مغزي استثناء «القوات الخاصة السرية» من التخفيض ما أن تدخل حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية مرحلتها الساخنة بين المرشحين الجمهوريين والمرشح الديمقراطي الوحيد الرئيس باراك اوباما حتي تطفو علي السطح رغبة كل مرشح -ايا كان اتجاهه - في ان يكسب اصوات اولئك الذين يهتمون باستمرار ارتفاع ميزانية النفقات العسكرية او اولئك الذين يهتمون بتقليص هذه النفقات. بطبيعة الحال فان الذين يبدون للناخبين رغبتهم في زيادة ميزانية "البنتاجون" (وزارة الدفاع الأمريكية) فإنهم يبنون موقفهم اليميني علي مراهنات الاحتفاظ بتفوق الولاياتالمتحدة العسكري علي كل القوي الاخري، حتي وان كان المنافس المضاد الذي كان يتمثل في الاتحاد السوفييتي قد اختفي من مسرح العلاقات الدولية. وحتي وان كانت الحرب الباردة قد اختفت، وحتي وان كانت الحرب العالمية علي الارهاب - كما تسميها الولاياتالمتحدة - هي من نوع الحروب التي لا تتطلب جيوشا ضخمة واسلحة ثقيلة وحاملات طائرات وغواصات نووية ...الخ. تلك التي تبتلع الحجم الاكبر من الميزانية العسكرية الأمريكية. الاتجاه السائد وبطبيعة الحال ايضا فان اي مرشح رئاسي أمريكي يريد ان يظهر ميلا الي الاعتدال او الي الافكار اليسارية التي تؤيدها غالبية الجماهير الشعبية الأمريكية يتجه في حملته الدعائية الي تقديم وعود بخفض الميزانية العسكرية وبصفة خاصة خفض ميزانية التسليح. وقد اظهرت انتخابات الرئاسة الأمريكية علي مدي السنين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتي منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، ان اي سياسي أمريكي ينجح في الوصول الي البيت الابيض وسواء لم يمكث فيه الا لفترة رئاسية واحدة (اربع سنوات) او بقي فيه لفترتين، يخفق في مواجهة لوبي شركات صناعة الاسلحة وفي مواجهة جنرالات القيادات العسكرية الأمريكية في صواب سياسة خفض الميزانية العسكرية. فالاتجاه السائد منذ ذلك الوقت هو نحو زيادة الميزانية العسكرية الأمريكية وبصفة خاصة ميزانية التسلح. وسواء كانت الولاياتالمتحدة تواجه ازمة اقتصادية - مثل الازمة التي تواجهها منذ سنوات - او كانت موازينها الاقصادية تميل الي ارتفاع نسبي في نسب النمو الاقتصادي ومعدلات التجارة الخارجية فان الرئيس الأمريكي المنتخب حديثا يضطر الي ابتلاع رغبته - اذا وجدت - في انعاش الحياة الاقتصادية عن طريق خفض النفقات العسكرية. ذلك ان رئيسا أمريكيا جديدا لا يستطيع مواجهة اتهامات خصومه السياسيين من داخل حزبه او من الحزب المنافس بانه يريد التضحية بمكانة أمريكا التي تستند اكثر ما تستند الي قوتها وقدراتها العسكرية التي جعلتها تنتشر في انحاء الارض وفي بحار العالم وفي سماواته باعداد يصعب معرفة ارقامها الحقيقية من القواعد البرية والجوية والبحرية، ولعله لابد من اضافة القواعد الفضائية. طوال السنوات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية - اي منذ منتصف اربعينيات القرن العشرين - كان لجوء الولاياتالمتحدة الي شن الحروب هو اقصر الطرق لاقناع الراي العام والكونجرس بمجلسيه باهمية زيادة الميزانية العسكرية سنويا وبنسب عالية. فكانت حروب كوريا وفيتنام وكل الهند الصينية وكوبا. واخذت اهداف الحروب الأمريكية تصغر وتصغر فكانت لها حرب في جرينادا وفي نيكاراجوا وبنما. ثم عادت احجام قواتها المطلوبة لشن حروب خارجية تكبر وتتضاعف عندما قررت الولاياتالمتحدة ان تحتل افغانستان وعندما احتلت بالفعل العراق. ولا تزال الولاياتالمتحدة تحتفظ بقوات ضخمة في اوروبا وفي آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة والفلبين وتايلاند) علي الرغم من اختفاء احتمالات الحرب في هذه المناطق. معارضة هوجاء هذا العام يبدو الامر مختلفا في حملة الرئاسة الأمريكية فقد استطاع الرئيس الحالي اوباما ان يحصل في العام الماضي علي موافقة الكونجرس بمجلسيه علي خفض العجز المالي الأمريكي للسنوات العشر القادمة من 10 تريليونات دولار الي 7,5 تريليون دولار. ووافق الكونجرس ايضا ولهذا الهدف ذاته علي خفض الميزانية الدفاعية الأمريكية للسنوات العشر القادمة من 6 تريليونات دولار