من رواية دموع ملونة على جناح النورس الأديبة والإعلامية الكبيرة/ أميرة بهي الدين (19) شرح له زين.. "ما أزال أذكر كل تفاصيل تلك اللحظة، رغم صِغر سني وقتها، لكني ما أزال أذكر كل وجعها، عندما تتحول حياتك لحقيبة سفرٍ بالية محشوّة بتفاصيل أيامك، عندما يتحول بيتك لصورٍ في خيالك تذكّر نفسك بها كل يوم خوفًا من أن تفقدها فتضيع وتنقطع صِلتك بالأرض والطمأنينة للأبد. "لا تغلِق الباب، سوف نعود"، عبارة يردّدها مهجّري الحرب، بمنتهى الرضا، وهُم يودّعون منازلهم وأرضهم وذكرياتِهم. يقص زين على نبيل، وهُما جالسان على سطح العقار القديم الذي يتجاوران سُكنَى دورِه الثالث والأخير، يقص عليه ما عاشه وما يذكره، سنوات طويلة قضياها معًا، منذ طرقَ العمّ وصفي باب شقة السيدة أمّ نبيل في نهاية الستينات، وأخبرها أنه جارهم الجديد، وأنه ترك بيته وحاله وماله في المدينة الباسلة خلف ظهره؛ لأن الأوغاد لا يقوون على الجيش، فيجتهدون على المَدنيين، وكان لا بدّ من الهجرة وتركِ البيوت والأرض والمدن خاويةً إلا من حُماتِها لتخفيف الضغط عن الجنود والضباط والقيادة السياسية المنشغلة بتأمينهم أكثر من انتباهها للحرب الدائرة ضروسًا لا تنقطع، كان لا بدّ من الهجرة حتى لا ينشغلوا بنا وبهمّنا، وكفاهم المعارك التي لا يكفون عن خوضها، والحرب الدائرة بقوة وعافية، حتى لو كانت القاهرة وقاطنوها لا يعرفون بحقٍ أبعادَها ومعانيها، وحتى لو كانوا منشغلين بأسئلة سوفسطائية عن ميعاد الحرب التي لا يعرفون أنها تدور بالفعل! أدركت نجوى أن جيرانها الجدد من أهل المدن التي قُدّرت عليها الحرب، وفُرِض عليها دفْع الثمن الغالي، أوضح لها العمّ وصفي أنه ترك بيته خلفَه مفتوح الأبواب والنوافذ، لا يخشى سرقته، ولا احتلاله بالحيوانات الضالة، ولا تلف مفروشاتِه، ترك خلفَه الأبواب مفتوحة لأنه سيعود. ابتسمت ودَعَته لاحتساء القهوة معها، وعَدها أن يأتي في يومٍ آخر بعد أن تعود زوجته من السوق، ويعود ابنه من المدرسة، ومن ثَم يلتقون جميعًا * ودي أيام صعبه يا مدام، لازم نحط ضهرنا في ضهر بعض، ونتسند على بعض ونعدّيها. يعرف قصتها، ولأنه يعرف قصتها قرر ألا ينتظر حتى تعود زوجته وتطرق بابها معه، قرر أن يبادر بالتعارف ومدّ الأيدي الطيبة للقلوب المنهَكة، قرر أن يقتحم حزنها وعزلتها، وسرعان ما سيعتبرها أخته التي لم تلِدها أمّه، وستعتبرها فردوس شقيقتَها الصغيرة التي تشبِهها تمامًا، يعرف قصتها، قالوا له إن الشقة التي استأجرها، أمام شقة حرَم المقدّم الشهيد. تمتم العمّ وصفي بكلمات لا نعرفها، وكأن الشهداء يطاردونه من شوارع بورسعيد لشوارع العبّاسية، كأنه لم يكتفِ من الشهداء ووجع القلب والروح عليهم، فينتقي مِن بين آلاف الشقق والبنايات، هذه العمارةَ القديمة العريقة، ويستأجر الشقة رقم (5) التي يجاورها على نفس البسطة الشقه رقم (6) التي تعيش فيها السيدة أمّ نبيل حرَم المقدّم الشهيد! زين.. آخر عنقود أولاد عمّ وصفي، وخِلفة الشيبة، تصوّر عمّ وصفي والسيدة فردوس، بعد أن دخل أصغر أبنائهما الجامعة، ودخلت فردوس عتبات الأربعين، تصورا أن الحب العميق بينهما لن يثمر إلا فرحة، لكن رحِم الست فردوس احتضن فرحة أكبر، فأخبرت زوجها خجلَى بأنها حُبلَى ولا تعرف ماذا تصنع! هل قال لها العم وصفي وقتَها إنه كاد يطير من الفرحة؛ لأن أولاده كبروا وخرجوا من تحت جناحه، فكاد يشعر بأنه لا قيمة له في الحياة، وإنه كان يتمنى ذلك الجنين ليمنحه رسالة جديدة وأملاً جديدًا، ومعنى جديدًا لحياته؟ احتضنها، وانهال عليها بقُبلاته فرحًا بالهِبة التي منحها له المولى القدير، وسرعان ما أتى زين بوجهه الجميل، وملامحه المنمنمة، وابتسامته، ليسعد قلب عمّ وصفي وزوجته الخالة فردوس، أحسّاه لعبتَهما الجديدة في الحياة.. وصار زين زينةَ حياتِهما وفرحة أيامهما. وقبل أن يعرف زين معنى المدينة الباسلة، وقبل أن يسمع من أبيه أساطيرها وأسرارها وانتصاراتِها الغالية على إسرائيل، وقبلها إنجلترا وفرنسا، وقبل أن يتعرف على أبطال المقاومة الشعبية، أصدقاء أبيه وأحبابه، قبل أن يفهم أي شيء، جَمعت السيدة فردوس ملابسَه وألعابه الصغيرة في حقيبةٍ بالية، وأخبرته أنهم مسافرون! ترك زين المدينة الباسلة خلف ظهره، وتوجّه صوب العاصمة الصاخبة، القاهرة المزدحمة المتوترة، المدينة المهزومة التي أدمن أبناؤها الصخب مواراة لأوجاع قلوبهم ومرارة الهزيمة التي كسرت فرحتهم. وذاق عمّ وصفي وأسرته الأمرّيْن في القاهرة، تنقلوا بين أحياءٍ وشقق كثيرة، أحياء يكرهونها لبرودتها، وأحياء يعجزون عن التواصل مع أهلها المتربصين بالغرباء المتلصصين على أحوالهم! مدينة يملأ قلبَها الشك تجاه الغرباء، وكأنهم أعداء فروا من جبهة القتال ينوون بأهلها شرًا! تنقّل عمّ وصفي وأسرته بين شقق كثيرة، حتى استقر به المقام في العبّاسية، شقه رقم (5) أمام شقة رقم (6) التي تسكنها السيدة حرَم المقدّم الشهيد. تفاءل عمّ وصفي بالشقة والعقار القديم، ذكّره ببنايات الشوارع التي يحِبها في المدينة الباسلة، البنايات