تنتمي الناقدة الراحلة د. فاطمة موسي إلي جيل من النقاد تتلمذ علي يد عميد الأدب العربي د. طه حسين، واستشرف آفاق النقد الجديد- وقتها- علي يد د. محمد مندور، هذا الجيل الذي انتمت إليه ايضا الراحلة الكبيرة د. لطيفة الزيات.. وعلي الرغم من التراث النقدي والفكري الذي اسهمت فيه وبه د. فاطمة موسي فإن كتابها عن نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية» يعد واحدا من أهم الكتب النقدية التي تناولت عنصر الشخصية الروائية لدي اديب نوبل الكبير، ويعد كذلك دليلا واضحا علي تميز الخط النقدي الذي انتهجته الناقدة الراحلة، والتي تعددت جوانب اهتماماتها الثقافية كأستاذة جامعية ومترجمة قديرة ومشاركة فاعلة في الأنشطة الفكرية والمؤتمرات الابداعية، وكعضوة مؤثرة في لجان المجلس الأعلي للثقافة.. بالإضافة إلي تميز شخصيتها الإنسانية كزوجة لعالم النفس الشهير د. مصطفي سويف وكأم للراوية أهداف سويف صاحبة روايتي «عين الشمس» و«خارطة الحب» وغيرهما. يرجع اهتمام د. فاطمة موسي بنجيب محفوظ ككاتب روائي إلي عام 1948، حيث كان «محفوظ» علي أول طريق التحقق الأدبي خاصة بعد خروجه من مرحلة الرواية التاريخية والتي انتج خلالها «عبث الاقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة» ليدخل عوالم الرواية الواقعية من خلال «القاهرةالجديدة» ثم «زقاق المدق»، و«قصر الشوق» و«الثلاثية» و«اللص والكلاب» وانتهاء ب «قشتمر» 1988. وتري د. فاطمة موسي أن أعمال نجيب محفوظ تعد تمثيلا لمراحل تطور الرواية لا في العربية وحدها بل في غيرها من الآداب العالمية، حيث بدأ بالرواية التاريخية ثم انتقل إلي مرحلة الواقعية وتصوير حياة أفراد عاديين اتخذهم جميعا من أبناء المدينة ومدينة القاهرة بالذات، ومن فئة البورجوازية الصغيرة المتطلعة دائما إلي مثل من يعلوها في السلم الاجتماعي. وتعتمد د. فاطمة موسي في كتابها علي المنهج التحليلي في رصد العلاقة بين الشخصيات الروائية داخل نصوص «محفوظ» والواقع المستقاة منه تلك الشخصيات والأحداث، لتؤكد أن تلك الرؤية التي انتهجها «محفوظ» في الكتابة جعلته متميزا عن معاصريه من عدة نواح: أولها: أنه استفاد من امكانات الرواية الواقعية لفترة زمنية تقارب العشر سنوات، والتي عبرها إلي مرحلة جديدة اسمتها «مرحلة مابعد الواقعية» حيث زاوج فيها بين الواقع بتجلياته الإنسانية كأرضية للكتابة ورؤيته الفلسفية التي تتشابك بدلالاتها وافرازاتها العقلانية وتعقيداتها الجدلية مع العصر الذي نعيش فيه. وثانيهما: أنه لم ينتقل من مرحلة كتابة إلي مرحلة أخري إلا عن طريق وعي متكامل بمتغيرات المنجز الروائي العالمي حيث «كان الاطلاع علي الادب العالمي والتحرر من النظرة السلفية في الأدب يعني بالنسبة لنجيب محفوظ أنه أخذ فن الرواية عن اساطينها في الغرب، فقد قرأ جالزورذي ولورانس وويلز وجويس وتولستوي وتورجنيف ودستويفسكي، وتشيكوف وجوركي، كما قرأ ستندال وفلوبير وبروست ومالرو وأناتول فرانس وغيرهم، واتخذ من روايات والترسكوت التاريخية نموذجا اتبعه في مرحلة انتاجه الأولي، ونجيب محفوظ من هذه الناحية لا يختلف كثيرا عن الجيل الذي سبقه بعشر سنوات أو عشرين» ص 14. الواقعية الاشتراكية وتبدو د. فاطمة موسي متأثرة بمدرسة الواقعية الاشتراكية في تحليلها للمرحلة الثانية في روايات محفوظ وهي المرحلة الواقعية والتي استغرقت احد عشر عاما بدأت ب «القاهرةالجديدة» 1945 ثم «خان الخليلي» 1946، و«زقاق المدق» 1947، و«السراب» 1948 و«بداية ونهاية» 1949، وقد ختمها بالثلاثية والتي نشرت ما بين عامي 1956 و1958، فترد د. فاطمة أنه «وجد في دراسته الفلسفية وفي اهتماماته الاجتماعية- بلغة الأربعينيات - أي الاشتراكية بلغة الخمسينيات وما تلاها- وفي حاسته الفنية دعامة أساسية تقوم عليها رؤيته، اختار شخصياته في غالب الأحيان ما بين أفراد البورجوازية الصغيرة وصورهم في صراعهم ضد الفقر، وفي محاولاتهم المستميتة للتمسك بمكانهم علي السلم الاجتماعي أن لم يتمكنوا من الارتقاء درجة أو درجات» ص030 وتضرب نموذجا لهذا الطرح بشخصية «محجوب عبد الدايم» في «القاهرةالجديدة» اولي روايات تلك الفترة، فهذا البطل الأول لنجيب محفوظ مثال طيب للا بطل والبطل الساقط الذي حفلت به الرواية في القرن العشرين في مختلف اللغات، وهو أول دراسة مستفيضة لحياة الطالب الفقير المحروم، الباحث عن الوظيفة وعن اللقمة وعن اللذة في خضم العاصمة التي تموج بالأغنياء والطامعين، وبالأضواء والارزاق والملذات، وهو موضوع ملك خيال كثيرين من كتاب الرواية والقصة من بعده، ومازال حتي اليوم المحبب إلي الناشئين من كتاب القصة، فإن نجيب محفوظ قد اضفي علي بطله من الابعاد الفلسفية ما لا نجده عند من قلدوه من كتاب» ص32. اما «بداية ونهاية» والتي اتهم فيها بعض النقاد محفوظ بالتشاؤمية نظرا لكثافة الخط الدرامي بطابعه المأساوي، فإن د. فاطمة موسي تري أن «التشاؤم هنا نتاج نظرة تاريخية ثاقبة وتفكير اشتراكي قبل أن تصبح الاشتراكية حلا يجاهر به الجميع اشتراكيين وغير اشتراكيين» ص52. وإذا كانت هذه المرحلة قد انتهت بالثلاثية ومن بعدها «أولاد حارتنا» التي أثارت ضجة كبري بعد نشرها مسلسل في جريدة «الأهرام» عام 1959، فإن ما أثير حولها ربما كان أحد الاسباب الرئيسية لأن يغلق محفوظ ملف هذه المرحلة التي كان فيها المكان بطلا رئيسيا ومحوريا في بنية النص الروائي ليدخل إلي مرحلة جديدة ومغايرة في الكتابة، وهي «المرحلة ما بعد الواقعية» والتي تأسست علي تحليل البنية النفسية للشخصية الروائية فكانت «اللص والكلاب» مفتتحا لتلك المرحلة الثالثة في الكتابة المحفوظية. حيث تدور القصة حول بطل محوري «هو شخصية حقيقية» فقد استوحي قصته من «حادث سفاح الاسكندرية» محمود أمين سليمان والذي شغل الرأي العام وقتها وكان حديث الصحف والمجلات المصرية، والذي كانت نهايته علي يد الكلاب البوليسية التي اقتفت أثره حتي تم الإمساك به صريعا. وعلي حد تعبير د. فاطمة موسي فإن «الكاتب قد اهتز لحادث هذا السفاح كما اهتز غيره من المواطنين، ولكنه - كفنان- ترجم انفعاله هذا إلي عمل فني رائع له صفة العموم والدوام» ص 121. رؤية الواقع وتري أن أهمية الرواية كعمل فني