البشارة: في المدي المتوج بجغرافية الحدود الإنسانية، ولأننا نكون عادة حيث لانوجد، ولبعد المسافة بين قرية الطرانة ودير الملاك ميخائيل بأخميم، لذا نراها - تلك المسافة- تزدحم بهيلاهوب الأبدية وأوزير وحتحور وسيدي الأربعين وست دميانة ومارجرجس والسيدة زينب وترتيل الشيخ رفعت وأيقونات الكنيسة المعلقة المائة وليلة القيامة. كان الطفل صاحب النية الحسنة يدفعونه من ظهره وهو مايزال يتعلم الخطو (لم يكن القلب لحظتها قد أمضه الشوق). كان يصعد سلالم الدير في أخميم فوق الجبل الذي نحته الأولون، والذين لاذوا به يوماً من غدرات النهر. كان الطفل يستدعي الأغنيات ويتجاوز (العتبة النقية للبيت العتيق) عندما أخذه الأب صاحب اللحية الهائلة، والثوب الأسود المريح صاحب الجلال في حضنه ليسمع تراتيل العماد: (في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية وعلي وجه القمر ظلمة وروح الله يزف علي وجه المياه وقال الله ليكن نور فكان النور). عند ذلك رأي الطفل من طاقة الضوء نوراً من حمامات بيضاء ترف بأجنحتها في الفراغ، قادمة نحوه. لم يكن للرفيف صوت، ولم يكن للحمامات علامة لغيره. كان مشدود البصر إلي حيث تكون وقد اتسعت عيناه عن آخرهما مشيراً بيده صارخاً: - الحمام. ولما لم تشاهد عائلته شيئاً مما يراه صرخ جده ووالده وأمه وخالته وديدة في صرخة واحدة: - هذا الطفل مبارك واشهدوا علينا أنه يحمل البشارة. ثقب في الضوء: تصعد سلالم المنزل رقم 45 شارع أحمد حشمت بالزمالك، ولهذه السلالم جسد أمسك به حين الصعود. بيت أليف لايقلق راحتك إلا لحظة أن يواجهك بواب فتوة يسألك عن وجهتك، وبعدها ترتقي سلالم من رخام، وتري أبواباً دائماً مغلقة علي حيوات مجهولة. مرة انفتح الباب ورأيت سيدة من أصول شركسية. كانت جميلة من غير حد، تضوع من بيتها مسك الغزلان، ولما أخذني الحسن توقفت أتأملها بولع وعندما لاحظت إصراري علي التحديق فيها ابتسمت ودعتني: اتفضل. لكني وبسبب ما ورثته من جين أتاني عبر سلالة من فلاحين بلغ بهم القدم أرذله، واصلت الصعود. تقف أمام باب في لون قشر البندق. علي واجهته كلمات بخط اليد "سلوا تعطوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يفتح لكم".. ثم اسم من كلمتين إدوار الخراط... حسن... ليكن. بيت يقف في قلبي كنيسة صمتي. أستعيده كل صباح خلال الحلم. ينشغل رأسك قبل الضغط علي الجرس بمخزن الكتب في الداخل وتجد نفسك تهمس: "كل شيء بالداخل يتنفس بالضرورة". تري من العين السحرية ثقباً من الضوء فتتأكد في اللحظة أن الرجل ينكفيء علي مكتبه. ستون عاماً من الإنكفاء الطويل.. صبر أيوب.. تقول: سلام علي مخزن الكتب.. ليس بشهر، ولابيوم، ولا بساعة لكنها تلك السنين. تضغط علي الجرس فيصلصل صوت البلبل وتفتح لك المدام بطيبة أهل الله: يا مرحبا اتفضل. تدخل إلي