(26) يجلس صامتًا يراقب الشاشات، وكأنه لا يفكر، لكنه لم يكفّ عن التفكير. كل شيء يجري أمام عينيه وكأنه يعيش مرة ثانية، تتتابع في مخيلته اللقطات، نفس الأصوات، نفس المشاعر، نفس البشر، كل شيء يجري أمامَه وكأنه يعيشه مرة ثانية. زين يصاحِبه في كل اللقطات والمَشاهد والمشاعر. يحدّق فيه نائمًا على السرير المعدني، ويتمنى لو يبكي، لكن دموعه لا تطاوِعه كالعادة، والمرارة تفيض من جوفه للحياة. يحدّق في زين، ويتمتم بكلمات ممضوغة ويهمس – اوعى تموت يا زين، اوعى تموت! لم يعد طبيبًا، ولا بدا زين مريضًه، بل هو صديق يجاهِد لإنقاذ حياة صديقِه الأعز، بل أخيه، يجاهد لإنقاذ حياتِه، ويتشبث ببقائه، ويتشاجر معه لأنه لا يعاوِنه، وكأنه يتمنى أن يرحل! يتمني يصرخ بصوت عالٍ راعد مخيف "اوعى تموت يا زين". يتمنى، لكنه يكتم صوته مثلما اعتاد أن يكتم كل شيء بداخله، مشاعره، مخاوفه، حبه، ضعفه، وجعه.. كل شيء مكتوم بداخله يفور كبركان أوشك أن ينفجر. يحدّق في زين النائم أمامَه، ويتمني أن يبكي أو يصرخ، لكنه عاجز، فيهمس بكل الرجاء والتمني – اوعى تموت يا زين، اوعى تموت! وما يزال الليل طويلا، والأمنيات كسيحة، لا تجد نهارًا صحوًا يقوّيها، لتتحول إلى حقيقة مبهجِة. (27) أشرقت الشمس وغابت، وخيّم الليل على الحياة وأدبر، سَطعت النجوم وغامت، غربت الشمس وأتت. أيامٌ متعاقبة خلف أيام، وهو راقدٌ في غيبوبةٍ تبدو عميقة، وكأنه مات، أو على وشك الموت، لكنه حي، ما يزال حيًا أسيرَ لحظةٍ لا يفهمها، ولا يعرف معناها، هو حي ميّت، انسكبت روحه بداخله فبدت وكأنها تستعد للرحيل. مَن يراقبه يتصوره رحل أو كاد، لكنه لم يرحل ولن، سيبقى لأن ميعاد الرحيل ما يزال بعيدًا، هو يعلم والجميع لا يعلمون، يتصورونه سيموت، لكنه يعرف، وهو نصف ميتٍ أنه لن يرحل، وأن في عمره بقيةً تشدّه للحياة، وتبعِد ملكَ الموت عن روحِه، تلافيف مخّه تهذي مع خيالاته أسيرة عقلِه الباطن، فيرى أحلامًا ويعيشها، ويسمع ألحانًا ويغنّيها، ويلمح فتياتٍ جميلات فيغازلهن، وتجتاحه الانفجارات فيدوس على زناد سلاحِه ويطلِق رصاصاتٍ تخيف الجبناء، يبتسم وينادي الجميلات ليأتين، يراقِصنه على ساحة الرقص في كازينو بالاس، يراقصنه على دقات البيانو ونغماته الدافئة، يبتسم أكثر، يضحك ويضحك، يتذكر طفولتَه وقت أن ترك البيت ورحل، ويتذكر فرحته وقت أن عاد، فَتح الباب وصرخ فرحًا، ما تزال بقايا الجدران قائمةً تحتفظ بخطوط طفولته العابثة رَسمت في الأيام الهانئة شموسًا ومَراكب، يصرخ فرحًا لأن البيت الذي لم يغادره انتظرَه حتى عاد. أبوه يصرخ فرحًا لأنه عاد للمدينة التي تَصوّر أنه لن يراها ثانية، أمّه تبكي بدموع الفرح التي نذرتها احتفاءً بالعودة. كل شيء الآن جميل، كل شيء الآن جميل، هكذا قررت الروح الحبيسة خلف الحجب داخل الجسد الوهن على الفراش المعدني في المستشفى الصغيرة، الروح الحبيسة داخل الجسد الذي مزقته الجدران التي انهالت عليه، وبعض الشظايا التي تسللت من الجدران المتهدمة، ولسْع الدباير والخسة، كل هذا مزق الجسدَ فتهاوى، وانسكبت منه الدماء، وكاد يبرد بالموت والرحيل، لكن الروح أبَت أن تغادره، وصمّمت على أن تبقَى. استكانت لمشارط الجرّاحين ورتْق الجروح، والأدوية السائلة تتسلل في العروق تستجدي شفاء يبدو مستعصيًا على الأطباء. الروح ترتّق جروحها، وتطبّب أوجاعها، وتهدهد ألمَها، وتكافح مع الأطباء ليصمد الجسد ويبقى، تؤنِسه بذكرياتها، وتقص عليه حواديتها، وتأخذه بعيدًا عن أعصاب الألم المكشوفة الموجوعة، لأحلامٍ أكثر طمأنينة وأمنًا. يبتسم ويسايرها، تَسحَبه مِن يدِه على شط القنال، تقذف بالأمواج