مع استئناف المفاوضات المُباشرة بين روسياوأوكرانيا، بدأ الكثيرون فى العالم يشعرون بنوع من التفاؤل والأمل فى ظهور بوادر لحل بعض مُشكلات البشرية، بعد أن ظل البعض على مدار السنوات الأخيرة يستخدم هذا النزاع كشماعة للكثير من المشاكل التى يُعانى منها مُختلف شعوب العالم، إلا أنه قد غاب عنهم فى خضم هذا التفاؤل، أن النزاع قد اكتسب بالفعل الطابع المُعقد، وتشابكت فيه الكثير من المصالح، بحيث لم تعد التسوية قصرًا على رغبة وإرادة أطرافها المُباشرة فقط، وبالتالى فعملية التفاوض، التى مازالت فى أطوارها الأولى تنذر بمسيرة صعبة قبل التوصل لأى نوع من التسوية التى تقود إلى إنهاء النزاع. ◄ 4 سيناريوهات لإنهاء الصراع «الروسي الأوكراني» الحقيقة، أنه ما إن بدأت المُحادثات بين الروس والأوكران، حتى انبرى العديد من مراكز الدراسات فى العالم فى وضع تصوراتها بشكل سيناريوهات تطور هذه المفاوضات والتسوية أو بالأحرى إنهاء القتال، وفى غضون ذلك تجاهلت - لن أقول معظمها بل جميعها - حقيقة هامة، وهى أن الحديث ينبغى أن يدور حول التسوية، التى ينبغى أن تقوم على أساس تبادل التنازلات، إلا أنه بعد أن تولى ترامب الرئاسة فى الولاياتالمتحدة، وفضل أن ينفض أيدى بلاده عن مواصلة إهدار الأموال على نزاع يعلمون أنه لن يصل إلى النتيجة، التى يسعون إليها منذ عقود طويلة، وهى إذلال روسيا أو إلحاق هزيمة بها تعيدها إلى الوراء لعشرات السنوات، فبعد تولى ترامب السلطة اختلفت كافة الموازين، وأصبح لزامًا على الغرب، الاعتراف لروسيا إن عاجلًا أو آجلًا بالنصر، وتحمل الطرف الضعيف، وهو أوكرانيا كافة تبعات وآثام الحرب، وفى نفس الوقت سيبدو الأمر، وكأن التسوية ليست سوى كعكة، ينبغى تقاسمها ما بين ثلاثة أطراف فقط، والطرف المُعتدى عليه فيه، لا نصيب له فى هذه الكعكة، التى سيجرى توزيعها ما بين الطرف المُنتصر، وهو روسيا، والطرف الأساسى المُحرض، الذى كان يعتبر من البداية، هو الطرف الأساسى الثانى فى النزاع، وهى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ثم ربما يشركون طرفًا ثالثًا وهو الغرب، الذى موّل ومازال يمول الطرف المنهزم فى النزاع. ◄ النظام الجديد نتائج تسوية النزاع فى أوكرانيا، رُبما ستُمثل ملامح النظام العالمى الجديد، الذى طال الحديث عنه، وطال انتظار المُعدمين والمقهورين له، لكن للأسف، وكما حذرنا من قبل، فإن عجز هؤلاء عن المشاركة فى رسم ملامح النظام الجديد، سيجعله لا يختلف فى شيء عن سابقه، بل الخوف كل الخوف، أن يصبح النظام العالمى الجديد هو نظام القوة والبطش وفرض إرادة القوى على الضعيف، ولنا فى غزة وفلسطين درس وعبرة فى هذا المجال. رُبما كانت مؤسسة «جى بى مورجان تشيس» الأمريكية الشهيرة، هى الأبرز فى وضع تصوراتها بشأن السيناريوهات المحتملة لإنهاء القتال فى أوكرانيا، ورغم أن الحديث هنا يدور حول مؤسسة بنكية ومالية فى المقام الأول، إلا أن ما طرحته من سيناريوهات محتملة حاز على الاهتمام الأكبر وسط مؤسسات الرأى العام والدراسات فى العالم، حيث أشار خبراء المؤسسة إلى وجود أربعة سيناريوهات رئيسية لمسار المفاوضات بين الروس والأوكران. ◄ 4 سيناريوهات ونحن هنا أمام 4 سيناريوهات متعددة الجنسيات «السيناريو الجورجى» ثم «السيناريو الإسرائيلى» و«السيناريو الكورى الجنوبى»، وأخيرًا «السيناريو البيلاروسى»، وفى هذا الإطار أقر خبراء المؤسسة بأنه رغم كل شيء فلن ينتهى هذا العام قبل أن يكون النزاع قد انتهى بالتوصل لاتفاق يرضى ويلبى كافة مطالب روسيا من خلال تنازلات تقدمها كييف ودول الغرب مقابل ضمانات أمن من جانب روسيالأوكرانيا، حيث إن هذه الأخيرة لن تكون سوى من قبيل حفظ ماء الوجه للغرب بعد أن ضمن لهم ترامب الاعتراف