اندثرت جولة الدوحة للتنمية... ولكن منظمة التجارة العالمية حية ترزق, ومن لم يسمع منكم عن جولة الدوحة فلم يخسر الكثير, حيث إنه مع الأسف وبعد تسع سنوات من المفاوضات المكثفة, فإننا لم نتقدم قيد أنملة. وبالرغم من ذلك فإن مدير عام المنظمة باسكال لامي يرغب في أن يوهم نفسه ومن حوله بأن المفاوضات أنهت80% من موضوعات الجولة بالاتفاق عليها ولم يتبق لنا سوي20% من تلك الموضوعات. لكن أحدا لا يعلم ما هي هذه الموضوعات, سواء التي انتهينا منها أو التي مازالت قيد البحث. ولعل خير دليل علي اندثار جولة الدوحة هو تخلي رؤساء دول وحكومات أكبر اقتصاديات العالم عنها في مؤتمري القمة المنعقدين الشهر قبل الماضي في كندا. فقد انتاب أولئك الرؤساء الملل ولهم في ذلك كل الحق من هذه الجولة, بل إنهم آثروا في قمة الثمانية للدول الصناعية, وبعدها في قمة البرازيل والهند والصين, عدم الاشارة من قريب أو بعيد إلي تعهدهم المعتاد بتاريخ محدد للانتهاء من جولة الدوحة للمفاوضات التجارية, علي نحو ما كانوا يرددونه في كل بيان لهم مناشدة كل دولة أن تتابع اتفاقياتها الخاصة بها سواء علي الصعيد الثنائي أو في الإطار الإقليمي. وهذه رسالة صريحة وواضحة من أن جولة الدوحة للتنمية فشلت. إن السؤال الذي يطرح نفسه حاليا هو: ما هو مصير منظمة التجارة العالمية؟ وما هو مدي تأثير فشل جولة الدوحة للتنمية علي المنظمة؟ وما هو تأثير ذلك الفشل علي مستقبل المفاوضات التجارية متعددة الأطراف, خاصة بعد تلك الآمال الواسعة التي علقتها عليها الدول النامية باعتبارها مفاوضات من أجل التنمية, وما هو مصير البدائل المطروحة من قبل شخصيات اقتصادية عالمية مثل ياجديش باجواتي عن تدشين جولة جديدة يطلق عليها اسم جولة أوباما لتشجيع وحث الولاياتالمتحدة علي دخول ملعب المفاوضات مرة أخري بعد أن بات واضحا أنها قد اتخذت صفوف المتفرجين. وعلي الرغم من أننا لم نسمع كثيرا عن دور لمنظمة التجارة العالمية خلال الأزمة الاقتصادية التي مازلنا نعاني من تبعياتها, فإننا لا يمكننا أن نغفل الدور الرقابي وإن كان مستترا الذي قامت به المنظمة والذي يرجع له الفضل الأول في الحيلولة دون الانزلاق في سلسلة من السياسات الحمائية وإغلاق الأسواق والتي عادة ما تكون خط الدفاع الأول للدول التي تعاني من الأزمة وما يستتبعها من تفش للبطالة. وهو ما سبق لنا أن شهدناه عقب أزمة الثلاثينيات, بما عرف بسياسات إفقار الجار والتي تعني ببساطة مزايدة كل دولة علي جارتها في رفع تعريفتها الجمركية وفرض سياسات حمائية صارمة تحول دون تدفق الواردات إلي أسواقها. وأرادت المنظمة بذلك أن تؤكد أن نجاح أو فشل جولة الدوحة ليس من شأنه المساس بقواعد المنظمة والتزامات الدول وتعهداتها بفتح أسواقها التي أخذتها علي عاتقها في إطار جولة أوروجواي السابقة. ففي حال قيام أي دولة بفرض أي قيود تجارية, من حق الدولة التي لحقها الضرر إبلاغ المنظمة فورا عن مثل هذا الإجراء التقييدي, وعندئذ تتكفل المنظمة بوقف هذا الاجراء ومطالبة الدولة التي تلجأ إلي فرض حماية غير مبررة بالتعويض. وقد حاولت بعض الدول في مجموعة ال20 الارتداد عن التزاماتها بتحرير التجارة, غير أن سرعان ما تراجعت عن ذلك خوفا من إجراءات الردع التي يمكن أن تتخذها ضدها دول أخري في إطار المنظمة, بما يعني نجاح منظمة التجارة العالمية من خلال قواعد التجارة متعددة الأطراف المعمول بها في التصدي للممارسات الحمائية. وبقيت الأسواق مفتوحة, مما يمثل نجاحا للدول النامية في ضوء حاجاتها الأساسية واعتمادها شبه الكلي علي التجارة الدولية لتصريف منتجاتها في الدول المتقدمة والنامية علي حد سواء. وأننا لم ننته من الأزمة بعد, وتبقي الرقابة والتصدي للاجراءات الحمائية سارية. غير أنه يوجد دور آخر لمنظمة التجارة العالمية لا يقل أهمية عن دورها كرقيب لضمان احترام الدول التزاماتها, ألا وهو دورها كمحكم في المنازعات التجارية من خلال ما هو معروف لدي المنظمة من جهاز قوي لفض المنازعات, وهو الذي من شأنه أن يعطي الطمأنينة للدول صغيرها وكبيرها في إنفاذ ومتابعة قواعد المنظمة. ولا شك أن الولاياتالمتحدة برغم أنها فقدت الكثير من اهتمامها بمنظمة التجارة العالمية, فإنها لا يمكن أن تتغاضي عن المكاسب التي حققتها من ورائها في قضيتين حيويتين بالنسبة لها ضد الاتحاد الأوروبي, وهما قضية الدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي في صناعة طائرة الإيرباص والذي كان يؤثر بشكل سلبي علي مبيعات الطائرة الأمريكية الصنع بوينج, وقضية الأغذية المعدلة وراثيا. وكسب الولاياتالمتحدة لهذين النزاعين سوف يسهم حتما في تمسك الولاياتالمتحدة باستمرار عمل المنظمة لقيامها بضبط المبادلات التجارية بين القوي التجارية العملاقة, من ناحية أخري, وضبطها السوق التجارية الدولية عامة, من ناحية أخري. مما سبق يتضح لنا وبما لا يدع مجالا للشك أن منظمة التجارة العالمية نجحت في تثبيت نفسها في النظام الاقتصادي الدولي, وأن فشل جولة الدوحة لن يؤثر كثيرا علي مواصلة الدور المنوط بها في إطار هذا النظام, ومن هذا المنطلق, فإنني أري أنه لا فائدة من الخوض في مفاوضات شاملة مجددة في إطار جولة أوباما أو غيرها تفاديا الدخول في متاهات وتعقيدات نحن في غني عنها اليوم وحتي لا تلقي مصير سابقتها. إن الأهم في نظري هو إعطاء الفرصة للمنظمة وأعضائها للعمل بسلاسة وهدوء في حسم الكم الهائل من الملفات التي تتضمنها مجالات الزراعة والخدمات والاستثمار وحقوق الملكية الفكرية, وعدم التعهد بأن يكون الاتفاق النهائي في شكل الصفقة المتكاملة أي الاتفاق علي كل شيء أو لا شيء, والتفكير في الانجازات الجزئية بناء علي قواسم مشتركة يتم التوصل إليها من خلال مفاوضات محدودة ومصغرة.