إسرائيل تنتقل من حرب الكلمات إلي كلمات الحرب، لممارسة أقصي ضغط ممكن علي الأطراف ذات العلاقة بالمشكلة، لكي تتخذ قرارات إكراهية إن إسرائيل تمارس ألعاب حرب، فالتصور السائد علي أسس تحليلية خلال الشهر الحالي، والشهر القادم، وربما الذي يليهما، هو أن أحدا لن يقوم بضرب إيران، فاحتمالات العمل العسكري في ظل الأوضاع الحالية لاتتجاوز 25 في المائة علي الأكثر، أي أنه ليس مطروحا كخيار رئيسي للتعامل مع مشكلة برنامج تخصيب اليورانيوم الإيراني، علي الرغم من وجود خطط عسكرية أمريكية، توصف أحيانا بأنها فعالة، فالمشكلة دائما هي قرار الحرب، وليس خطط الحرب، فتلك الخطط كانت موجودة دائما _ علي أي حال _ داخل الأدراج، وإلا : فلماذا توجد الجيوش ؟ إن خيار شن حرب ضد إيران قد تقلص بشدة خلال الفترة الماضية، لأسباب لاحصر لها، لم يتم تحييد تأثيراتها بعد، أهمها أنه لايوجد سبب محدد يمكن الاستناد عليه من جانب الإدارة الأمريكية لشن الحرب، إذ لا يوجد تقدير موقف واحد ( باستثناء التقدير الإسرائيلي) يشير إلي أن إيران تتقدم بشكل مؤكد في اتجاه امتلاك أسلحة نووية، أو أن ذلك، بافتراض حدوثه، يمكن أن يتم في وقت قريب، فتقديرات د. البرادعي تؤكد أن أمام إيران حوالي 5 سنوات لامتلاك مواد نووية بحجم ودرجة يمكن استخدامها لإنتاج تلك الأسلحة بافتراض أنها تفعل ذلك، وهيئة التقديرات الإستراتيجية الأمريكية لم تتراجع عن موقفها الخاص بأن إيران أوقفت برنامجها النووي العسكري عام 2003، فالأسباب المبررة للحرب غير قائمة في المدي القصير علي الأقل. إن مايثار عادة بهذا الشأن هو أن عدم وجود أسباب قوية لشن حرب ليس كافيا وحده لمنعها، فقد تم غزو العراق لأسباب غير حقيقية، إلا أن ماحدث في حالة العراق ذاتها يمثل واحداً من أهم كوابح تكرار التجربة مرة أخري، فقد أدت حالة العراق إلي تدهور التأييد الداخلي لإدارة الرئيس بوش، ونسف توجهات المحافظين الجدد، وقيام الكونجرس بتقييد قدرة الرئيس علي اتخاذ قرار الحرب، يضاف لذلك مايلي : 1 _ إن هناك حالة من عدم اليقين حول النتائج المحتملة لأية ضربة عسكرية أمريكية لإيران، سواء فيما يتعلق بتدمير القدرات النووية الإيرانية، أو النتائج المتصورة لقصف منشآت نووية تعمل بالفعل، أو التأثيرات الناتجة عن استهداف النظام السياسي الإيراني بتلك الصورة. 2 _ إن هناك حالة من عدم التوافق حول تقييم قدرة إيران علي الرد، فمن المؤكد أن القوة النظامية الإيرانية لن تكون ذات أهمية كبيرة، إلا أن قدرة إيران علي زعزعة استقرار الإقليم، أو تحويله _ كما يقول البرادعي _ إلي " كرة من اللهب" تظل مؤكدة تقريبا، وغير قابلة للحسابات المحددة، التي تتيح اتخاذ قرارات بلا مخاطرات مانعة. لكن رغم كل ذلك، ظلت هناك مجموعة من السيناريوهات التي تطرح طوال الوقت احتمالات نشوب حرب في الخليج