الرسمى بالهزيمة، التى لن تبدو الولاياتالمتحدة على خلفيتها ضمن الأطراف المُنهزمة بعد أن يحصل ترامب لبلاده على نصيب جيد من الغنيمة الأوكرانية. وقبل أن نخوض فى هذه السيناريوهات المحتملة علينا أن نعترف لترامب بالمهارة الفائقة بعد أن أجبر ومازال يجبر مختلف الأطراف سواء الفاعلة فى النزاع الأوكرانى أو خارجه ممن لا جمل لهم فيه ولا ناقة، على دفع فاتورة المساعدة الأمريكية للأوكرانيين، وحصد لبلاده المليارات والتريليونات من الدولارات، الأمر الذى فتح شهيته بشكل مخيف، وسيجعله يواصل ذات اللعبة، ويجبر الجميع على الدفع سواء عن طريق الابتزاز المباشر أو عن طريق الكلام المعسول عن المُساهمة الخيرية من أجل السلام. السيناريو الأول الذى تحدثت عنه المؤسسة، هو «السيناريو الجورجى»، الذى يؤكدون أن فرصه تصل ل50%، وفيه لن تحصل أوكرانيا على أى شيء، بما فى ذلك ضمانات الأمن أو تواجد لقوات الناتو على أراضيها، بل ستدخل فى دوامة جديدة من الاضطراب الداخلى، والتنافس بين القوى السياسية المختلفة، بالشكل الذى سيظهر ان التدخل الروسى بها كانت له وجاهته، وأن روسيا بذلك تكون دولة خيرية قد أنقذت الملايين من البشر من المصير المشئوم الذى كاد يحيق بهم بسبب الأنظمة الحاكمة الفاسدة فى أوكرانيا. ◄ حصة الغرب وأمريكا أما السيناريو الثانى ونسبة تحققه ربما تصل 20%، ولو تحقق فلن يستمر طويلًا، وسيعتمد فى المقام الأول على حصة الولاياتالمتحدة والغرب من الغنيمة الأوكرانية، وهذا السيناريو يطلقون عليه اسم «السيناريو الإسرائيلى» حيث سيواصل الغرب تقديم المساعدات المختلفة، وعلى الأخص العسكرية منها لأوكرانيا، بما يساعدها مع الوقت على استعادة قدراتها الدفاعية. روسيا ستتدخل من وقت إلى آخر فى هذا السيناريو لو تحقق لأنه سيعيدها إلى نقطة الصفر قبل اشتعال النزاع فى أوكرانيا، وستظل تتحجج بالتعاون بين أوكرانيا ودول الغرب، الذى يهدد مصالح روسيا وشعبها والمتحدثين باللغة الروسية والناطقين بها والمتعاطفين معهم وغيرها من المبررات الكثيرة، التى تتيح للدول الكبرى التدخل فى شئون الدول الصغرى التى لا حول لها ولا قوة. أما السيناريو الثالث، الذى يرى خبراء المؤسسة أنه الأفضل ويعطونه نسبة 15%، فهو «السيناريو الكورى الجنوبى»، الذى يقوم على أساس حصول أوكرانيا على ضمانات أمن كبيرة من خلال تدخل قوات حلف الناتو للحفاظ على الاستقرار والديمقراطية فى أوكرانيا، ولكن سيعنى ذلك فقدان كل أمل فى استعادة ما فقدته أوكرانيا من أراضٍ. هذا السيناريو يمكن وصفه ب«الوهمى»، لأنه يتجاهل موقف الطرف الآخر، فلن تقبل روسيا بنشر قوات حلف الناتو فى أوكرانيا، علاوة على أن روسيا أكدت مرارًا وتكرارًا، بما فى ذلك على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، بأنه لا حديث عن إعادة أية أراضٍ، بل إن روسيا تذكر بأنها لم تضم إليها أية أراضٍ، وأن ما حدث ويحدث وسيحدث هو وفقا لبنود ميثاق الأممالمتحدة من حيث تقرير المصير، فروسيا لم تصدر أية قرارات بضم أراضٍ، بل إن من على هذه الأراضى أعلنوا الاستقلال من خلال استفتاءات ترى روسيا أنها قانونية، وبعد ذلك شكلوا حكومات وبرلمانات، وهذه تقدمت بطلبات رسمية للنظر فى الانضمام للقوام الروسى، وانعقد البرلمان الروسى للنظر فيها وقبلها ثم اعتمد رئيس الدولة قرار البرلمان، وقبل دخول هذه الأراضى فى القوام الروسى لتصبح أراضى روسية ومن عليها جزء من الشعب الروسى، وعليه فلا مجال للتفاوض عليها. ◄ السيناريو الأسوأ أما السيناريو الرابع، الذى تعطيه المؤسسة الأمريكية نسبة 15%، وتطلق عليه السيناريو الأسوأ، فهو «السيناريو البيلاروسى»، والحقيقة لست أدرى لماذا تصفه بالأسوأ مادام يحصل على نفس نسبة السيناريو