرب إقليمية, يصل إلي نتيجة بسيطة وهي أن إسرائيل ستفتح علي نفسها أبوابا من الجحيم, والذي قد يصل إلي الذروة إذا ما اشتركت إيران في مثل هذه الحرب, أو تم دفعها للمشاركة عبر الهجوم علي منشآتها النووية. وإن أخذ المحلل موقفا متحفظا من مثل هذا التلاسن السوري الاسرائيلي, فالمرجح هنا أن صانع قرار العدوان الاسرائيلي أراد بمثل هذه التصريحات الحادة ضد الرئيس بشار شخصيا أن يقيس مدي رد الفعل سواء من دمشق أو الضاحية الجنوبية في بيروت لاسيما إذا أقدم علي ضربة عسكرية ضد إيران, حتي يمكن أخذ الاحتياطيات الواجبة والمضادة لاي تحرك سوري أو لبناني أو كليهما معا. ولكن يظل التساؤل: هل بمقدرة إسرائيل ان تدخل في حرب مع ثلاث جبهات وربما أربع إذا اضيفت غزة في وقت واحد؟. وحتي في مشهد التحفظ هذا يتبلور سلوك عدواني إسرائيلي يهدف إلي إعادة رسم خريطة الاقليم وتفاعلاته وموازين القوي فيه. وبناء علي رد الفعل السوري وبعض الشواهد علي الارض السورية واللبنانية, فإن الخريطة الجديدة لن تكون أبدا في صالح العدوان والهمجية مهما كانت قوة وهمجية الآلة العسكرية الاسرائيلية.