ترجع إلي أن نجيب محفوظ قد فرض رؤيته علي الواقع، وانتخب من التفاصيل الكثيرة المتناثرة ما يخدم موضوعه حقا، كما أضاف إليها من عنده ما يجعل لأجزاء العمل الفني معني مترابطا ومغزي ذا قيمة انسانية». تقول د. فاطمة موسي : «وقد درج الروائيون عندنا علي اتباع المذهب الطبيعي منذ نشأة هذا الفن «فن الرواية» في العربية، في هذا الميدان كان نجيب محفوظ ابنا من ابنائهم وضعه الجميع علي رأس الجيل الثاني من كتاب الرواية ما لبث أن اشتد ساعده حتي فاق عددا من معلميه، ولكنه برغم عبقريته القصصية الفذة لم يلحق بركب الرواية العالمية الحديثة التي تخلصت تماما من المذهب الطبيعي حتي نشر «اللص والكلاب»، فإذا به بقفزة واحدة قد لحق الركب العالمي، ووجد لنفسه مكانا مرموقا في صفوفه، كقصاص حديث معاصر ينتمي حقا إلي النصف الثاني من القرن العشرين، ويحذق استخدام الادوات الفنية الجديدة التي تفرضها تلك الطفرة من التقدم التكنيكي الذي شمل جميع مجالات النشاط الإنساني وليس أقلهما الادب والفن» ص127. وتضيف : و«لعل التركيز الشديد أول سمة تلفت نظر القارئ لهذه الرواية، فالكاتب قد طرح عنه ما قد يشتت انتباه القارئ من تفصيلات جزئية، وهو يغوص إلي لب الموضوع ويسير أعماقه بدلا من أن يحيط بحواشيه البعيدة كدأبه قبل ذلك «ص128». أما عن مقومات هذا التركيز فتحصرها د. فاطمة في «اختياره لطريقة السرد القائمة علي رواية الاحداث، والراوي الذي يتحدث بضمير الغائب، ولكنه يروي الاحداث من وجهة نظره الشخصية الرئيسية أو البطل مما يجعل القارئ في قلب الحدث بشكل مباشر. وهنا قد يتساءل سائل قائلا: أن نجيب محفوظ قد استخدم هذه التيمة الصياغية في روايات سابقة مثل «قصر الشوق» فترد عليه د. فاطمة موسي قائلة : «أنه كان ينتقل بعد انتهاء المنظر إلي مكان آخر ليقص علينا خبر شخصيات أخري في القصة، أما في اللص والكلاب فهو دائما ملاصق للبطل لا يري إلا ما تري عيناه ولا يعرف إلا ما يعرفه سعيد مهران» ص129. ويأتي تفرد محفوظ في مرحلته الثالثة من كونه خرج عن مكانه الروائي الأول «الحارة الشعبية» سيكولوجيا وسياسيا وايديولوجيا، ظهر ذلك في «اللص والكلاب» ومن بعده «ميرامار» والتي نشرت في البداية كحلقات أسبوعية بجريدة «الأهرام» في خريف 1966، حيث انتقل إلي مدينة الاسكندرية ليكتب عن بنسيون صغير اسمه «ميرامار» يجمع بين شخصيات شتي مختلفة «لا تربطهم صلات سابقة» ويتخذ محفوظ من ميرامار حقل تجربة لدراسة جديدة بارعة للموضوع الذي شعف به منذ بداية حياته الفنية وهو التغير الذي يصيب حياة الافراد والجماعات وأثر ذلك فيهم، بحيث يتتبع أثر موجة التغيير الهائل التي حملتها قوانين يوليو سنة 61 الاشتراكية وما تبعها من إجراءات، وهو يختار لدراسة هذا الاثر عددا محددا من الشخصيات تمثل بطبيعتها أكثر فئات المجتمع حساسية للموجة الثورية العارمة، وهذه الشخصيات مصنفة ومنتقاة تبعا لخطة بارعة : «ثلاثة شيوخ يقابلهم ثلاثة شباب، وعجوز يونانية في مقابل فلاحة مصرية شابة، وعددهم محدود لا يزيد علي سبعة، يقوم منهم أربعة بدور الراوي» ص 135 «بتصرف».