صاحبة التاريخ التي بقيت آثار أقدام قاطنيها ومحبيها عالقة على درجات السلالم القديمة، التي ما تزال آثار الأصابع وقبضات الأكفّ على درابزين السلالم الخشبية المتآكلة، أحَب عمّ وصفي البناية القديمة والحَي، أحسه حميميًا عريقًا صاحب تاريخٍ مثل مدينته الباسلة وشوارعها التي تحكي وتقص عن التاريخ الذي عاشته، أحَبها في البداية، وحين عرَف أن شقته تحمل رقم (5) تفاءل خيرًا؛ لأنه ذات رقم شقتِه التي تركها وبابها مفتوحين ينتظران عودته، وحين عرَف أن جارته حَرم المقدّم الشهيد ابتسَم وعرَف لماذا قادته قدماه لتلك البناية، عرَف أنه يحمل على كتفيه دَينًا لتلك السيدة وأسرتها التي لا يعرفها، لكنه سيعرفها، هي دفعت الثمن الغالي من أجل التراب الغالي، وعليه واجبٌ صوبَها وصوب أسرتِها، يعوّضهم الفقد والوجع واليتم والغياب، يعوّضهم الوحدة والعزلة والانكسار الذي يعيشونه، لا يدرك مَن حولهم فداحة الثمن الذي دفعوه. "ومَن يقوَى على أن يعرف أكثر مني أنا؟! أنا الذي حملت الجثث الساخنة لمثواها الأخير، ولقّنتهم الشهادتين، وربطت رؤوسهم بمناديلَ طويلة مزقتها من قمصاني وملابسي الداخلية، أنا الذي شاهدت الرجال يحلّقون صوب الفخر، ويعتلون فرس النبي صوب السماء، ويأتون ببطولات انتحارية يممحون بها الحزن مِن على وجه الوطن، ويمحون الهزيمة من سجلاته العسكرية، أنا الذي دفنت الأحباب أكثر مَن يشعر بحزن الثكالى والأرامل والأيتام، تعالوا أقص عليكم كيف كانوا الأحرار والشرفاء الشهداء يسعون للموت ببطولةٍ واستبسال، وكيف كانوا يموتون فرِحين بابتساماتٍ تنير الليل الحائل فجرًا حانيًا، أنا أكثر مَن سيشعر بها تلك الأرملة الوحيدة الحزينة، وابنها الصغير الذي صار واحدًا من أسرتي وهمّي، وصارت هي واحدة من دمي ولحمي. أدرك ابن المدينة الباسلة أن ديون الشهداء تطارده، وستظل تطارده حتى بعد أن تصوّر أنه هاجر من مدينته للعاصمة ليعيش فيها الأيام الضرورية حتى يعود لبيتِه بعد أن تُرفَع رايات النصر خفّاقةً على ضفتَي القناة. لكن الشقة (5) وأرملة المقدّم الشهيد أوضحا له أن العطاء مستمر، والحب أيضًا، وأن شهداء هنا هُم شهداء هناك، وأن الجميع مكلوم يدفع ثمنًا باهظًا حتى يتحرر الوطن من هزيمته ويمحو العار. * وأنا جاركم الجديد، عمّ وصفي، في مقام والدك يا ابنتي، وأنتي في مقام كل الأعزاء، وقلت أشرُف بكِ مؤقتًا حتى نتعرف جميعًا بحق. واجتاح الدفء قلب نجوى وحياتها، بعد أن هاجرت أسرة عمّ وصفي من المدينة الباسلة لجيرتها بعطاءٍ وحب، لم تتصور أن تصادفهما ولا أن تعيشهما بعد أن رحل الحبيب الغالي المقدّم الشهيد، وصار ل نبيل أخٌ اسمه زين، زين الابن الأصغر وآخر العنقود في عائلة العمّ وصفي، تائه بين أشقائه الذين يكبرونه، وشقيقاته الغائبات، لا يجد لنفسه مكانًا، طالما استشعرَ وحدة تعصف بروحه، رغم كل الاهتمام الذي يمنحه له الأب العجوز، ورغم كل القصص والحواديت، والأرواح وأصابع الموز وصواني الصيّادية التي يصنعها له بيده، ورغم رحلاته النهارية على شط القنال والذكريات التي يقصها عليه وهو يقبض على كفّه الصغيرة، رغم كل هذا ، بقي وحيدًا غريبًا، حتى التأمت روحه بروح نبيل، لم يتصادقا، بل صارا أخوين منذ اللحظة الأولى التي تعارفا فيها، احتل زين منزل نبيل ففرحت نجوى لأن ابنها اليتيم وجد مَن يؤنس وجوده وسط دوائر الأحزان التي يعيشها منذ رحل أبوه وتركه يتيمًا وحيدًا يعيش في عالمه الموصد مع ذكرياته الضبابية وخيالاته المقهورة عن أبٍ رحل، وإخوة لم يأتوا، وأمّ تبكي، وفرحة لا يعرف بحق مذاقَها، ويتصورها فلا يفرح! (20) وصوتٌ صاخب حطم رأس نبيل، فَتح عينيه فزعًا، حدّق في مريضه خائفًا أن يكون الصخب هو رحيل الروح التي ملّت الأسر في الجسد الممزق، لكنه ما يزال نائمًا أمامه، وكأنه يغرق في الأحلام الطيبة. ينتبِه نبيل فإذا بالكهرباء التي غابت ساعاتٍ طويلة عادت، والضياء يسطع فوق الجدران الخضراء، مادت الأرض تحت قدميه المتيبستين محتجزًا على الكرسي الخشبي الثقيل أمام الفراش الأخضر الذي يرقد عليه جسم يقاتل ليبقى محتفظًا بمكانه في الحياة. المولّد الكهربائي الذي كان يدير الأجهزة الموصولة بجسد زين انطفأ فجأة، فارتعشت الشاشات، وسرعان ما عادت لكفاءتها بعد أن حلّ التيار العمومي في الأجهزة بديلاً عن كهرباء المولّد التي دعا نبيل طويلا ألا تنفد فيموت زين. غرفة صغيرة باردة، على جدرانها لافتة العناية المركّزة ، ومصاب ينزف دماء فياضة من ثقوب كثيرة في جسده، يحاول نبيل معاونته ليبقى حيًا. غرفة صغيرة باردة على جدرانها لافتة العناية المركّزة تحتجز نبيل وزين، وصراع عنيف بينهما والحياة، من جهة، وبين الموت وملائكتِه، من جهة أخرى! يفتح نبيل عينيه ويحدّق في زين، ما يزال حيًا، ما تزال أنفاسه تتلاحق ببطء، وما تزال الشاشات تقرأ بعض علامات الحياة الباقية في جسده الممزق بشظايا ورصاص منهمر خرج ودخل، ودخل وخرج، ومزق جسدَه وروحه، وكاد أن يصِل بينه وبين المعبر الأخير ليغادر العالم الموحش، ويحل ضيفًا عزيزًا على الفردوس