الأفضل وهى 15%، وهذا السيناريو يقوم على أساس تخلى الغرب عن مساندته لأوكرانيا لتشعر روسيا بحرية كاملة فى استعادة أوكرانيا لكنفها لتصبح على الأقل فى وضع بيلاروس أى مجرد باحة خلفية لها. يغيب عن جهابذة التحليل فى المؤسسة الأمريكية، أن الرئيس البيلاروسى ألكسندر لوكاشينكو هو رجل يستند إلى خبرة كبيرة جدا تؤهله لوصف «الداهية السياسى»، فهو يدرك الإمكانيات الحقيقية لبلاده، وأنها لو دخلت فى تنافس مع أىٍ من القوى الكبرى فلن تصمد طويلًا، لذلك فهو يتنقل من وقت إلى آخر للتعاون مع الغرب تارة ومع روسيا تارة أخرى، وهو ما يضمن بقاء بلاده واحتفاظها بالاستقلال والسيادة، اللتين أكد فى الكثير من المُناسبات أنه لا تنازل عنهما، ومع الوقت ستُعزز بلاده من قدراتها بحيث لا تصبح لقمة سائغة لأىٍ من القوى العظمى. إذا راجعنا مواقف الأطراف المُختلفة مرة أخرى فسنتلمس طريق التسوية، وسندرك أنه مازال هناك طريق طويل قبل الحديث عن تسوية حقيقية فى أوكرانيا، وأن ما يجرى حاليا من جولة أولى تليها ثانية وثالثة وعشرات الجولات الأخرى ليس سوى مناسبات للمساومات والمماطلات فى إطار سباق على المصالح، والأهم من ذلك كله هو أن هذا التسابق تشارك فيه أطراف خارج إطار اللعبة ما بين روسياوأوكرانيا ذاتهما. ◄ أساس السلام روسيا من البداية أكدت أنها لا تسعى لوقف إطلاق النار دون الحديث عن تسوية تقوم على أساس السلام الدائم، وذلك من خلال اتفاق قانونى موثق يثبت الوضع الراهن، بل ويتضمن بعض ضمانات للمستقبل حتى لا يفكر أحد فى المستقبل فى إثارة النزاع من جديد ومحاولة استعادة لست أقول ما سُلب ولكن أقول ما فُقد. أوكرانيا تسعى فقط إلى وقف إطلاق النار على أمل إقناع الغرب بمواصلة دعمها فى محاولات يائسة لاستعادة ما فقدته من أراضٍ أو بعضها على الأكثر، وهو هدف أستبعد تحقيقه لا عن طريق الحرب ولا حتى عن طريق السلام، بل إنه مازال أمام أوكرانيا المزيد والمزيد من التضحيات سواء تجاه روسيا أو تجاه الولاياتالمتحدة وما قد يستجد، وإن لم تدفع هذا الثمن الباهظ فسوف تواجه ممارسات غير شريفة ضد شعبها الذى بدأ يتعرض لحملات إعلامية شرسة من جانب الغرب بعد أن استوعب ما يكفيه من كوادر مختلفة ومن شرائح شعبية تثريه وتعوض ما يعانى منه من مشاكل ديمغرافية تعرض مستقبله وبقاءه للخطر. وأستطيع أن أدرك فهم وإدراك روسيا الكامل للعبة التى تمارسها الولاياتالمتحدة وما تنصبه لها من فخ من خلال تجميد النزاع، بحيث يمكن إشعاله بشكل أو بآخر من وقت إلى آخر وفقا لحجم ما تقدمه روسيا من تنازلات أو فى إطار الضغوط المتبادلة على مختلف أصعدة وساحات اللعبة الدولية. ◄ السيناريو الغائب! ومن هنا يمكن القول بأنه من السابق لأوانه الحديث عن تسوية حقيقية للنزاع فى أوكرانيا، وإنما يدور الحديث فى حقيقته عن وقف إطلاق النار، وستواصل روسيا فى إطار فهمها للمخطط الأمريكى عمل المنطقة العازلة التى تضمن لشعبها السلامة ومواصلة الحياة بشكل طبيعى واستهداف أية تعزيزات عسكرية تصل إلى أوكرانيا، ولا ضير من مواصلة الحوار عسى أن يفهم الغرب الأوروبى منطلقات الأطروحات الأمريكية التى لا تلعب لمصلحته ويكف عن التنافس مع روسيا واستفزازها ليبدأ اللعب لمصلحته الخاصة. وفي غضون ذلك سيتعين على الأوكرانيين الاعتراف بأنهم ربما يواجهون سيناريو خامساً هو «السيناريو الفلسطينى»، أى سيناريو التلاعب بالقواعد والأعراف الدولية، وتشتيت شعب بأكمله وإهدار كرامته لتحقيق مصالح لم يكن لأوكرانيا من البداية أية علاقة بها، كل ذلك بسبب حسابات خاطئة والاعتقاد بأن اللعب مع الكبار قد يجعلك كبيرا مثلهم، فى النهاية سيتفاهم الكبار فيما بينهم ويتبادلون الأنخاب والتنازلات وتقسيم «كعكة الصغار» فيما بينهم.