مخزن الكتب فتري علي الجدران أقنعة من خشب أفريقي، ورفوفاً صفت بدوائر معارف، وكتباً علي الأرض وحتي السقف،... من يقرأ هذه الكتب لابد أن يجن... صور عارية لنساء رينوار.. أيقونة لوجه المسيح، وآية بالخط المغربي من الذكر الحكيم، ونحت لوجه صيني حكيم، وجواد صامت مقطوع الأذنين لأحمد مرسي وملفات تحبس أعمار الكتاب عليها تراب السنين وغبرة الأيام كانت فيما مضي شابة، الآن بلغ منها الوهن وشاب منها الرأس، وآخرون في ملفات جديدة يبدأون السير في طريق الحلم. الحجرة تطفو أمام عينيك بمصباحها الشاحب وكأنها كلمات "رينيه شار" بمعجزة أخذت تطفو، ثم شيئاً فشيئاً تمددت إلي مساحات الشعر الواسعة -تصعد موسيقي "باخ" من مسجل لم أعرف مكانه أبداً بالمتتالية الأولي للفلوت. - أين الرجل؟ تسأل بعد صمت. لاتجده لكنك تحس أنفاسه. تندهش عندما تصعد لك من بين صفوف الكتب علي أرضية الحجرة ضحكات صغيرة معابثة لشيخ في السبعين وطفل ابن عامين يلعبان سوياً في صفاء نادر حيث تتدفق الضحكات كماء النبع، عند ذلك تثوب إلي رشدك وتتأكد أن صائد الأحلام في لحظته هذه يلعب مع حفيده الصغير مثلما يلعب الأطفال أحباب الله. زيارة قصيرة لبلد غريب: "من هذا القادم يدق باب البيت؟ باب مفتوح، ندخله باب مغلق، معتكف نبض العالم يخفق خلف بابي منتصف الستينات أو يزيد بالقليل من الشهور. تلك سنة الله.. والزمن دورات تنقضي فتترك في القلب الضني والحنين. جماعة ممن يحاولون الحلم العصي. ابن بابك يقول شعراً: إذا عصي الحلم جعلت الهوي رباً وإن لم يكن معبوداً نثار من أعصاب حية، وحزم من متاهات بلا دليل. مدينة قطعة من مرج، ومن ضوء المساء وأقدام تبحث للتعرف عن البدايات، وغرق مطلق في معارف قديمة وكتابات قديمة شاحبة تدور في خوائها، وإنتاج أدبي فقير في زمن بلا إنتاج. شاعر العامية المصرية نصر أبوزيد وشعراء الفصحي: محمد صالح وفريد أبوسعدة وأحمد الحوتي. والناقد الكبير الذي جاء يسعي من العاصمة حيث يتلقي الدرس ويعشق صلاح عبدالصبور، ويتكلم بلغة غريبة ومصطلح غامض. وقصاصون علي فيض من الله يكتبون: محمد المنسي قنديل وجار النبي الحلو والفقير إلي الله ورمضان جميل. تقرأ قصصاً غريبة تنشير في مجلات متفرقة لكاتب مجهول لدينا تماماً إسمه "إدوار الخراط". منذ البدء تعرفنا أن تلك الكتابة ناقلة تفتح الأفق علي نص بديل، وعلي زمن آخر ينتج شروط الكتابة، تضاعف المعرفة وتنأي عن تثبيت الواقع الذي يدور في خوائه. صرخت: - تراهنوني أجيب لكم إدوار الخراط المحلة. نظروا إلي صامتين وعلي شفاههم بسمة ساخرة. عزمت، وتوكلت وأخذت معي قطار الظهر يوم الأربعاء. كان يجلس في دار الأدباء علي مقعد من الجلد ويضع بجانبه حقيبة ويرتدي سترة من قطيفة وشعره قد خف من مقدمته ويطلق سالفين حتي أسفل خديه. كانت الدار صاخبة وكان أمل دنقل يقف