لعبت الخلفيات السياسية دورا كبيرا في فشل مفاوضات استكمال جولة الدوحة لتحرير القطاعات التجارية علي اختلاف أنواعها، فهناك دول لم تقبل أن تضيع حقوق مزارعيها، وأخري صممت علي نيل نفس الحقوق المطلوبة منها، وفريق ثالث ليس لديه ما يخسره فتشبث بأقل ما يمكن الحصول عليه. فقد تمسكت الولاياتالمتحدةالأمريكية بموقفها لاعتبارات سياسية في المقام الأول ووضعت جميع خياراتها في سلة واحدة، إذ كانت عين المفاوض الأمريكي تنظر إلي انتخابات الكونجرس في الخريف المقبل، التي لا يمكن للإدارة الحالية أن تغامر بشطب الدعم الزراعي المقدم للمزارعين، ليستغل الديمقراطيون هذه الثغرة وينفذون منها للهجوم علي الجمهوريين والإطاحة بهم في النهاية. ورغم محاولات الاتحاد الأوروبي للتقارب مع الولاياتالمتحدة، إلا أن بروكسل لا يمكنها هي الأخري أن تغامر بشطب الدعم الممنوح لمزارعيها، من دون مقابل يتمثل في تسهيلات تجارية كبيرة مع الولاياتالمتحدة وعدم وقوف واشنطن في وجه أي تقارب تجاري بين الاتحاد الأوروبي وأية منطقة أخري. وأما الحكومات الأوروبية فتخشي التعرض لعقاب ناخبيها في صناديق الاقتراع، إن فرطت في مصالح مزارعيها. وتقف منظمات المجتمع المدني والنقابات الزراعية والمهنية علي أهبة الاستعداد للهجوم انتقاما لضحايا العولمة، في أجواء ملتهبة بسبب ارتفاع معدلات البطالة والغلاء، وبالتالي فقد حاولت بروكسل أن تكون في منتصف الطريق، لتحاول أن تبرر خسارة جناح من خلال تحقيق نجاحات في قطاعات أخري علي الأقل، وهو ما لم يحدث. وكان تصلب المواقف خوفا من التبعات السياسية، خطأ لم يكن في حسبان الدول الكبري، التي دشنت جولة الدوحة بقوة، تحت شعار حماية حق الدول النامية، ثم اندفعت في فلكها طمعا في السيطرة علي أسواق العالم بإمكانياتها المالية الضخمة والتقنية المتفوقة، وكانت تحث البلدان النامية إلي الدخول معها في قوالب العولمة ولكن عليها أن تنتظر المقابل بعد حين. من المتوقع أن تشهد المرحلة القادمة زيارات مكوكية تحاول من خلالها الدول الغنية تفعيل اتفاقيات تجارة حرة ثنائية مع البلدان الهامة التي تضم أسواقا واعدة، سواء بين مجموعات من الدول بحكم الواقع الجغرافي، أو بحكم تبادل المصالح من خلال التكامل الاقتصادي في مجالات محددة. وأما الدول الناشئة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وإندونيسيا وماليزيا وسنغافورة، فتقف الآن في مكانة جيدة، إذ استفادت في الفترة السابقة من تعزيز موقعها الاقتصادي بشكل جعل منها مركز جذب جيدا للاستثمارات في أغلب المجالات. ومن المحتمل أن تشهد هذه الدول إقبالا كبيرا من المستثمرين في المرحلة المقبلة، كما يمكن أن تصبح حلقة الوصل بين الدول النامية الأشد فقرا، والغنية القوية اقتصاديا، فيما يمكن أن يوصف بأنه التبادل الاقتصادي غير المباشر. وفي المقابل تقف الدول النامية في منتصف الساحة الاقتصادية العالمية، ولديها الآن فرصة ذهبية، فقد عرف مفاوضو تلك الدول الثغرات التي يعاني منها نظام التجارة العالمي والسلبيات التي كان سيتم فرضها عنوة، ويمكنها الآن بموجب الاتفاقيات الثنائية أن تقارن بين مختلف الخيارات للحصول علي أفضلها. وتبقي منظمة التجارة العالمية في جنيف في حالة تريث وترقب، وستبقي علي كل حال مرجعية ولو حتي بشكل استشاري للنزاعات التجارية الدولية.