الصغيرة تحت قدميه منعِشةً باردة، تحمّص وجهه بلهيب شمس الصيف، فتجري في وجنتيه الدماء، تغني له على السمسمية وتصفق، فيتمايل جذعه ويتراقص فرحًا طربًا، فتدور الدورة الدموية في الأوردة الممزقة تشفيها، وفي الشرايين المثقوبة ترتّقها، وتندفع الدماء ساخنةً في مساراتها، فيَسعد القلب وصوت البيانو يلاحقه بدقاته المرِحة، وليل كازينو بالاس يؤنِس ليلَه المشحون بالوجع والخوف، والروح تقاوِم وتقاوم، والمقاتِل الصلب العنيد النائم على فراش الموت يستجيب للدعاء والأدوية ويقاوم الرحيل .. وصوت المعدّية ل بور فؤاد يناديه مثلما طالما ناداه، يقفز من فوق السور، ويلوّح للشط الذي يبتعد، ويتمنى أن يقفز وسط ملايين الفقعات الصغيرة التي تتقافز تحت الشمس الطيبة مع النوارس، ويحدّق في السماء الصحو البعيدة مطمئنًا، ويجري برعونة الأطفال على سطح المعدّية وسط السيارات ويلوّح لراكبيها، فيلوّحون له. يَطرق الزجاجَ والأبواب، وينادي الصغار ليلعبوا معه، يتمنى أن تمطِر السماء نثرات من الكاساتا والفراولة، يلوّح بكل قوته للسفن العالية تتبختر على سطح القناة، ويتمنى أن يحلّق فوق سواريها، وتتناثر المياه ورذادها البارد على وجهِه فيصرخ من النشوة، يصرخ فرحًا مبتهجًا سعيدًا. وينتفض الجسد المتخشّب فوق فراش المستشفى، ينتفض وكأنه سيقوم، وترتبك الشاشات، وتسجل أرقامًا غريبة ومؤشراتٍ لا تفهمها، ينتفض الجسد كأنه يقول ما أزال حيًا وسأظل، ينتفض الجسد يصارع يقاوِم، يناضل الموت والرحيل والأفول. وما يزال الصغير يجري على سطح المعدّية، وما تزال قطرات الماء البارد ورذاذها المنعِش يرسمان على وجه الصغير البريء فرحة، وتحلّق النوارس وكأنها تحتفي به، وتتراقص الأمواج الصغيرة تهدهِد المعدّية تتبختر صوب الشط الآخر وكأنها أوشكت أن تصل لبَر الأمان. وما تزال المعركة مستمرة، وما تزال الروح تقاوم، وما تزال تقوَي الجسدَ لينتصر، لكن الانتصار ما يزال بعيدًا، والشط الآخر أيضًا. وتعلو صافرة المعدّية، وتحلّق النوارس فوق رأس زين كأنها تحرسه وهو يصارع بجسده الواهن وروحِه المقاتلة كل ما غدرَ به، أو كاد يفتك به. الصافرة تعلو وتعلو فتبتسم الروح للجسد المتعَب وتطمئنه، والشط الثاني اقترب، وأوشكنا نصل بالسلامة، وتعلو الصافرة وتعلو، وما يزال راقدًا في غيبوبةٍ تبدو عميقة، وكأنه مات، أو على وشك الموت، لكنه حي، ما يزال حيًا وسيظل. (28) على مقهى الجيانولا، كانا جالسيْن يحدقان في بعضهما البعض، ينتظران، كل منهما ينتظر الآخر أن يبدأ الحديث وينهي ذلك الخرسَ الموحش بينهما. قرر زين أن يبادر ويفتح الحوار، سأله وكأنه لا ينتظر إجابته – لسّه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يا دكتور؟ سؤال استنكاري، لا ينتظر له إجابة، كأنه يذكّره بكل ما فعله في حياته وفيهم، في حياة زين، وعمّ وصفي، والخالة فردوس. ضغطَ على كلمه "دكتور" وحروفها، كأنه يقول له، "هل تتذكر وقت أن هجرتَ الطب وأعلنت أنه قرارك النهائي، ثم عدت وعدلتَ عنه؟ هل تذكر وقتَها الحجج التي قلتَها مبررًا إغلاق عيادتك، وتغيير مسار حياتك؟ وهل تذكر الآن الحجج التي بررتَ بها عودتك للعمل؟ الحجج الأولى مقنِعة، والثانية مقنِعة! المشكلة لم تكن أبدًا في الحجج، المشكلة كانت فيك وأنت تأخذ القرارات وترجع عنها، وتتناقض مع نفسك، وتصمم على شيء وترجع فيه، وتتشبّث به وتعدل عنه، هل تذكر يا نبيل"؟ هذا ما قالته كلمة يا "دكتور" التي لفظَها زين متعمدًا يذكّره بكل ما يُسقِطه عمدًا من ذاكرته – لسّه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يا دكتور؟ فاكر اللي كان ولا نسيته؟ كأن زين يقص عليه ما عاشاه معًا "فجأة هجرتَ عملك، وأغلقت عيادتك، وقررت أنك لا تريد الطب، ولن تكون طبيبًا بعد اليوم! فجأة أخبرتَ نادية أنك سترحل وتتركها هي ونورة، تخفّفتَ من أحمالك وفررتَ من معركتك، ورفعت الراية البيضاء بمنتهى الأنانية، هل تذكر"؟ يتذكر زين ذلك اليوم وكأنه بالأمس، فجأة اتصلت به نادية تصرخ؛ لأن نبيل جُنّ، أغلق العيادة، ومنح العاملين فيها مكافأة نهاية الخدمة، وقرر أن يتقاعد! تصرخ – في الأربعين من عمره ويتقاعد يا زين، صاحبك اتجنن شرحت له أنه غادر البيت وأخبرها أنه سيعيش حرًا براحته، ولن يعود، تصرخ في زين – صاحبك اتجنن بجد يا حضرة الضابط! وعدَها أن يفهم الأمر من نبيل، وأن يشرحه لها. أنهى المكالمة وبحث عنه، وجده جالسًا في النادي تحت شجرة ظليلة، ممددًا ساقيه على مقعدٍ أمامه، يحتسي قهوةً بمزاج، يومَها رآه مجنونًا أحمق؛ لأنه أفسد حياته بعد كل النجاح الذي وصل إليه، لكنه لاحظ أيضًا أن ملامحه راضية هانئة، كما لم يرَه من قبل – انت فين يا أخ؟ قلبت الدنيا عليك! ضحك نبيل – طبعا الدكتورة كلّمتك وصرخت واشتكت من جنوني! كانت قد توعّدته أنها ستفضح جنونَه، ولن تصمت عليه، ولن تقبَل ما قرره – لمَا تبطّل الطب تعمل ايه؟ – أستريح واعيش – قصدك تبقي صايع! – حابقى صايع – ومين قال إني مستعدة يكون جوزي صايع؟! ابتسم نبيل، ليتَها تكون اللحظة الموعودة التي تعلن فيها رغبتَها في الانفصال عنه، سيحقق لها طلبها فورًا، ويمنحها كل حقوقها ويزيد، ويختفي مِن حياتها. انتظرَ أن تطالِبه بالطلاق، لكنها لم تفعل! كادت تطلب، لكنها أمسكت لسانها في اللحظة الأخيرة – أنا مش موافقه، ومش حاسكت على كده تمنّى أن يضربها على وجهها ضرباتٍ متلاحقة – من أنتِ لتوافقي أو لترفضي؟ هذه حياتي أنا وليست حياتك، ألستِ طبيبة مشهورة؟ ألا تمتلئ عيادتك بالمَرضى؟ ألستِ سعيدة بتكديس النقود في البنك وشراء العقارات التي ستؤمّن مستقبلك ومستقبل ابنتك؟ ألستِ راضية عن اختياراتك، وتعيشين أجمل أيام حياتك تعويضًا لكِ عن الضياع الذي عشتِه مع زوجة أبيك المستبدة وأبيكِ السلبي؟ أنتِ راضية عن اختياراتك، وأنا لا أتدخل فيها، مالكِ ومالي يا دكتورة؟! يتمنى أن يصرخ فيها ويضربها – خضوعي لكِ له حدود، واستبدادك له سقف لن تتجاوزيه، وسأكف عن الطب والعمل وأغلِق العيادة وأرحل عنكِ وعن حياتك، سأرحل بعيدًا، سأجلس في النادي أحتسي القهوة وأقرأ الكتب المكدّسة على مكتبي، منذ سنين لا أجد وقتًا لقراءتها، سأعيش كما أحِب أن أعيش توعّدته – انت اتجننت.. بمعنى تاني، انت مكتئب، ولازم تشوف طبيب نفسي يساعدك! ضحك ضحكاتٍ متلاحقة أفقدتها رشدها ورزانتها، جُنّت من ضحكِه الذي تلاحق صاخبًا بلا نهاية – أخيرًا عرفتِ أني مكتئب؟ّ أخيرًا عرفتِ معنى حياتي معك وصحبتك لي؟! أخيرًا فهمتِ كل ما يضغط على روحي ويقهرني؟! صحبتك أفسدت حياتي، تارةً بالهروب منك فانغمست في العمل، وتارةً بالكف عن العمل لأعيش الحياة التي ضاعت وسط الاكتئاب والزحمة. أنا بخير، ولست محتاجًا لطبيب نفسي، أنا عاقل وسيد العاقلين، وأعرف جيدًا ما أقول وما أصنع. وانتهى الحوار الصاخب، وانتهت المشاجرة الحمقاء بخروجه من المنزل وضربِه الباب بقوة وغضب حتى كاد ينخلع! اتصلت هي ب زين لتشكوه له، وتطالبه بحق الأخوة والجيرة القديمة، أن يتدخل ليعيد له عقلَه الجامح ورزانته الضائعة – الناس تقول عليه ايه؟ وتقول علينا ايه؟ لا تفكر إلا في نفسها وشكلها وكلام الناس، هذه هي الدكتورة نادية، وهذا كل اهتمامها بالأمر، لا تفكر في نبيل ولا في الذي دَفعه ليتخذ ذلك القرار الخطير، يتقاعد ويهجر الطب ويغلِق العيادة، ويرحل عن المنزل، ويغيّر مسار حياتِه، لا تفكر في نبيل ولا تهتم به. أمّا زين فيفكر فيه أساسًا، بحث عنه ووجده في النادي، رمى جسده على المقعد أمامه وأخذ يحدّق فيه ينتظر تفسيرًا، لا يحتاج نبيل لأسئلة مِن زين ليجيب عنها، هو يعرف كل ما يدور في نفس زين، وسيمنحه الإجاباتِ التي يتمنى أن تعجبه أو لا تعجبه، هذا ليس مهمًا، المهم، أنه سيمنحه الإجابات ويزيل الضباب من فوق حدقتيه ليراه جيدًا، يختلف معه، ربما الأرجح، كعادتهما، هذا ليس مهمًا، المهم أنه سيفهم. – لسّه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه يا دكتور؟ قال زين وانتظر أن يجيبه نبيل، ويشرح له، ماذا ينتوي أن يفعل في نفسه؟ لكن نبيل لا يرد ولا يتحدث، والصمت الموحِش بينهما يستشري، يحدّق فيه نبيل ولا ينطق، كعادته سيعيده زين تلميذًا صغيرًا يتيمًا بلا سند، يعاقبه المدرّس بقسوةٍ وعنف، كعادته سيقرع رأسَه بمعول نصائحه ودروسِه – ونورة ذنبها ايه؟ يذكّره زين بما يتناساه عامدًا – جاي تقولّي النهارده انك حتطلّق نادية؟ يصمت نبيل ولا يرد، لقد شرح رغبته ل زين الذي استمع له جيدًا وانتظره أن يفرغ من حديثه ليهاجِمه، ويكسر منطقه وحججه علّه يثنيه عما في رأسِه، يذكّره زين بما يتناساه عامدًا متعامدًا – ما ذنب نورة؟ نورة ابنتك الصغيرة التي ستطلّق أمّها لأنك أحببت أخرى، هي ستدفع ثمن عبثك واستهتارك! يصمت نبيل ولا يرد عليه، طال بينهما الصمت حتى كاد زين يطلب من نادل المقهى الحساب ويرحل تاركًا نبيل غارقًا في صمتِه وجموحه، لكنه يهتم بأمر نبيل كعادته، ولن يتركه يدمر حياته استهتارًا وعبثًا. فوجئ زين أثناء أجازته القصيرة بنبيل يدق جرس منزله، فتحت فردوس وصرخت لا تصدق أن نبيل أفلح في أن ينتشل نفسه من كل مشغولياتِه ويأتي لزيارتهم، صرخت ترحب به وهي تأخذه في أحضانها بذراعيها القويتين، ترحب به وتبكي فرِحة لأن الابن الضال عاد بعد طول غياب لحضنها وبيتها وأسرتها. رحّب به وصفي فرحًا، وعاتبه لأن سنواتٍ طويلة مرت وهو غائب لا يسأل ولا يصل الود الذي كان، أمسكت به فردوس ليتناول الغداء معهم، فوافقها مشتاقًا لبعض الدفء الأسَري الذي افتقدَه بعد أن رحلوا عن القاهرة لمدينتهم، وبعد أن ماتت أمّه، وبعد أن تزوج الدكتورة نادية التي أتى اليوم خصيصًا لزيارتهم؛ ليتحدث مع زين عن رغبته في تطليقها! خرج زين من حجرته واحتضنه، احتضنه غاضبًا من غيابه، لكن قلبه ينتفض فزعًا، لا يأتي بنبيل إلا للشديد القوي، كما يقولون، يتمنى أن يحكي، ويتمنى أن يسمع، ويتمنى أن يخيب الله رجاءه وألا يفاجِئه نبيل بكارثةٍ حارَ وحدَه في الخروج من براثنها. على منضدة الطعام، ووصفي يضع الشبار في طبقِه محتفيًا به وكريمًا معه، وفردوس تقشّر له الجمبري، يحدّق فيه زين متأملا فاحصًا علّه يهتدي لمبرر الزيارة الغريبة وسببها، كاد يتعجب من صدفة وجوده في البيت وقت الزيارة المفاجئة لنبيل، لكن نبيل لم يترك لتعجبه مبررًا وقت أن أفصح أنه اتصل به في وحدته فأخبروه أنه في أجازة، فعقد عزمَه وحضر لبورسعيد بحثًا عنه وعن بعض الدفء ووصْل الأيام الجميلة التي كانت. المأزق كبير، والأزمة أكبر. همس زين لنفسه، وانتظر بفارغ الصبر أن يفرغا من طعامهما ويرحلا خارج المنزل معًا؛ ليكف له نبيل سر معاناته التي أحضرته لبورسعيد. ما تزال فردوس تتحدث وتسأله عن أخباره وزوجته وابنته، وما يزال وصفي يتحسس طريقه وسط الأسوار العالية التي يبنيها نبيل أمام كل أسئلتِه وفضوله، فقط زين الذي بقي صامتًا، يعرف أن نبيل لن يسمعه على منضدة الطعام، وأن ما أتى به أكبر كثيرًا من مجرد كلمات عابرة أو فارغة تتبعثر وسط أشواك السمك على المنضدة – وحنشرب الشاي في الجاينولا يا امّ زين .. ما تأمريناش بحاجه؟ وَسحب نبيل من ذراعه مسرعًا، وأغلق الباب خلفهما متجاهلاً غضب فردوس منهما؛ لأنها ما تزال مشتاقة لهما معًا – ايه الحكايه بقى؟ وقبل أن يحيك زين الكمائن حول نبيل ليجبره على أن يتحدث، حكى له نبيل عن ليلى، عن القمر الذي أنار سواد ليلِه، والطيبة التي صالحته على الزمن القاسي، الوردة التي فاحت بعبيرها وسط صحرائه، والسيدة التي طمأنته وهو المفزوع الملتاع طوال العمر. – ليلى؟! سأله زين مستنكرًا – أيوه يا زين.. ليلى وبسرعةٍ قصّ عليه أنها كبيرة الممرضات في المستشفى، جميلة، بسيطة وبريئة. وتمنى نبيل لو يتركه زين يقص عليه قصة حبه وعشقه ل ليلى، تمنى، لكن زين أجهض أمنيته سريعًا، ونهره لأنه يتصرف كالمراهقين السذج، والمتصابين الحمقى، قال لهو – انت راجل بالغ وكبير، ورب أسرة ومتجوز، وليك بنت زي القمر، واللي بتعمله ده ما يصحش يا دكتور، وهوّ يعني تدمّر حياتك وتهجر شغلك وتقفل عيادتك؟! ولما تقرر ترجع لحياتك وشغلك برضه تدمر حياتك بس بطريقه تانية؟! ايه يا أخي؟ انت مصمم تنتحر ليه؟! يصمت نبيل ولا يرد عليه، ويتمناه أن يصمت حتى ينهي قصه حبّه وعشقِه للجميلة ليلى، لكن زين لا يصمت، ويكيل له اللكماتِ فوق اللكمات، كلمات موجعة تذكّره بقسوة اختياره على ابنته التي لا يحِب أحدًا في الدنيا مثلما يحِبها، ينصِت نبيل لحديثه صامتًا وكأنه يقول له إن كل ما يقوله لا يعنينه… أدرك زين أن شيئًا لن يثني نبيل عن قصدِه، ولن يخرجه من أسْر العشق، ولن ينقذ أسرته من جموحه وتمرده، وهاويةِ الغرام التي سقط فيها، حاول زين وحاول، لكن نبيل لم يخضع لصرامته، ولم يُبتَز بسيرة ابنته ومصيرها الموحش الذي قد تواجهه لو طلّق أمّها، وتركها ريشةً في مهب الريح تواجه مصيرها كاليتامى الضعفاء، بينما أبوها على قيد الحياة! – يا دكتور، سُمعتك تبوظ، وشغلك اللي سِبت كل حاجه في الدنيا علشانه، وبعدين سِبته، وبعدين رجعت له، يتأثر، وتهدّ المعبد فوق راسك، وتدفع التمن مرتين انت وبنتك وكل حبايبك. لسّه ناوي تعمل في نفسك وفينا ايه؟ سؤال لا يعرف نبيل إجابته، كل ما يعرفه أن ليلى تستحق أن يضحّى من أجلها بكل شيء وأي شيء، حتى لو كان استقرار ابنتِه وهدم بيتِه وأسرته – ونادية حسّت بأي حاجه؟ يحاول زين فهْم أبعاد المعركة التي يعيشها نبيل، يحاول إنقاذه من نفسه. ضحك نبيل – نادية عمرها ما حسّت بيّا يا زين، حتحس بيا النهارده؟ كاد زين يتشاجر معه، يصرخ في وجهِه – ما انت السبب، ما انت اللي روحت اتجوزتها وماسمعتش كلام حد، وكالعاده بعدت، كل ما تيجي تعمل مصيبه تبعد وتستخبّى زي العيال، ضحك نبيل بصوت عالٍ ضحكات متلاحقه – بس المره دي أنا لابعدت ولا استخبيت، بالعكس جيت لك برِجليا علشان اقولك واصارحك، واطلب منك تقف معايا وجنبي. لما اتجوزت ناديه غلطت، مش معنى كده إني اضيّع حياتي كلها، أدفع تمن الغلطه دي! بأسىً حدّق فيه زين – يا ريت انت اللي حتدفع تمنها لوحدك، اللي حيدفع تمن حمقك في الأول وفي الآخِر بنتك، نورة تنهّد نبيل بأسىً – قدَرها يا زين، قدَرها كده، مين منا قدِر يهرب من قدره! صمتَ زين، وعيناه تلومانِه لأن صاحبه اليوم هو الذي يصنع قدر ابنتِه الموحِش ويحتجزها فيه – محدّش قدِر يهرب من قدره، ولا حد قدِر ينقذنا منه، لكنك النهارده تقدر، تقدر تنقذ نورة من القدر ده، لكنك يا سعادة الدكتور بدل ما تنقذها، انت اللي بتصنع لها القدر المخيف وبتدفعها ليه. زين يلومه كالعادة، وهوصامتٌ كالعادة، ورأسه كالحجر عنيد ..