في المنتصف تحت الضوء إدوار كان وحده الصامت داخل دائرة الضجيج. سلمت وكنت قد نشرت بعض القصص وعنده عرفته بنفسي اندهشت لأنه يعرفني. عرضت عليه الدعوة فوافق وفي اليوم التالي سافرنا وكان بصحبتنا إيهاب ابنه الصغير آنذاك. هنا في مدينتنا تعرفنا عليه أكثر وأحببناه أكثر. ومن يومها لم تنقطع تلك الصلة. ذهبنا إلي قريتي، وسرحنا إلي الغيط. كانت تربط القرية بالمدينة مركب بجنزير. كان إدوار يقف بجانب البكرة يحدق في سحاب ملون بشفق غارب. نظر ناحيتي وقال: هل تري؟ أجبته: ماذا؟ قال: لون الشفق؟ قلت: ماله؟ ابتسم وقال لي: إنه وجود مكثف. لم أفهم إلا بعد زمن طويل أن الكتابة لدي هذا الرجل هي الوجود المكثف. السكندري: مع أن الأسكندرية عندما تراها الآن لاتستطيع إلا أن تطلق عليها عبارة :وكومة من الخردة"، ومع ذلك هي عند هذا الرجل حالة أخري.. عاصمة الدنيا ويستأذن العالم. من أين يجيء الخراط بمدينته الأخري تلك المتخيلة؟ من الحلم؟ أم من ذلك الماضي الذي جاء ثم رحل لايلوي علي شيء؟ أم يأتي بها مستعينا بأزمنة مختلفة؟ استضافني والناقد محمد برادة لأيام بمدينة الأسكندرية. وكنت خلال الطريق ألاحظ وأنا أتأمله حالة من الشرود وبعض الاكتئاب الصامت وكأنه دخل إلي صندوق لانري مع يعبر عنه سوي نظرة شاردة تلوح من تحت زجاج نظارته السميكة. ما إن لاح أمامنا البحر حتي رأيته ينتفض ملوحاً بيده ومشيراً إلي هناك وقد أرتفع صوته بكلمات إيلوار "عندما تلتقي قمم سمائنا سوف يكون لبيتي سقف". فجأة... غادره الاكتئاب، وانقشع عن وجهه فردوس القاهرة الملوث. وأحسست أنه بدأ يعيش ألفة البيت الملاذ. وبدأ يحكي لنا وقد انفك لسانه عن زمان ومكان هذه المدينة الخرافية: هذه اللوكاندة ارتبطت بها منذ الأربعينات. هنا عرفت أول لحظات اللقاء العاطفي والروحي، واكتشفت أن حياتنا تكونها تلك اللحظات الصغيرة النادرة. وتلك حارة الجلنار. وهذا شارع رشدي.. كانت به سلالم حجرية يقف عليها في المساء أبناء الأسكندرية. وتلك المقهي كان يجلس عليها كافافيس ويتأمل الحارة في صمت.. هذا الميدان كان محاطاً بالتخيل الملكي.. ومكان هذه العمارة كانت فيلا يسكنها رودلف متري زميلنا... وعلي سطح هذه البناية طاردت الطيور المهاجرة وقرأت كيتس وشعر الرومانطيقيين الذين أضنوا القلب وعذبوا الروح، ومضوا.. اسكندرية بلد الغواية وسؤال الصبر ومكابدة الحياة للموت... اسكندرية التي لاتبيد. ليس من سمع كمن رأي وعاش. وللخراط قدرة علي الحلم لأنه يقول من زمن قديم عن ساحرته تلك: "مهما كانت كثيرة فهي واحدة، ومهما كانت عارضة خاطفة فهي أبدية كيف أقاومها؟ إنسانية: غبت عن القاهرة لظروف خاصة بعض الأيام. عندما عدت اتصل بي ستة أصدقاء: - إنت فين ياجدع؟. إدوار قلقان عليك واتصل بيسأل عنك. عندما اتصلت به أحسست بصوته يزغرد بالفرح. إنسانية.