ضد إيران، أهمها : أولا : سيناريو " الشهور الأخيرة"، وهو سيناريو مثير أقرب إلي نظرية المؤامرة، يتم في إطاره تصور أن الرئيس الأمريكي بوش قد يقوم في آخر أيام فترة وجوده في البيت الأبيض بشن حرب ضد إيران، لعدم ترك إيران كمهمة غير منتهية، ولقناعته بأنها تمثل تهديدا، يرقي إلي درجة " حرب عالمية ثالثة"، وقد بدا ثمة شعور في التسرب إلي الوكالة الدولية بأن مشكلة الوثائق الخاصة بالتصميمات النووية قد تستخدم في هذا الإطار مستقبلا. ثانيا : سيناريو الانزلاق إلي الحرب، وهو سيناريو يتضمن دورا إيرانيا، فهناك تصور بأن التحرشات المستمرة في الخليج، كما حدث خلال أزمة البحارة البريطانيين، أو حوادث المدمرات الأمريكية والزوارق الإيرانية في مضيق هرمز، قد تتصاعد بشكل غير مسيطر عليه، لتؤدي إلي عمليات عسكرية واسعة النطاق، لاتمثل حربا شاملة بالضرورة، لكنها تقود كل الأطراف إلي استنتاج محدد بأن الحرب الكبيرة يمكن أن تقع " في اليوم التالي". لكن إضافة إلي هذين السيناريوهين يوجد السيناريو الإسرائيلي، فقد تصاعدت تهديدات إسرائيل بصورة غير مسبوقة، فيما يتعلق بالقيام بعملية عسكرية ضد إيران، ولم يعد يمر أسبوع دون أن تطلق إسرائيل إشارة تدفع في هذا الاتجاه، سواء تعلق الأمر بتصريح رسمي واضح، أو تسريب عسكري، أو مناورة عسكرية، أو تطور عملي، إذ بدأت إسرائيل تحاول بكل الأساليب أن تقنع الجميع، بان لديها خيار حرب، وأنها سوف تلجأ إليه، وأنه موجه إلي طهران وليس إلي واشنطن. إن مشكلة إسرائيل هي أن التحليل السائد بشأنها هو أنها تمارس ألعابا عسكرية، وهي تقوم بذلك بالفعل، فلديها رغبة قوية بأن تتعرض المنشآت النووية الإيرانية لضربة عسكرية، ولاتقوم تل أبيب بتقديم إجابة من أي نوع حول النتائج التي يمكن أن تترتب علي ذلك، بل أنها تبدو مستعدة نسبيا لتحمل نصيبها من رد الفعل الإيراني، كما تحملت ضرب العراق لها بحوالي 39 صاروخا خلال حرب الكويت عام 1991، دون أن ترد بأي صورة ضد العراق، خاصة وأن الأمر لم يصل إلي استخدام أسلحة كيماوية، فلديها تقدير لم يقتنع به أحد أبدا، بأن لدي إيران برنامجا نوويا عسكريا نشطا، وأن إيران ستصل إلي امتلاك القنبلة خلال عام أو عامين. الشق الثاني من المعضلة الإسرائيلية هو الأكثر تعقيدا، فإسرائيل تدرك أنها غير قادرة علي القيام بمهمة ضرب إيران وحدها، إذ لن يدعمها احد سياسيا أو حربيا، ويصعب قيامها بعملية عسكرية فعليا باستخدام طائراتها، التي لن تجد الوصول إلي إيران سهلا، مهما كانت دقة التخطيط والتدريب، كما أنها لن تمر في أجواء العراق أو الخليج أو تركيا دون سماح واشنطن بذلك، إضافة إلي أن انتشار المنشآت النووية الإيرانية يجعل نتائج الضربة مشكوكاً فيها، لذا كان مفهوما أن هدف كل تحركاتها هو الضغط علي واشنطن للقيام بذلك، إلا أن لعبة الحرب تلك