سيطلّق نادية ويتزوج ليلى، وليحدث ما يحدث! صمتَ زين غاضبًا، وفهِم نبيل صمتَه وغضبه، وعرف أن بروده وجفاءه سيمزقان الوصل بينها، ولو مؤقتًا، هذا ما تَصوره نبيل. لكنه لم يتصور أبدًا أن سيطول بينهما الجفاء حتى يبكي أمامه وهو جريحٌ ينازع الموت على طاولة العمليات بين يديه! (29) حدّق فيها زين، وأدرك عمق وحدة نبيل، وقدّر وجعه وقسوة اختياراتِه، اتصل به وأخبره أنه في أجازة قصيرة للقاهرة ويتمنى أن يراه. دعاه نبيل للشقة التي شهِدت إخوّتهما واقتسامهما الحزنَ والحياة – تعالى اسهر معانا في البيت، واتعرف على الدكتورة نادية – إن شاء الله همس زين وأغلق الخط حزينًا، سيذهب ل نبيل ويتعرف على زوجته، وبسرعة وقبل أن تمر ذكرى أربعين أمّه، تزوجها لأن الوحدة واليتم قهراه، وموت نجوى جدّد أحزانه، فتآمر على نفسه وتزوج في صمت، وبملابس الحداد، وفي غرفة نوم أمّه، وفي الشقة القديمة التي تمنى لو استطاع أن يغادرها ويخلق لنفسه حياة جديدة في مكانٍ آخر بعيدًا عن تراكمات اليتم والأحزان. "تتعرف على الدكتورة نادية".. وقفت الجملة في حلْق زين وخَنقته، أحس الحواجز الرهيبة عند الزوجة التي ستقاسِم أخاه حياته، حواجز بينه وبينها، وربما والأرجح أنها بين نبيل وبينها… الدكتورة، الدكتورة، الدكتورة…. يردد لقبَها ووظيفتها وطريقة نبيل في تعريفه بها، وأحس حزنًا يتغشّاه، وأحس قسوة الحياة عليهما، فحين نقرر أن نفرح نقع في آبار مفتوحة من الحزن تنادينا فنذهب.. الدكتورة نادية.. الدكتورة نادية! في التاسعة، فتحت الدكتورة نادية باب الشقة، رحبت ب زين ودَعته لحجرة الصالون، فأدرك أن الشقة التي كانت يتصورها شقته صارت مكانًا غريبًا، وصار مكانه حجرة الصالون، مثل كل الغرباء، ذكّرته نادية بدمية اللنبي التي طالما احتفل أهل مدينته بحرقها في ليلة شمس النسيم، شَعرها الأشعث، وسمرتها الكالحة، وعيناها الصغيرتان مثل الدمية التي طالما سخِرت منها المدينة الباسلة والنار تلتهِم قشّها وخشبها وجسدّها المقدّد، وسط احتفالات كبيرة صاخبة، الاحتفال والحريق طقوس تداعب خيال زين بصورٍ بعيدة عاشها قبل الهجرة مع أبيه الذي اصطحبه للسعيدية، واحتسى النارجيلة والشاي، وجرّه وسط الزحمة ليشهد الاحتفالَ البورسعيدي الخاص. يذكر أنه كان تائهًا وسط الزحام، وأرجُل الكبار، والنار المشتعلة تخيفه، وأبوه يضحك ويحمله للسماء فوق كتفيه العاليين ليرى ما الذي يحدث وسط الحلقة الكبيرة التي تحترق دمية اللنبي وسطها، ما يزال صخب السمسمية، والتصفيق، والهتافات المتحدية، وأصوات الفرحة التي تمزق سكون الليل، والنار تتطاير في ذرات قشٍ صغيرة، كل هذا ما يزال يدوّي في أذنيه، لماذا تذكره الآن وقت أن فتحت له الدكتورة نادية باب شقة الخالة نجوى التي لم تعد شقتها ولا شقة الأسرة ولا شقته؟ لماذا تذكّر القش المحترق المتطاير في السماء، وهو يرى شعرها الأشعث والإيشارب الصغير الذي تخبّئ به نثرات شَعرها فوق جبهتها، فتتطاير خلف رأسها فوق كتفيها؟! لا يعرف، كل ما يعرفه أنه لم يحِب تلك الدكتورة، وأحس غربة تجاهَها، وخشي على شقيقه من جفائها البادي. رحّب به نبيل ترحابًا كبيرًا واحتضنه، فترك زين جسده وسط ذراعيه، يتمنى أن يخطفه خارج الشقة ليسمع منه لماذا اختار تلك السيدة؟ ولماذا تزوج تلك الزيجة؟ ولماذا قرر أن يعيش الوحشة، ويغلق أمام قلبِه وأيام حياته أبواب الرحمة والفرحة؟ لكنه لم يقوَ على أن ينطق. تسللت الدكتورة إلى الكنبة الكبيرة بجوار زوجها، وكأنها تقول لهما معًا، أنا هنا معكم.. أنا هنا مع نبيل، وأنت مجرد ضيف، وإن طالت جلستك، ستتحتسي قهوتك، وتطمئن على صديقك زوجي، وترحل! أحاسيسها الباردة وصلته، وعدم ترحابها به من أعماق نفسها نغزَه في قلبه، وتمنى لو يرحل سريعًا وينهي تلك الزيارة الموجعة. همس له، وهي تجهز الشاي – ليه يا ابن الكلب؟! ابتسم نبيل يائسًا – كله محصّل بعضه! وقبل أن يلكمه في وجهه حانقًا عليه، دخلت نادية بالشاي والكيك والطقم الصيني الذي طالما تمنت الخالة نجوى أن تُخرِجه يوم فرح نبيل، يوم الفرحة الكبيرة، لكنها ماتت، وبقي في الأدراج حبيسًا حتى استعملته نادية بلا فرحة. احتسى زين الشاي بسرعة وودّعهما ورحل. على بسطه السلّم التي طالما شهدت قربهما كاد يبكي، هي شقّت صدريهما، ومزقت الحب والقرب بينهما عن عمدٍ قاصدة، تختطف صديقه وأخاه من حضنه، وتزرع شوكًا وحنظلاً .. تمنى لو أحرقها فرحًا مثل اللنبي، وأحس بعض الفرح وهو يتصورها تحترق وتصرخ، وخجل من نفسه، وترك البناية حزينًا. باعدت نادية بين زين ونبيل، الحقّ أنها باعدت بين نبيل وبين كل حياته السابقة، وكأنها قررت أن تحتل كل تفاصيل حياته منذ ولِد وحتى يموت، دَعتها فردوس لزيارتهما للاحتفاء بها وبزواجهما، فاعتذرت لأنها لا تقوى على ترك عملها. اتصل بها وصفي يخبرها برغبته في زيارتها والمباركة لها بالزواج الميمون، فأعطته ميعادًا مستحيلا، في الرابعة مساء قبل نزولها؛ لأن عندها عيادة، ولا تعرف متى تعود! ففهِم رسالتها، وأرسل ل نبيل مظروفًا به "نقطته"، وصمت وابتعد! نهر وصفي فردوس وقت أن بكت لأن الدكتورة خطفت نبيل، نهرها وأفهمها أنهما موجودان، وسيظلان، وحين يحتاجهما نبيل سيجد حضنهما الدافئ مفتوحًا، وأحسها تشبِه قوات الاحتلال الإسرائيلي التي هددت مدينتهم، فهجّرتهم منها، لم تحتل المدينة، لكنها هجّرت أهلها منها. هي الدكتورة نادية كالاحتلال الإسرائيلي هجّرت نبيل من حضنهم، أو تسعى لهذا، ويتمنى ألا تفلح. (30) يسيران أمام المحطة صامتين، يدخلان من بوابتها العالية تحت الساعة الكبيرة، هي لحظة وداعٍ مثل كل لحظات الوداع التي عاشاها معًا، وعاشها كل منهما وحدَه، زين ينتظر القطار الذي سيحمله لمدينته في أجازة قصيرة، يعود بعدها لكليتِه الصارمة، ونبيل معه في المحطة يودّعه، يودّعه ويبحث عن القطار الذي سيعود بأبيه لحضنه، يسيران صامتين، يعرف زين وطأة لحظات الوداع على نبيل، ويعرف نبيل أنه يعرف، فيصمت لا يشكو له ما يشعر به، ولا ما يوجعه، فما الذي ستفعله الشكوى وإظهار الوجع في واقعٍ قاسٍ يعيشه، وذكريات موحشة تطارده؟ يقفان على الرصيف ينتظران القطار القادم بعد عدة دقائق، كما تقول الإذاعة الداخلية للمحطة، يقفان صامتين. حَر الصيف حارق، والذكريات أيضًا، في صيفٍ بعيد مثل هذا الصيف، وقف نبيل على الرصيف في قبضة أمّه، ينتظر أباه العائد من بعيد، واليوم يقف ليودّع زين، وما بين الانتظار واللقاء، والانتظار والوداع، يجري الوقت ويوجعه. صامتٌ يحاول أن يتذكر وجه أبيه بصعوبة، كان يأتي لأجازاته فيحمله للسماء، ويجلِسه على ركبته، ويقص عليه ما يعيشه في الأيام التي يرحل فيها عن البيت. يقص له عن الصحراء، وأكل الثعابين، والنصر الذي سيحققه هو وكل زملائه، يتذكر وجه أبيه بصعوبة، وحين يقبض على بعض ملامحه تفِر منه العينان غائبتين غائمتين، يتذكره نبيل ويتمنى معجزة من السماء، معجزة تعيد الحياة لأبيه، وبَرقيّة تصِل لأمّه تهنّئها بسلامته، وتخطِرها بميعاد رجوعه، يومَها ستحمم نبيل وتلبِسه أكثر ملابسه أناقة، وتَسحبه من يده لرصيف المحطة ينتظران القطار العائد بالحبيب، لكن السماء تضنّ على نبيل بمعجزاتها، لن يعود أبوه، ولن ينتظره بفرحة على رصيف المحطة، ولن تشتري له أمّه الفشار الساخن وزجاجة العصير، السماء تضن عليه بمعجزاتها! الآن هو هنا على نفس الرصيف، يودّع زين العائد لمدينتِه، أحس حقدًا على زين الذي يحِب مدينته التي قست عليه فلم يقسُ هو عليها، ولم ينسَها، ولم يخلعها من قلبه، أحس حقدًا على زين العائد لحضن أمّه الطيبة وصحبة أبيه الحكيم، عكسَه هو، لا يحِب المدينة التي لا تمنحه إلا دموعها، حانقٌ على أمّه التي أوصدت أحضانها الباردة في وجهه، غاضبٌ من أبيه الذي رحل وتركه يتيمًا صغيرًا! هو على نفس الرصيف، والقطارات تتسارع أمام عينيه، لكنها لا تأتيه بالفرحة، بل تمنحه حزنًا دفينًا، وهل هناك لحظة أكثر وجعًا من أن تمزق القطارات روحَه وتحمل زين بعيدًا عنه؟ وكأن كل الحزن الذي تجرع سمّه سنواتٍ طويلة لا يكفي! يتمنى لو سأل زين البقاء، لو سأله أن يؤجل زيارته للمدينة وأهلها لأجازته القادمة، لو سأله سيبقى معه، لكنه لن يفعل، وكلها دقائق وإن طالت سيرحل زين للقنال والبحر، ولمدينة المقاومة، ول عم وصفي، سيتركه ضائعًا وسط زحام المدينة وأبواق سياراتها الصاخبة، يبحث عن سَكينة تهدهد روحَه. يتركه وحيدًا بعد أن بدّد وحدته سنواتٍ طويلة – هو يعني لازم تسافر يا زين؟ يسأله نبيل، فيبتسم زين برِقة – عمّك وصفي، وخالتك فردوس يموّتوني لو ما سافرتش يصمت نبيل – والحق كمان، كل حاجه هناك وحشتني، أجازه قصيره وارجع جري، المره الجايّه حاقضي الأجازه كلها معاك يبتسم نبيل ويصمت، لكن الحزن يلوّن ابتسامته بزرقةٍ كئيبة يعرفها زين، لن – ما تيجي معايا انت همس زين، فانتعشت روح نبيل، سيسافر معه ل بورسعيد، ول عم وصفي، وللخالة فردوس، والتراسينه، سيسافر معه ويسرق بعض لحظات البهجة والدفء العائلي والونَس، سيسافر معه ويشحن روحه ببعض الحنان فيقوّيها لتتحمّل ما يعيشه من خرسٍ ووحشة في البيت المسكون بالحزن. وعلَت صافرة القطار، وصعد زين للعربة وهو يسحب نبيل من ذراعه ليسافر معه – حنكلّم خالتي نجوى لما نوصل ونطمنّها عليك، ويا ريت هي كمان تحصّلنا، دول يومين مالهمش تالت. وجلسا متجاوريْن صامتين في القطار، كالعادة يسحب زين نبيل من ذراعه لينتشله مما يوجعه في اللحظة المناسبة .. ويعلو صوت البيانو من كازينو بالاس يخيّم على أرواحهما المحلّقة نحو السعادة لبعض الوقت. (31) اقترب من رأسِه، ومرّر أصابعه على شعره، وكأنه صغيره النائم ببراءةٍ وطمأنينة. سَحب مقعده واقترب من الفراش، جلس صامتًا وكأنه يحصي الأنفاس الصاعدة البطيئة، كأنه يخاف أن يغفل عنها فتتوقف. اقترب أكثر بجسدِه من الجسد المسجّى على فراشِه موصولا بالأسلاك والخراطيم والشاشات "أنا عارف انك سامعني يا زين" همس نبيل "انت سامعني" يبحث عن أصابعه مدفونة تحت الغطاء، يقبض عليها "لو سامعني دوس على صباعي، ارمِش بعينيك، اّديني أماره انك سامعني" يصمت وينتظر أي إشارةٍ يمنحها له الجسد لتطمئنه، لكن الجسد يبقى ساكنًا. "أعرف أنك تسمعني يا زين، مثلما اعتدتَ أن تسمعني دائمًا، أعرف أن قلبك معي، وروحك أيضًا، لا أظنك بحق غاضبًا مني، مثلما ادّعيتَ الفترة الماضية، كنتَ غاضبًا مني حرصًا علىّ، رافضًا اختياراتي، حاولتَ أن تثنيني عنها، وحأولت أن أجاريك لتصمت، لكنك لم تصمت"! يهمس نبيل في أذُن زين، يتمنى أن يفتح عينيه ويصفح عنه، يطمئنه أنه لم يعد غاضبًا منه، وأنه صالَحه، وأنهما كانا، وما يزالان أخوين، لكن زين ينازع الموت ويصارع الحياة ليبقى، لا يملك الآن في هذه اللحظة ما يستطيع أن يطمئن نبيل به. ما يزال جالسًا بجواره، وشفتاه في تجويف أذنِه، وأصابعه تقبض على أصابع زين "اوعى تموت يا زين.. اوعى تموت"! يحدّق نبيل في الشاشات، الضغط والنبض، وكل شيء مطمّئِن، لكنه لن يطمئن إلا إذا فتح زين عينيه، وعرف أن نبيل بجواره، وأنه تخلّى عن حياته التي طالما تشاجر معه ليَخرج منها ويرتدي جلدَه وتاريخه وحياة أبيه.