الي 4,5 تريليون دولار. ولعل من الضروري هنا ان نشير الي ان هذا القرار بشقيه العام والعسكري لقي معارضة شديدة من جانب النواب والشيوخ المعروفين بتأييدهم القوي لاسرائيل، كما لقي معارضة هوجاء من جانب اللوبي الصهيوني. وقال "المستشارون العسكريون " لمنظمة " جينسا" وهي اختصار لاسم "المنظمة اليهودية للامن القومي "(الفرع العسكري للوبي الصهيوني في أمريكا) ان هذا القرار "يتعارض مع هدف الابقاء علي قدرات أمريكا الدفاعية"، وذلك علي الرغم من اعتراف هذه المنظمة بان كثيرين من الأمريكيين سيصفقون لهذا القرار (...) لهذا لم يكن غريبا ان يواصل اوباما حملته من اجل فترة رئاسة ثانية داعيا الي خفض النفقات العسكرية الأمريكية، بينما استمرت منظمات اللوبي الصهيوني في معارضة ذلك والتلويح بامكان الوقوف ضد اوباما في حملة الانتخابات الرئاسية. وقد استمرت منظمة "جينسا" في اصدار بيانات وابحاث تظهر اسباب معارضتها لخفض الميزانية الدفاعية الأمريكية. ولعل من اهم ما ذكرته في بيان تفصيلي لها صدر قبل ايام ان الميزانية العسكرية تمثل سدس الميزانية العامة الأمريكية ومع ذلك فان نسبة الخفض التي ستجري علي الميزانية العسكرية ستتجاوز هذه النسبة بكثير اذ ستبلغ 67 بالمائة. وذكّرت اوباما في هذا البيان نفسه بانه عندما وقعت حرب كوريا (1951) كانت الميزانية العسكرية الأمريكية تبلغ 12 مليار دولار وعندما تولي جون كيندي رئاسة الولاياتالمتحدة (1961) كانت الميزانية العسكرية تبلغ 43 مليار دولار اي انها ارتفعت بنسبة 387 بالمائة. واضافت ان أمريكا كانت تنفق علي الميزانية الدفاعية قبل حرب فيتنام نصف ميزانيتها العامة - وهو يعادل 50 مليار دولار- بلغت في ذروة تلك الحرب 90 مليارا (1968) وعندما انسحبت أمريكا من فيتنام وكان من الضروري خفض هذه الميزانية العسكرية اصبحت 82 مليار دولار. تجاوز الحدود واضافت "جينسا" ان الولاياتالمتحدة عمدت الي زيادة ميزانيتها العسكرية من 265 مليار دولار بعد توقف الحرب الباردة لتصبح 304 مليارات في عام 1996. غير ان لهذه السيرة الغريبة للميزانية العسكرية الأمريكية جنبا خفيا نادرا ما تتطرق اليه ابحاث الخبراء الأمريكيين. ويرتبط هذا الجانب ارتباطا وثيقا بعملية عسكرة المجتمع الأمريكي. وهي عملية ادت الي تحول الولاياتالمتحدة الي منتج للاسلحة من كل الانواع والاثقال بينما تحولت الولاياتالمتحدة في الوقت نفسه الي مستورد لكل ما عدا ذلك خاصة للسلع الاستهلاكية التي يقبل عليها الشعب الأمريكي اقبالا لا نظير له بحكم تعداده السكاني الذي يتجاوز 307 ملايين نسمة وبحكم ارتفاع مستويات المعيشة. اما هذا الجانب الخفي فهو ان الولاياتالمتحدة تزيد باطراد من تعداد وتسليح "القوات الخاصة" المؤلفة من جيوش سرية الاعداد والتسليح والخطط والقواعد. وفي هذا الصدد يقول الباحث اليساري الأمريكي بيل فان اوكين (في مقال منشور بتاريخ 15 فبراير الماضي علي موقع انفورميشن كليرانس الالكتروني) ان "قيادة القوات الخاصة الأمريكية " قد ضاعفت تعدادها منذ عام 2001 ليصبح 66 الف فرد وارتفعت ميزانيتها خلال الفترة نفسها من 4,2 مليار دولار الي 10,5مليار. وتنتشر قوات هذه القيادة في انحاء العالم حتي انها اصبحت توجد بصفة دائمة وسرية في 75 بلدا، من الدومنيكان وبيرو في أمريكا الجنوبية الي الفلبين واليمن والصومال وبلدان اسيا الوسطي. وفضلا عن ذلك فان الولاياتالمتحدة تعتزم علي الرغم من انسحابها العسكري من العراق الاحتفاظ باعداد كبيرة من قواتها الخاصة بصفة سرية وبدون الزي الرسمي في هذا البلد. وعلي الرغم من الاعلان الأمريكي بالانسحاب من افغانستان في عام 2014 فإن 9 آلاف من جنود القوات الخاصة السرية سيبقون بعد هذا التاريخ في افغانستان. ويلاحظ الباحث نفسه "ان الر ئيس اوباما زاد اعتماده علي هذه النخبة من القوات منذ بداية رئاسته. اذ يعتمد عليها كجيش سري يخضع لقيادة الرئيس الأمريكي ولا يخضع للمحاسبة من احد". نستطيع ان نؤكد اننا لم نتجاوز حدود الموضوعية حين نصف هذه السياسات الأمريكية بانها خدعة ليس فقط للشعب الأمريكي انما للراي العام العالمي وشعوبه تحت مظلة الدفاع عن خفض الميزانية العسكرية.