الأعلى، لكن نبيل أناني، لا يرغب في رحيل زين، ولا في تزيين صفحته بقلادة الشهداء، ولا في منح أمّه معاشًا استثنائيًا، ولا في تكريم أبيه في احتفال كبير، نبيل يمسِك بتلابيب زين ليبقى ويصارع الحياة، ويثأر لجروحه وإصاباته، بتطبيق القانون على القتَلَة المجرمين الإرهابيين المرتزَقة. يفتح نبيل عينيه ويحدّق في زين، يحدّق في الشاشات، يحدّق في اللمبة الساطعة في السقف بأشعتها البيضاء الباردة، يحدّق في الجدران الخضراء، ويتنفس الصعداء رغم كل قلقِه ورعبِه، يتنفس الصعداء لأنه أفلح في أن يبقي روح زين في جسدِه، وأن يسدّ ثقوب اللحم الممزق، ويوقف شلالاتِ الدماء الساخنة، ويؤجل رحيله ولو بعض الوقت "ستفلح يا نبيل.. ستفلح". منذ لحظة الهرج التي مزقت سكونَه في غرفته الصغيرة، وليلى تصرخ تناديه * يا دكتور نبيل.. يا دكتور وقتَها كان مستلقيًا فوق فراشه بروحٍ متعَبة بعد أن مات المصاب الذي حملته الطائرة الهليكوبتر من العريش لطاولة العمليات، أتى ممزقًا من دانةٍ ألقيت فوق جسده مباشرة، كان يكتب رسالة لزوجته، أتت معه بين أصابعه بلا معانٍ بعد أن أغرقتها الدماء وامتزجت مع الأسطر والحبر، وكتبت رسالة جديدة للزوجة والوطن والحياة. هبّ نبيل من فوق فراشه، وهرع مرتاعًا لغرفة العمليات، يصرخ * دم.. دم بسرعة يعرف ما الذي سيلاقيه في الجسد الممزق الذي حملته الطائرة في محاولةٍ لإنقاذه، وإن يمُت يمُت وسط أهله، بعيدًا عن الإرهاب المعشش غربانًا سوداء على الجبل الذي احتله أولاد الحرام * دم.. هاتوا أكياس دم ويجري لغرفة العمليات، يعرف تلك الملامح على مثل ذلك الوجه، إنها الروح التي رحلت وتركت جسدها يعاني ويتعذب حتى يتركه الأطباء وشأنَه، وحتى يسامحوه في الرحيل وينزعوا الأسلاك الموجعة من جسده الطيب الذي مات بالفعل قبل أن يلمسوه، يعرف نبيل تلك الملامح، الوجوه المعوجة، والعيون نصف المغلقة، والأنفاس ذات الرائحة الغريبة، والدماء اللزجة التي تنسكب من الشرايين والأوردة بلا إرادة في الحياة، يعرف تلك الملامح، هذا شهيدٌ رحلت روحه وامتطت فرس النبي، وتصعد الآن للسماء السابعة والفردوس الأعلى، روح رحلت وتركت جسدًا سيرحل بسرعة، بعد أن يعجز الطب عن أن يغيّر كتاب الأجل وميعاده، وبعد أن يعجز الأطباء، بكل عِلمهم وإصرارهم وحماسهم، عن أن يمدوا الجسدَ الذي رحلت روحه عن الحياة بالحياة، يعرف نبيل تلك الملامح، يبتسم، يقرأ الفاتحة، يتعقم، يمسِك مشرطَه وإبرة الخياطة وخيطها المعقم، يمزق الملابس المخضّبة بالمسك والعنبر، يمزقها بحثًا عن جسد يرغب في الحياة، لكن الملابس المخضّبة بالبطولة ترفض أن تترك صاحبها وتلتصق في عظامِه وتختلط بلحمِه وجلده، هذا كفني وهذا جسدي وسنرحل معًا، رحلنا بالفعل، وأنتم بؤساء تضيعون وقتكم وجهدكم، وتحاولون فيما لا يجدي. ورحل البطل الذي لا يعرف نبيل اسمَه، رحل والمشرط يبحث عن جرحٍ يفتحه ويطهره من الموت المحقق، والخيطُ المعقم يبحث عن جرحٍ يرتّق طرفه مع طرفه الآخر، رحل وصمت القلب، وكفت الرئتان عن الحركة، واستسلم الجسد لرحيله، وارتسمت ابتسامة على وجه البطل الذي تغيرت ملامحه وبسرعة، فتبدلت حاله من مصابٍ متوجع ينزف، لشهيدٍ بطل يُزَف على فرس النبي، وحولَه الملائكة، إلى عرش الرحمن. يبكي نبيل، وتبكي الممرضات؛ لأن البطل راح، يبتسم البطل لأنه في طريقه للجنة، لكنهم لا يعلمون. يخلع نبيل البالطو الذي كان أبيض ويغسل دماء البطل مِن على أصابعه، ويتسلل لغرفته الصغيرة يبحث عن بقايا الأحجار المسنونة التي تسكن جفنيه لتسقط دموعًا، يتسلل لغرفته ويطفئ النور ويمنّي نفسَه ببضع ساعاتٍ بلا حزن جديد، لكن أمنيات نبيل لا تتحقق، ولن تتحقق، قُدّر له أن يشهد لحظات الرحيل لجسدٍ لا يعرفه، وقبل أن تهدأ روحه وتلملم نفسها المبعثرة حزنًا على الأحزان التي تحاصره وتحتله، قبل أن يصالح نفسه على نفسه ويطمئنها أنه سينقذ المصاب القادم، مهما كانت شدة إصابته، وأنه بإرادة ربّه وقدرته سينتشله من الموت، سيعيده لزوجته الملتاعة فتعيد ملابس الحداد لخزانتها، وتغلِق عليها بقفل ترمي مفتاحه بعيدًا، سيعيده لأمّه العجوز فتدخر دموعها لتبكيها على أولاد الأخريات اللاتي يخترنّ الفخر ويردّعن شهداء للسماء ويتركن القلوب تحترق، والعيون تبكي دمًا وهمًا وحزنًا، ووجعًا لا يضاهيه وجع، سيعيده للحياة وللإرهابيين القتلَة يقتص منهم ويثأر لزملائه الذين فشل نبيل في أن يشد أواصر حياتهم لجذورها في الأرض الطيبة، فتركته وحلّقت في السماء، قبل أن تهدأ روحه، تَطرق ليلى باب الغرفة طرقاتٍ يعرف معناها، تهمس بصوتٍ جزع يخلع قلبه، ويحرك مشاعره التي ظنها ماتت منذ زمن بعيد * يا دكتور الطيّاره على وصول! ينتبه، وجعٌ جديد سيصل حالاً، دماء ومشرط وخيوط معقمة، وصراع مع الموت وتشبّث بالحياة، وتحدٍ مهني يطارده من فشلٍ لفشل، ومن رحيلٍ لرحيل، يهرع للساحة الخلفية للمستشفى، وهي خلفَه وبقيه زميلاتها وزملائها، يعلو صوت الطائرة في أذنيه، وسرعان ما تكاد رياح مروحتها الهادرة تخلعه من الأرض، تلقيه في الفراغ ريشةً تائه وسط الأعاصير، يسكن المحرّك، ويهرع نبيل والممرضات وعمّال الإسعاف صوب باب الطائرة، ويلقي نظره سريعة على وجه المصاب .. ويكاد يقفز من مكانه، وينسى أنه الطبيب المعالج، وأن حياه المصاب أمانة في عنقِه * زين ..! يصرخ بصوتٍ مخنوق يشق قلبَه بوجعِه وفزعه، وبسرعة تنقل الأيدي المدرّبة الجسدَ الممزق للنقّالة، ويجري عمّال الإسعاف ومعهم الممرضات، وأمامهم نبيل يهمس ل زين * الا انت، الا انت يا زين، حرام عليك اللي بتعمله فيّا، واللي حتعمله فيّا وفي نفسك. ويحدّق في قطرات الدماء تتناثر من جسده على الأرض، ترسم طريقه الذي لا يعرف نبيل بعدُ نهايتَه، وهل هو سكة السلامة وأم سكة الحسرة والألم؟! ويجري عمّال الإسعاف صوب غرفة العمليات وخلفَهم نبيل ودموعه تنساب على خدّيه رغمًا عن إرادته وقوته، تفضح حبه لصديق عمره الذي اختار أن يموت حسبما تصوّر نبيل على يدِه هو دون كل الناس، اختار أن يموت على يد صديق عمره * الا انت يا زين، مش حاسمحلك، الا انت! (21) طرقات الباب أعادت إليه بعض الانتباه، وحيدًا في حجرته الصغيرة في المستشفى ينتظر نداءاتٍ صارخة لتوقِظه لينقذ مرضاه. يعرف تك الطرقات الرقيقةَ، ويعرف صاحبتها، تحرّك مِن فوق فراشه بعد أن سوّى ملابس نومِه مرتبكًا، فتح الباب وجدها كالقمر وسط الليل الموحش، ابتسمت فارتبك، ارتبكت أكثر لارتباكِه، تمنّى لو يأخذها في حضنه، رحّب بها * اتفضلي همست * أنا جايّه أودّعك يا دكتور لم يفهم ما قالته * أنا مسافرة الفجر، وقلت ما يصحش أمشي من غير ما اودّعك * ليلى .. صرخ بصوتٍ هامس * مسافرة؟! مدّت أناملها الرقيقة لتودّعه، لا يفهم، ولن يفهم، بعد كل ما كان بينهما! هل ما بينهما كان ولم يعد؟ أسئلة كثيرة تدور في رأسه وهو يشاهدها أمامَه جميلة نضِرة، بعض الحزن يسكن ملامحها، نعم، بعض الحزن يسكن ملامحها، هكذا قرر، حزينةٌ هي لفراقه، أكيد حزينة، كأنها طعنته بخنجرٍ في قلبه، بل كأنها مزقت قلبَه قطعًا صغيرة، كأنها مزقته بأسنانها * ليه يا ليل؟ نظرت له نظرة عميقة تحمل كل الإجابات * أنت تعرف، أنا واثقة أنك تعرف، أنت تعرف لماذا أفِر منك، وتعرف أني أفعل ما يتعين عليّ أن أفعله سَحبت أناملها من كفّه الباردة، وأعطته ظهرها، وسارت بعيدًا عنه، وتركته مذهولاً على باب غرفته، غيرَ مكترثةٍ بما أصابه وكأنها أبدًا لا تعرفه، خطواتها تبتعد وتبتعد في الممر الطويل المظلم، وهو ما يزال ثابتًا مكانه خلف باب غرفته المفتوح لا يصدّق ما سمِعه ولا ما قالته له! من مكانٍ ما خفِي، لا يعرفه، يستشعر وجود زين، نعم زين هنا، يراقبه ويشاهد المشهد كله، يراقبه بنظراته الحادة التي يعرف وهجَها وقت أن يتملكه الغضب، زين يراقبه غاضبًا لأنه لم يهجر ليلى حتى هجرته، زين يباركها ويبارك اختيارَها الصعب، يشفِق عليها لكنه يبارك اختيارها، يراقبه زين بنظراته الحادة وكأنه يلومه على كل ما عاشه وما عرّض نفسه له، أين أنت يا زين؟ أين تختبئ وتراقبني؟ لماذا تلومني وأنت أعلمُ الناس بما أعيشه وما أعانيه؟ النظرات الغاضبة ما تزال تلاحقه، لا تمنحه عذرًا ولا مبررًا، يصرخ نبيل "أنت حرّضتها على هجري، أنت قتلتني، وهي أيضًا"! ويجري صوب الباب يلاحق خيالَها الراحل بعيدًا.. ليلي.. يتذكر لمساتِها الأخيرة وهي تودّعه، يقبض بأصابعه على راحة كفّه وكأنه يقبض على أناملها الرقيقة، ما يزال لم ينتبِه، نعم لم ينتبِه لقصاصةٍ صغيره تركتها في كفّه، لم ينتبه لها فلم يقرأها، بقي يحدّق في ظهرها وخيالها وهي تغيب وتغيب، غاضبٌ منها ومِن زين …وسرعان ما تَراجع داخل غرفته وأغلق عليه الباب، وتمنّى لو لم يكن في المستشفى، تمنّى لو كان في الصحراء ليصرخ عاليًا، يصرخ من أعماقه بكل الوجع والألم الذي اشتعل في روحه، وروحه تتركه يتلظّى بغيابها ويحترق ببعدها، وتهجره وتختفي، ويصرخ ويصرخ بصوتٍ محبوس لا يخرج من حنجرته "ليلي" … صرخ بصوتٍ مذبوح، ليلى.. ليلى.. ليل.. وتنهمر دموعه، توقِظه نادية وهي تهزّه هزاتٍ عنيفة "اصحى يا نبيل اصحى" تهزّه أعنف وأعنف، يفتح عينيه مرتعبًا، والدموع تنهمر منهما، يفتح عينيه ويغلقهما بسرعة، في فراشه بجوار نادية لا يريدها أن تشاركه الحلم، يكفيها أنها تشاركه الحياة كلها، إنه سِره الصغير الذي لا يشاركه فيه احد، لتأتيه ليلى براحتها وليبكي براحته. أغلق عينيه بسرعة وكأنه يُخرِج نادية من حلمِه رافضًا أن تشاركه لحظتَه الخاصة جدًا، تلك اللحظة التي ودّعته فيها ليلى وكسرت قلبَه وأدمته وأبكته، نعم وقت أن قررت أن ترحل وتتركه وتمضي، لحظتَها لم يبكِ، لكنه يبكي اللحظة كل يوم وكل ليلة! يغمِض عينيه ثانية؛ علّ ليلى تعود له وهو يقِظ مشتاق لعودتها ووجودها في حياته، لكنها ظالمة، ظالمة قاسية لا تزوره إلا في الحلم، وتأتيه بطوفان دموع ووجع يشعل أعصابه ألمًا، ظالمة هي الجميلة التي يعشقها واختفت بعد أن أكدت له أنها تحِبه وستحِبه للأبد، لكنه يتعين عليها أن ترحل من أجل نورة التي تحِبها، ربما أكثر منه، هجرته من أجل نورة، وتركته يتلظّى بحرمانه منها حانقًا على نادية زوجته؛ لأنه تزوجها هي، ولم يتزوج