علاقة المصريين بالسياسة علاقة خاصة للغاية.. وتختلف بشكل جوهري عن علاقة الشعوب الأخري بالسياسة في بلدانها، لأن مصر بحكم تاريخها الممتد عرفت نظام الدولة الموحدة والحكومة المركزية والمؤسسات المدنية والدينية والعسكرية وأيضا لأن الشعب المصري عبارة عن نسيج متناسق بحكم وحدة القيم الاجتماعية والأخلاقية، ووحدة التراث الثقافي، والقدرة الفائقة علي استيعاب العناصر البشرية الوافدة إليه ودمجها في النسيج الاجتماعي المصري لتتحول إلي أحد مكوناته.. كما حدث مع كل من وفد إلي مصر من الغرب أو من الشرق.. عربا وأتراكاً وأفارقة وحتي أوروبيين، وأيضا هناك وحدة جغرافية متميزة لمصر، فحدودها ومنذ آلاف السنين هي نفس الحدود من رفح مصر علي حدود فلسطين شرقا إلي السلوم غربا.. ومن سواحل البحر الأبيض والبحر الأحمر شمالا وشرقا إلي حلايب وشلاتين جنوبا.. من كل ذلك كان للنظام السياسي في مصر خصوصية واضحة.. كان هناك دائما علي قمة النظام السياسي رأس الدولة وهو الفرعون الذي كان المصريون القدماء يعتبرونه إلهاً أو ابنا للآلهة واستمر هذا الحال حتي انهيار دولة مصر الفرعونية في القرن الأخير قبل الميلاد وسقطت مصر تحت حكم أجنبي وافد إليها بقوة السلاح من الفرس إلي الرروم وما أعقب ذلك من الفتح الإسلامي ودولة الخلافة انتهاءا بالدولة العثمانية والتي آل في ظلها حكم مصر إلي المماليك.. طوال تلك الحقب الممتدة من التاريخ كان الشعب المصري قد اتخذ قرارا - بإراداته أو بحكم الظروف - بأن يبتعد عن السياسة، ويحافظ علي هويته المصرية ويمارس حياته علي أرضه وضفاف نيله.. حتي كانت الصحوة الأولي عندما داهمته قوات الحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت 1798.. وانهزم أمامها فرسان المماليك وتخاذلت الدولة العثمانية.. فلم يجد الشعب المصري أمامه سوي أن يتصدي لها. واشتعلت ثورة القاهرة الأولي والثانية، وتوقفت جيوش نابليون عن زحفها إلي الجنوب أمام المقاومة الشعبية في معركة جهينة في سوهاج.. وارتدت إلي القاهرة. وتطورت الأمور بعد ذلك سريعا.. حتي تولي محمد علي الألباني حكم مصر عام 1805.. وأقام دولته وأسس أسرة حاكمة واستقل بمصر استقلالا نسبيا باعتبارها ولاية ذات وضع خاص من ولايات الدولة العثمانية.. وعاد الشعب المصري مرة أخري إلي الابتعاد عن السياسة.. حتي جاء الخديو اسماعيل وحاول أن يصبغ حكمه بصبغة أوروبية، فأنشأ مجلس شوري النواب يضم أعيان البلاد من المصريين.. فعاد الاهتمام بالسياسة مرة أخري وتطور الأمر بسرعة.. وازداد حماس المصريين حتي انتهي الأمر إلي الحركة العرابية.. وفكرة عودة مصر إلي المصريين.. ولكنها انتهت بالفشل بعد الحملة البريطانية 1914 تم إعلانها دولة مستقلة بتصريح 28 فبراير 1922.. وقيام الملكية أيضا في أسرة محمد علي.. وكان تعاطي المصريين للسياسة طوال تلك الفترة يشوبه دائما التردد وعدم الثقة.. ترأس الدولة ملك من أسرة وافدة.. والأحزاب السياسية تقودها النخب الاجتماعية المتصارعة علي الحكم.. وفوق الجميع سلطة المندوب السامي البريطاني ممثل قوة الاحتلال، حتي كانت ثورة 1952.. وعادت مصر للمصريين بحق.. فماذا فعل المصريون؟ كان لابد من المرور بمرحلة اتسمت بالصراع والمعارك الداخلية والخارجية لاستقرار النظام.. والقبول الداخلي والخارجي بالتغيير التاريخي الحقيقي والذي تمثل في قيام لدولة المصرية الخالصة وعودة كل مقدراتها إلي يد المصريين أنفسهم، وهو ما قلل من دور الشعب في المشاركة في الحياة السياسية.. ولكن عاشت مصر والنظام السياسي في حالة استقرار علي مدي ربع القرن الأخير.. وهو حق لابد من الاقرار به ويرجع الفضل فيه إلي رئاسة مبارك الذي استشعر أن الوقت قد حان لأن يكون للشعب المصري الدور الرئيسي في الحياة السياسية.. وهو أمر لن يتحقق إلا إذا كان للشعب رأي حاسم في اختيار رأس الدولة.. اختياراً حراً حتي لا يكون الفرعون الإله لكن الرئيس المنتخب.. وبالتالي كل من دون هذا المنصب.. قطعا سيسري عليه أسلوب الاختيار الحر المباشر.. من هنا تأتي أهمية تلك الخطوة.. فهي بحق بداية النقلة النوعية الحقيقية لعودة المصريين إلي السياسة.