قد وصلت في الفترة الأخيرة إلي مستوي من الانكشاف بدرجة قررت معها إسرائيل أن تصعدها إلي مايشبه " الاستعداد للحرب" وليس مجرد التهديد بها. إن إسرائيل قد قررت القيام بمجموعة من الخطوات العسكرية المتتالية التي تشبه " الفتح الإستراتيجي" بالنسبة للقوات البرية في مسارح العمليات، وهناك تفسيرات تآمرية تشير إلي حركة أخري من الحركات الشطرنجية لرئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت الذي يمارس لعبة البقاء في السلطة منذ فترة، أو إلي وجود إدراك إسرائيلي بأنه إذا لم تضرب إيران حاليا، في ظل إدارة بوش، فإنها لن تضرب بعد ذلك، أو بأنها يمكن أن تقوم بتوريط الجميع في حرب لايرغب أحد فيها، لكن التفسير الأكثر برودا يظل هو دعم مصداقية تهديداتها العسكرية. المشكلة الكبيرة التي تواجه السيناريو الإسرائيلي تبدو منطقية للغاية، فحتي مع افتراض أن إسرائيل لديها الإرادة والقدرة علي توجيه الضربة العسكرية لإيران، يظل كل مالدي إسرائيل لتفعله هو " ضربة واحدة"، فليست لديها حاملات طائرات، أو قواعد عسكرية خارجية، وغواصاتها تحمل أسلحة رد، وليس قتال، وبالتالي فإنها ستضرب إيران، وينتهي الأمر بالنسبة لها، لكنه سيبدأ بالنسبة للولايات المتحدة ودول الخليج، ودول المنطقة، والسؤال هو لماذا ستتركها الولاياتالمتحدة تفعل ذلك، إذا كانت النتيجة الحتمية هي أن واشنطن ستجد نفسها في حالة حرب، سواء قامت هي بشنها أو شنتها إسرائيل. إن الافتراض هنا هو أن الإدارة الأمريكية لن تشن حربا ضد إيران إلا في التوقيت الذي تختاره، وبالتالي لن تسمح لأي طرف بالقيام بشن حرب ستجد نفسها طرفا فيها رغما عنها، خاصة وأن إسرائيل لاتمتلك القدرة علي القيام بأي شئ لاتستطيع الولاياتالمتحدة القيام به، وعلي ذلك لايوجد أي تفسير منطقي لما تقوم به إسرائيل، فهي لن تشن حرب تورط فيها القوات الأمريكية في توقيت لاترغب فيه تلك القوات، إلا إذا كان ثمة "شئ غامض" في الأفق، وهذا الشئ لن تسمح به علي الأرجح وزارة الدفاع الأمريكية أو الاستخبارات الأمريكية، أو الكونجرس الأمريكي، إذا كانت الأمور تسير بصورة منضبطة في واشنطن. الفكرة بسيطة، وهي أن إسرائيل تنتقل من حرب الكلمات إلي كلمات الحرب، لممارسة أقصي ضغط ممكن علي الأطراف ذات العلاقة بالمشكلة، لكي تتخذ قرارات إكراهية حاسمة ضد إيران، لكنها حتي الآن غير قادرة علي القيام بالعملية وحدها، وهناك علامات استفهام تتعلق برغبتها في ذلك، فقد بدأ تيار داخلي في إسرائيل ذاتها يقرر أنه يمكن الاعتماد مستقبلا علي الردع النووي، إذا وصلت الأمور إلي سيناريوهات أسوأ حالة، إلا أن الجميع لا يجدون بأسا من ممارسة لعبة حرب أخيرة، لتوتير الموقف أو تحليل الاتجاهات علي الأقل، فلاتزال اللعبة الرئيسية تدار من واشنطنوطهران، رغم دخول إسرائيل علي خط الأزمة بشكل صاخب.