ليلى؛ ولأنها أنجبت له وحيدتَه نورة ولم تمنح ليلى فرصة لإنجابها فتصبح حبيبتَه وأمّ ابنتِه، نادية سرَقت منها الأمومة، ولم تترك لها إلا الحب، ليلى التي اجتاحته بحبّها فتعلّق بها وعشقها، وتمناها زوجة، وكاد يطلّق زوجته لأجلها، ويشرّد نورة لأجلها، كاد وكاد، قرر واختار، صمّم وتهوّر، لم يكن أحد في الحياة يفلح في أن يثنيه عن اختياره إلا هي، نعم هي التي كسرت إرادته، وهجرته وهي تحبه من أجل نورة التي كاد يضحّي بأمانها من أجل حبّه "عجزتَ عن الاختيار يا دكتور، فاختارت هي" همس زين في أذنِه "ليلى اختارت الرحيل، وأنت اخترت الكوابيس والبكاء، وليدفع كل منكما ثمن اختياره". ما يزال صوت زين يرن في قلبِه، يتذكره حانقًا عليه، وحانقًا على ليلى، وعلى نادية، وعلى الحياة كلها، يعرف كل ما قاله زين، وما لم يقله، ورغم هذا يتمنى أن تعود، وليذهب العالم كله للجحيم "حتى نورة" ؟! يسأله زين، فيغلِق عينيه بقوة، وكأنه يُخرِسه ويخرس صوته الذي يلاحِقه باللوم والغضب. يغمض عينيه ويتمنى أن ينام، لتعود له ليلى في الحلم، حتى لو كانت عودتها موجِعة،حتى لو كان رحيلها المتجدد في كوابيسه وكل لياليه موجعًا أكثر، لكنه يتمنى أن يراها ولو ثواني قبل الرحيل. أغمض عينيه وصمت تمامًا، وانزلق تحت الغطاء، وأعطى نادية ظهرَه، وأعطى زين ظهره أيضًا، أغمض عينيه أكثر وأكثر وانتظرها، انتظر ليلى أن تأتيه في الحلم مثل كل ليلة. (22) على سطح العقار القديم الذي يسكنان معًا في دورِه الثالث، ومنذ سنواتٍ طويلة، حدّقا في بعضهما البعض بنظرات وداع، وأدركا أن هدنة الطمأنينة التي اختلساها من الزمن الصعب قد انتهت! حزنٌ كبير يداهمهما ويؤرقهما، خلال أيام سيعود وصفي للمدينة الباسلة، وتفترق فردوس عن نجوى، وتغلق الشقة التي لم يغلق بابها كل تلك السنوات، وتعود نجوى لوحدتها، ونبيل لعزلته، ويعود وصفي وفردوس وحيديْن دون كل فروع شجرتهما للمدينة التي حاربت فهجّرت أهلَها خوفًا عليهم فشتّتتهم، وكبرَ الأبناء بعيدًا عنها وعن حضنها، فلم يعرفوها مثلما يعرفها وصفي، ولم يحِبوها مثلما أحبها، ولم يطربوا لنغمات سمسيماتها وسهرات الأنس على شط القنال وفي السعيدية مثله. صار الأبناء غرباء عن المدينة وعن وصفي، فقط زين الذي لم يعِش فيها إلا قليلا، يتمنى أن يعود لها ليحارب مثل مَن حاربوا، ولينتصر مثل مَن انتصروا، وليستشهد على ترابها متشبثًا بوجوده فيها، فتهجيره مبكرًا شدّ وثاق روحِه لأرضها، وبات الموتُ عليها أحنّ عليه من فراقها. هل هِجرته صغيرًا مَدت جذورَه في الأرض خوفًا من أن ينساها؟ هل الحقيبة البالية التي حَملها بملابسه وكتبِه وقبضةٍ من ترابها حافظت على الوصل بينه وبينها؟ نعم، سيعود وصفي وفردوس للمدينة الباسلة، سيعودان لشقتهما الواسعة والتراسينة البحرية والذكريات، سيعودان لبيتهما. بعض الفرحة، وبعض الحزن، وكثير من القلق، وكأن التهجير والغربة احتلا روحيهما فصارا غريبين عن كل الأماكن والمدن، حتى عن مدينتهم الباسلة! نجوى تعِدهم بالزيارة، وفردوس تقسِم عليها برأس كل غالٍ أن تنتقل لتعيش معهم هناك * والبيت واسع، ونونّس بعض وناخد حِس بعض فتعِدها نجوى كاذبةً بالذهاب والزيارة، والبقاء والإقامة، وهي لن تفعل، وفردوس تعرف أنها لن تفعل، ومن جديد، تفرّقت العائلة التي ربط الحزن والوطن بين أبنائها الغرباء فصاروا عائله بلا دمٍ ولا نسب، تفرّقت العائلة، أو هكذا تصوّر الجميع وقت أن تبادَلوا الأحضان والدموع على بسطة السلّم التي طالما شهِدت وصلَهم ووطّدت قربهم، تفرقوا وتصوروا أن الأيام ستبعِد بينهم وتُباعِدهم. لكني أنا التي أراهم من علٍ، أعرف أن كل مخاوفهم أوهام لا علاقة لها بما سيعيشونه، أنا التي أراهم من علٍ، أعرف أنهم صاروا عائلة وأسرة واحدة، ومهما تباعَدوا فلن يبعدوا. (23) مكالمة من بورسعيد.. همس لنفسه وهو يقرأ الرقم المجهول الذي يومض على شاشة تليفونه * آالو.. تصوّره زين، ربما هو في أجازة قصيرة في بورسعيد، وفرغت بطارية تليفونِه كالعادة * آلو… أتاه صوت فردوس * ازيك يا حبيبي * أهلا أهلا يا خالتي صوتها يومض في قلبه بالفرحة * معلِش يا حبيبي باكلمك وسط مشغولياتك * يا خالتي انت تؤمري يقصد كلماتِه بحق، يحِبها كأمّه، بل ربما أكثر، لكنه يخجل أن يصارح نفسه بمكنون مشاعره تجاهَها، هي الأمّ التي أحَس أمومتها، لم تبكِ كلما رأته، ولم تنهره لتوترها الذي لم يعرف سببه عند أمّه طوال طفولته، لم تتشاجر معه ليذاكر أو يستحِم، لم تَقسُ عليه بحجة حُسن تربيته. هذا كله ما عاشه مع نجوى، أمّه التي قهرتها الظروف فقهرته، أمّا فردوس فهي الأمّ التي شاهدها في الأفلام، حنانٌ فيّاض لا ينضب، هي التي أخذته في حضنها وحَمته من غضب أمّه ودَعت له ورَقَته بعد صلاتها، هي التي اشترت له ملابس العيد، رغم أنف أمّه التي عانت دائمًا من ضائقةٍ مالية جعلتها قاسية عليه. فردوس هي أمّه وأمّ شقيقه، نعم زين أخوه الوحيد، هكذا أحَس من اللحظة الأولى التي شاهده فيها، وسيظل هذا إحساسه به حتى يموت * اؤمري يا خالتي قَصّت عليه أن جارتها مريضة، ودارت على الأطباء في المدينة الباسلة فلم تشعر براحة ولم تُشفَى، أخبرته أنها تحِب جارتها التي تتعذب بمرضها، وأنها عرضت عليها أن ترسلها له في القاهرة * تقدر تعمل لها حاجه يا نبيل؟ * طبعا يا خالتي سيهتم بها ويحجز لها عند أفضل زملائه المشهورين، وسيوصيهم عليها؛ لأنها مِن طرف خالته الغالية * أصل أنا باتباهى بيك وبشهرتك ونجاحك يا نبيل يرتبِك لمديحها وينهي المكالمةَ سريعًا وهو يؤكد عليها أنه ينتظر جارتها، وأنه سيفعل لها كل ما يمكنه وأكثر. صار طبيبًا مشهورًا ذائع الصيت "هل كنت تتصور يا نبيل أنك ستكون هذا الطبيب"؟ "لم أتصور شيئًا، لكني لست سعيدًا" هذا ما يقوله لنفسه دائمًا، هل يعرف العالم كله أنه نبغ في الطب؛ لأنه مَنحه كل حياته التي لا يوجد بها إلا ذكريات زرقاء، وزوجة متيبسة، ومذاكره كثيرة، ووقت طويل لا يجد ما يقضيه فيه إلا الاهتمام بعمله ومرضاه؟ "لست سعيدًا، كنت أتمنى أن أمنح نفسي بعض الوقت السعيد، أقضيه مع زوجةٍ تحبني وتحتوينني، وتشاركني الخروج والتنزّه ودخول السينما، كنت أتمنى أن أمنح نفسي بعض الوقت السعيد أقضيه في منزلي على الأريكة المريحة أمام التلفزيون، أحتسي شايًا ساخنًا، وقطعة كيك طازجة، تصنعها لي زوجة محِبة، كنت أتمنى أن أكون أي شخص غير ما أنا عليه، الشهرة والنبوغ العلمي والتفوق، والوقت الطويل الذي أمنحه لمَرضاي، هروبٌ منظّم من البيت الموحش، والزوجة الباردة، والحياة الرتيبة الكئيبة، لست سعيدًا يا خالتي"! تمنى أن يدخل حضنها ويبكي، تمنى أن يحكي لها عن مشاعره ووحدته، وأمنياتِه التي بقيت حبيسة، تمنى أن يحكي لها عن رغباته في تغيير حياته كلها، الزوجة والعمل والمنزل. تمنى ويتمنى.. لكن لا يقوَى. "مش قادر يا خالتي، لكن مش مبسوط"! لو سمِعته لحرّضته على أن يطلّق زوجته الكئيبة بنت الكئيبة، وأن يغيّر عمله؛ لأن المهم سعادته، وأن يغيّر المنزل؛ لأن عتبته شؤم، وظِله نار جهنم ، لو باح لها بوجعه لطيّبت جروحه وسايرته في أحلامه، وفتحت له طاقاتِ الأمل، لكنه يخجل أن يقص عليها همّه، ألمْ يكفِها كل ما باح لها به في طفولتِه. ألمْ تكفِها كل الدموع التي بلّل بها ملابسها صغيرًا فارًا من عقاب أمّه لحنانها؟ "لست سعيدًا يا خالتي"! يحدّق في شاشة تليفونه، وكأنه يتمنى أن تطلبه ثانية، لو فعلت لباح لها بكل همّه ووجعِه، لو فعلت لصارحها بما يعتمل في نفسه، ملّ الحياة كلها بكل تفاصيلها، لكنه عاجز عن تغييرها. دقّ رنين التليفون وهو محدّق بشاشته غائبًا لا يرى، هائمًا في أفكاره، تَصوّرها طلَبَته استجابةً لاستغاثة روحِه التي أرسلها لها عبر الأثير، انتبَه وحدّق في الشاشة، نادية! "ستسألني مني سأعود للبيت، سأخبرها أن العيادة ما تزال مكدّسة بالمَرضى، وأني لن أعود مبكرًا، ولتتناول عشاءها وتنام ولا تنتظرني، أعرف كل ردودها، ستهمس طيّب، وتمنح التليفون ل نورة لتهمس لي أنها ستنام قبل عودتي للمنزل، تصبح على خير يا بابي، سأهمس وأنتِ من أهله يا حبيبة بابي". ويبقى صامتًا على مكتبِه طويلا، يفكر في كل شيء، ولا يفكر في شيء، سيبقى صامتًا ثابتًا حتى تطرق الممرضة باب الغرفة وتخبره أن المريض ملّ من الانتظار فيشير لها أن تُدخِله وهو يهمس لنفسه، لستُ سعيدًا! وما يزال جرس التليفون يطارده، فيفتح الخط ويهمس * أيوه يا نادية .. خير؟ (24) حدّق في وجه المصاب محمولاً على النقّالة أمامه، ولم يصدّق نفسه * زين..!؟ "نعم هو، زين، أخوك وبقيتك، ودمُك وهمّك، نعم هو زين، الضابط الذي مزقت جسدَه الأسياخ الحديد التي انهارت مسنونة فوق رأسه وقت أن تهدمت الجدران، وتهاوت بسبب الانفجار الكبير، زين هو الذي وقع تحت الجدران، هو الضابط الذي تلطخت بدلته العسكرية بدمائه الساخنة، هل سيخلع عنه البدلة ويحتفظ بها بجوار بدلة أبيه ليفوح منهما المسك والعنبر يحكيان ويقصان عن الأبطال وبطولاتهم العظيمة؟" يهز نبيل رأسَه نفيًا، كأن كابوسًا يثقب جمجمته ويحتل تلافيفها "لا.. لن يكون زين إسماعيل ثانيًا، يحرق بغيابِه قلب نبيل ويكمل على بقيته ويسوّد أيامَه بغيابه، لن ترحل يا زين". يحدّق في الجسد الممزق أمامَه، يدقق النظر في الوجه يبحث عن ملامحه المعروفة المألوفة التي يحبها، ملامحه غابت وضاعت تحت خليط من التراب والدماء الساخنة وبعض الدموع، خليط رَسم على الوجه الذي يحفظه شكله ملامح غريبة. يحدّق في الوجه يبحث عن ابتسامة القوة التي طالما استمدّ منها قوته في الأيام الصعبة. أمسك نبيل بالنقّالة يوقِفها، لن يجري وراءه، سيصاحِبه في رحلته للشفاء خطوةً خطوة * استنوا.. هل هذا الصوت العالي الصارخ المرتجف صوته؟ هل هذه الرجفة التي دوّت بين جدران الممر الصامت في المستشفى، تخلع القلب، هي رجفة قلبِه؟ * استنوا… مدّ كفيه يمسّد شَعر زين، كأنه ينقّيه من ذرات التراب وبعض الحصى المدفونيْن بين خصلاته، مدّ كفيه يمسح عن وجهه التراب، يزيله مِن على جفنيه ووجنتيه، وشفتيه وفتحتَي أنفِه؛ ليساعد الهواءَ النقي أن يشق مساراتِه للرئتين المحشورتين بين عظام القفص الصدري، المهشمة تحت الجدران الثقيلة الحجرية التي تهاوت فوق رأسه وجسده. يحدّق فيه لا يصدق ما يراه * زين.. يهمس، يتمنى أن يفتح عينيه ويراه * أنا جنبك هنا.. يتمنى أن يسمعه * زين.. يناديه ليوقِظه، ليعيد بعض الوعي لرأسه ليطمئنه، لكنه لا يرد عليه، يقف بجواره مرتاعًا "لستُ طبيبًا، ولستَ مصابًا، أنت أخي، وأنا أخوك، أنت مِني وأنا مِنك، أنا بقيّتك وأنت بقيّتي، ردّ علىّ يا زين"! تأتي ليلى مسرعة من خلفِه * اتحركوا، مستنيين ايه؟ تصرخ في المسعِفين يحملون النقّالة * اتحركوا بسرعة على أوضة العمليات تقترب منه وتدفعه بكفّيها قليلا للأمام * يلّا يا دكتور نبيل، يلّا على أوضة العمليات، اتحركوا صوتها حاسمٌ قوي، يأمرهم فلم يترددوا، وهرعوا على الأرض بخطوات ثقيلة سريعة صوب غرفة العمليات، تجري خلفَهم، تدفعه أمامَها، يجري نبيل لا يعرف ما الذي سيحدث، يجري صوب غرفة العمليات، لا يصدّق أنه سيتعقم ويرتدي الملابس الخضراء، ويمسِك مشرطَه ويشقّ في لحم زين لينزع الموت من تحت أعصابه، وليمنحه بعض الحياة التي تنقذه من الموت الذي يحاصره ويتسلل تحت جلده وفي شرايينه وأوردته، يخنق أنفاسه، ويغلق عينيه، ويطفئ وهج عقله، ويفسد أعصابه وأحاسيسه. لا يصدّق ما يفرضه عليه القدَر. "لم تنقذ أباك، ومات مصابًا غريبًا وحيدًا، ولم تفلح في أن تشفي أمّك، فماتت في فراشها وحيدة وأنت بعيد عنها، الآن.. أمامَك الفرصة، الآن.. تملك وتقوَى، الآن.. زين بين يديك، اختبارٌ صعب، لكنك ستفلح فيه، ستنقذه ولن تتسلل حياته مِن بين يديك ولا مِن تحت مشرطك، اختبارٌ صعب، أنت له، تصرخ ليلى * يلّا يا دكتور نبيل! يجري ويجري، يدفع المسعفون بابَ غرفة العمليات، وينقلونه برِقةٍ على طاولة العمليات، ويَخرجون مسرعين، خلفَهم يدخل نبيل، يحدّق في زين على طاولة العمليات وينسى أنه شقيقه وحبيبه وبقيّة عمره، ينسى كل شيء ويصرخ في معاونيه * يلّا، ربع ساعة ونبتدي، اتكلنا على الله ويَخرج مسرعًا للغرفة الملحَقة بغرفة العمليات ليتعقم ويرتدي الملابس المناسبة، تنهمر دموعه رغم أنفِه، تنسال فيضانات حزن، يترك لها المجال لتَخرج من روحه التي قويت وصمّمت واتكلت على مولاها وعلّمها لتنقذ زين. ما يزال يبكي ويعقم ذراعيه وكفّيه، تقترب منه ليلى، وجودها يقوّيه، وجودها يحمّسه، وجودها يُشعِره بالطمأنينة، تقترب منه وترجوه أن يكف عن البكاء؛ فحياة صديقِه تستحق قوته كلها، وعِلمه كله، وإرادته كلها. ترجوه أن يكف عن البكاء؛ فهذا ليس وقتَه. يغطّي وجهَه بالماسك الطبي فلا تبقَى إلا عيناه ساطعتين ببقايا الدموع، ويتحرك صوب غرفة العمليات لينقذ زين. يلمح وجه فردوس وعمّ وصفي وكأنهما يوصيانِه على زين، يتمتم بالأدعية ويعِدهما أن ينقذ زين بإذن الله.. * واتكلنا على الله ويبدأ عمله لإنقاذ الجسد الممزق أمامَه وكأنه لا يعرفه، ولا يحِبه، ولا يخاف عليه، ولا يتمنى أي شيء من ربّه الآن، وفي هذه اللحظة، إلا إنقاذَه. (25) قرر أن يغلق عيادته، قرر أن يعتزل الطب ويغيّر مساراتِ حياته، ملّ من المَرضى والمرض، ودموع الرحيل، وترقّب الأمل، ملّ كل هذا وأكثر، الحقّ أنه ملّ حياته كلها، سيتقاعد، هكذا قرر، وعجبًا ما قرر! ما يزال في سن العطاء، والحياة تنتظر منه الكثير، لكنه ملّ من كل شيء وفقد حماسَه لكل شيء، ولن يفلح في أن يمنح الحياة أي شيء لو بقي على حاله مثلما هو، حسمَ أمره، وقطع علاقته نهائيًا بالطب، أو هكذا قرر. لم يستشِر نادية في أيٍ من قراراته، ستعارضه كعادتها، كل ما يقرره لا يعجبها، هو نفسه لا يعجبها، لكنها تزوجته وانتهى الأمر. منذ لحظة زواجِهما الأولى وحين أغلق عليهما الباب، وبعد أن سكنت بين ذراعيه، عرَف أن الهوة بينهما سحيقة، وأنه تسرّع في الزواج منها، ولعنَ القدر والزمن، والحياةَ التي حرَمته من أبيه صغيرًا، ومن أمّه كبيرًا، ففرضت عليه الوحدة الموحشة التي لم يجد إلا نادية لتملأ فراغها، فإذا بها تزيد الفراغ فراغًا، والوحدة صقيعًا! تمنى لو يُخرِجها من حضنه ومن حياته ويختفي بعيدًا عنها، تمنى في الليلة الأولى أن يطلّقها ويعتذر لها، ويمنحها أي تعويضات أو حقوق ترضيها؛ لتَخرج من حياته، لكنه جَبن عن أن يصارحها، وكذبَ عليها وادّعى أنه يحبها، ومنحها جسدَه ورجولته، وبيتَ أمّه وأثاثها القديم، وصارت الدكتورة نادية زوجتَه، وصار زوجَها، هل كان يعرف معنى ذلك الزواج قبل أن يغلَق عليهما الباب؟ لم يعرف ولم يتصور، أتى بغريبة تشاركه حياتَه، تتدخل في قراراته، تفرض عليه رغباتِها، أتى بغريبةٍ تحمل اسمَه وتنجب أطفاله، وتشاركه فراشَه وتصمم على إطفاء كل أنوار البيت؛ لأنها لا تنام إلا في الظلام الدامس! أحَس الحياة معها، ومنذ اللحظة الأولى، وكأنهما في خندق الحرب وصافرات الإنذار تدوي، أحَس معها بالحرب التي تنتهي خطرًا وتوترًا، قلقًا ووجعًا، حتى نورة، ابنته الحبيبة، وقرة عينيه، لم تفلح في أن تغيّر مشاعره تجاه أمّها، هي ابنته وحدَه وكأنه أنجبها من رحِم القدر! صارت نورة ابنته وحدَه، نعم الدكتورة نادية أمّها، لكن الدكتورة نادية لا تخصّه ولن تخصّه، نادية فهمت بذكائها كل ما يدور في نفسه، وأنها مجرد زوجةٍ تشاركه الفراش، وتعِد له الطعام، ولا تحتل أي مكانٍ في قلبه، قبِلت مشاعره، وعاشت معها وتعايشت، كثيرًا ما كانت تسأل نفسها لماذا قبِلت؟ ولماذا رضخت؟ ولِم استمرت في تلك الزيجة المؤلمة؟! نعم زواجها ب نبيل أوجعها منذ لحظته الأولى وحتى الآن، تمنت لو أحبها مثلما تحِبه، لكنه لا يحِبها ولن يفعل، المصيبة أنها اكتشفت وبسرعة أنها أيضًا لا تحِبه، وأنهما تَشارَكا في زيجةٍ لقتل الوحدة والطمأنينة، تَشاركا في زيجةٍ باردة منذ لحظتها الأولى، وستظل كذلك. نادية شغلت نفسها بعملها وأمومتها، هو قتل نفسه في العمل، يتمنى أن يؤمّن ل نورة مستقبلاً سعيدًا لا تعاني فيه شظف العيش، مثلما عاش، ولا اليتم، مثلما توجع. غرقَ في العمل، وأفلح بسرعة في أن يراكم الثرواتِ الصغيرة فوق الثروات الصغيرة، العمر ذهبَ في مراكمة الثروات والكشف على المَرضى وحب نورة، بمقاييس الآخرين هو طبيبٌ ناجح، ورب أسرةٍ سعيد، وبمقاييسِه هو بدّد عمره في زيجةٍ فاشلة، وعملٍ مُضنٍ، وحياةٍ تسير كالزورق المثقوب في بحرٍ يهدده كل يوم بالغرق. عشر سنوات مع الدكتورة نادية، والحياة باردة كئيبة، لا تمنحه فيها بعضَ اللحظات القليلة من السعادة إلا نورة، يتمنى كثيرًا لو يخطفها ويبتعد عن الدكتورة وصرامتها وبرودها، وتمنى كثيرًا لو قوِي وطلّق نادية، سيطلّقها ويمنحها أكثر من حقوقها الشرعية، سيترك نورة تعيش معها، وسينفق عليهما بسخاء، شريطةَ أن يرى ابنته وقت أن يحِب، سيطلّق نادية ويعيش حياته التي أفسدها القدر ووجعه واختياراته الفاشلة، لكن نورة تحِب أمّها، تعشقها ولن يقوَى على أن يكسر قلبها ويشتّت أمانها، ويفسد حياتها، ويمنحها يتمًا موجعًا، وهو على قيد الحياة، لن يطلّق نادية، وسيحافظ على المنزل واستقراره، لن يطلّقها لكنه سيغيّر حياته من أجل سعادته، كفَاه عملاً مضنيًا، وليمنح نفسه بعض الوقت، يمنح روحه بعض الحرية، سيغلِق العيادة ويبع أسهمه، ويودِع النقود في البنك باسم نادية ويتركها ويرحل، سيكذب على نورة وقت الوداع ويخبرها بأن عمله صار في مدينةٍ بعيدة، وأنه سيزورها كلما استطاع، سيخبر نادية أنه ملّ الحياة معها، وأنه لن يطلّقها كرامةً ل نورة، وسيترك لها الثروة والمنزل ونورة ويرحل، لماذا سيرحل؟ هذا ما سيعرفه وقت أن يرحل ويبتعد ويختلي بنفسه التي طالما تمنى أن يختلي بها. عاد لمنزله مرِحًا، حرًا.. أخيرًا سيعيش مثلما يرغب، أخبر نادية بكل ما فعله، وشرح لها أنه أودع النقود باسمِها في البنك لتنفِق على نورة بسخاء، أخبرها أنه سيرحل، تَصوّر أنه سيرحل بالفعل ولن يعود، الغريب أنها لم تسأله عن سبب رحيلِه، ولم تحاول أن تثنيه ليبقى، الغريب أنها استراحت من قراره وتنفّست الصعداء، لم تخبره، ولِم تفعل؟ ودّعها بقبلةٍ باردة على وجنتها، تمنت أن تمسحها مثلما تمنت أن تمسحه من حياتها، تمنت أن يرحل وألا يعود، تمنت أن ينساها وينسى نورة، ويخرج من حياتهما. ودّعها بقبلةٍ باردة، وضرب الباب بعنف وسارَ في الشارع يحلّق بذراعيه كالعصفور الذي سيتعلم الطيران مرِحًا سعيدًا. وفجأة قفز زين لخياله، رآه غاضبًا حزينًا، سمِع صوت مشاجرته وصراخه "عندما يعرف زين كل ما حدث سيتشاجر معي" ابتسم نبيل، وكأن زين أبوه وكأنه مدرّس المَدرسة الذي عاقبه لأنه لم يكتب الواجب، كأنه شيخ المقرأة الذي طالما ألصق وجهَه في الحائط عقابًا لأنه لا يحفظ الآياتِ التي يتعين عليه أن يحفظها. زين هو ضميره الذي ما يزال حيًا، ضميره الذي لم تفسِده الحياة، ولا نهَم جمْع الثروة، ولا برود نادية، ولا قسوة الزمن، تمنى لو لحِقه زين وصعدا معًا للسطح، وجلسا يتحدثان ويتشاجران مثلما اعتادا، لكن زين بعيد، وعم وصفي أيضًا. تمنى لو سافر بورسعيد، وألقي ببدنه وروحه في البحر يغسل همومَه ويستريح. يجلس صامتًا يراقب الشاشات، وكأنه لا يفكر، لكنه لم يكفّ عن التفكير. كل شيء يجري أمام عينيه وكأنه يعيش مرة ثانية، تتتابع في مخيلته اللقطات، نفس الأصوات، نفس المشاعر، نفس البشر، كل شيء يجري أمامَه وكأنه يعيشه مرة ثانية. زين يصاحِبه في كل اللقطات والمَشاهد والمشاعر. يحدّق فيه نائمًا على السرير المعدني، ويتمنى لو يبكي، لكن دموعه لا تطاوِعه كالعادة، والمرارة تفيض من جوفه للحياة. يحدّق في زين، ويتمتم بكلمات ممضوغة ويهمس * اوعى تموت يا زين، اوعى تموت! لم يعد طبيبًا، ولا بدا زين مريضًه، بل هو صديق يجاهِد لإنقاذ حياة صديقِه الأعز، بل أخيه، يجاهد لإنقاذ حياتِه، ويتشبث ببقائه، ويتشاجر معه لأنه لا يعاوِنه، وكأنه يتمنى أن يرحل! يتمني يصرخ بصوت عالٍ راعد مخيف "اوعى تموت يا زين". يتمنى، لكنه يكتم صوته مثلما اعتاد أن يكتم كل شيء بداخله، مشاعره، مخاوفه، حبه، ضعفه، وجعه.. كل شيء مكتوم بداخله يفور كبركان أوشك أن ينفجر. يحدّق في زين النائم أمامَه، ويتمني أن يبكي أو يصرخ، لكنه عاجز، فيهمس بكل الرجاء والتمني * اوعى تموت يا زين، اوعى تموت! وما يزال الليل طويلا، والأمنيات كسيحة، لا تجد نهارًا صحوًا يقوّيها، لتتحول إلى حقيقة مبهجِة.