يظل النزاع بين روسياوأوكرانيا حتى الآن هو المفتاح الحقيقى للحديث عن عالم جديد أو نظام عالمي جديد، وبينما لا يلوح حتى الآن بصيص أمل فى نهاية نفق هذا النزاع نجد أن الكثيرين فى العالم يبالغون فى تفاؤلهم وتقديرهم لاستئناف الحوار بين روسياوالولاياتالمتحدة، بل ويستسلمون لما يطلقه الرئيس الأمريكي من أفكار حول إنهاء النزاع. وربما أكون أنا نفسى قد بالغت فى تقييم ما يطرحه ترامب لأن ما يطرحه حتى الآن لا يرقى إلى مستوى خطة للتسوية أو خطة طريق أو حتى مبادرات تقود إلى التسوية، بل إن ما يطرحه لا يمثل أى نوع من التسوية ولا يعدو أن يكون إجبار أحد طرفى النزاع على الاستسلام. وحتى هذه لا يمكن التسليم بها، فالأمر يبدو وكأن الطرفين يستسلمان للولايات المتحدة التى ظهرت قبل أشهر وقبل وصول ترامب للسلطة فى موقف صعب للغاية مع فقدان العالم للثقة فيها بل مع فقدان العالم لتقديره لحجم قوة ونفوذ هذا البلد الحقيقى. لقد أجرى الجانبان الأمريكى والروسى حتى الآن عدة جولات من المفاوضات والزيارات المتبادلة على أساس معلن وهو العمل على تسوية النزاع فى أوكرانيا ولكن الوصف الأصح هو العمل على وقف المواجهات العسكرية فى هذا البلد، ذلك أن الحديث عن التسوية الحقيقية لم يبدأ بعد وأستبعد أن يكون لدى أحد حتى الآن تصور واضح حول صيغة وشكل التسوية المنشودة. روسيا من جانبها وعلى لسان قياداتها بدءا من رئيس الدولة فلاديمير بوتين، ووزير خارجيتها سيرجى لافروف، وبقية ممثليها، أكدوا أن الدولة الروسية تسعى وترغب فى إنهاء النزاع ولكن على أساس الاتفاق القانونى والتسوية النهائية التى لا تدع أى مجال للعودة للقتال فى المستقبل، وصدرت عن روسيا تلميحات عديدة تدعو إلى احترام وضعها كدولة عظمى لا يمكن أن تنطلى عليها خدع وألاعيب مما قد تقبل به دول أقل كثيرا فى الشأن، وأوضحت أن ما سمعته وجرى خلال اللقاءات والمباحثات حتى الآن لا يخرج عن إطار تجميد النزاع ووقف إطلاق النار، بينما ما تريده هو تسوية شاملة و نهائية تحقق السلام الدائم. ◄ المعادلة الروسية وجهة النظر الروسية وصولا للسلام تقوم على ضرورة اعتراف أوكرانيا والغرب والعالم أجمع بتبعية الأراضى التى ضمتها لها كأراضٍ روسية تحت السيادة الروسية، بغض النظر هنا عن موقف القانون الدولى ومواثيق الأممالمتحدة وغيرها من المواثيق التى تنظم العلاقات بين الدول بما فى ذلك روسياوأوكرانيا اللتان حتى قيام النزاع كان بينهما اتفاق أساسى يعترف فيه كل طرف بسيادة واستقلال ووحدة أراضى الطرف الآخر. وهنا وبمراجعة تاريخ السلوك الروسى بما فى ذلك بالنسبة للنزاع مع اليابان حول جزر كورسك أستطيع أن أستشف أن روسيا ترفع سقف مطالبها لتحسين موقفها التفاوضى ولكن عند بدء التفاوض سيكون لها رأى آخر ومواقف مخالفة، فروسيا لم تكن فى يوم من الأيام دولة استعمارية أو غازية، كما أنها من الوعى والفهم الكافى لتدرك أنه لا يمكن العيش فى سلام فى محيط ينظر لها بعين الشك ويكنّ لها مشاعر الخوف والعداء. الشىء الآخر هو أنه قبل بداية النزاع كان لروسيا مطالب تجاه الغرب فيما يخص الضمانات الأمنية واحترام المصالح، حيث ظل الغرب طوال عقود من بعد تفكك الاتحاد السوفيتى يمعن فى مخالفة تعهداته أمام روسيا ويعمل على توسعة حلف الناتو، بل وكان لا يفوت فرصة لاستفزاز الدولة الروسية وإهانتها والتقليل من شأنها إن لم يكن إذلالها أمام العالم، وربما أرادت روسيا أن تجعل من أوكرانيا «عبرة» للغرب وللدول المجاورة وكل من يفكر فى تكرار هذه المعاملة، وكذلك إظهار أنها مازالت دولة عظمى يمكنها حماية مصالحها إن لم يكن فى إطار القانون والأعراف الدولية فلا يضير من القوة وفرض الأمر الذى تراه هى واقعا. ◄ قمة جبل الجليد يمكن القول بأن النزاع فى أوكرانيا لم يكن سوى قمة جبل الجليد الذى يضرب بعمق فى أعماق بحر البغضاء والعداء المتأصل بين روسيا والغرب، إلى أن جاء ترامب ليظهر للعالم وكأن لديه العصا السحرية لإنهاء النزاع، ولكن يعتقد الخبراء والكثير من المحللين وعلى رأسهم الروس أن ما لدى ترامب لم يكن سوى تصور سطحى لطبيعة النزاع الذى أعتقد إمكانية إنهائه بمجرد جلوس طرفيه إلى مائدة المفاوضات، كما أنه يستخدم النزاع لتصفية حساباته مع الإدارة السابقة برئاسة بايدن ويحملها كافة الآثام الناتجة عن النزاع، ناهيك عن أنه فى الأساس يبنى رؤيته إن وجدت لإنهاء النزاع على أساس تحقيق أكبر مكسب تجارى واقتصادى لبلاده من خلال الاستحواذ على جانب كبير من الثروات المعدنية والطبيعية لأوكرانيا لسنوات إن لم يكن لعقود طويلة، وربما لن يكتفى ترامب بذلك بل يسعى للحصول لشركات بلاده على عقود مربحة وفرص استثمارية جيدة مع روسيا ليسبق فى ذلك دول الغرب التى كانت الولاياتالمتحدة من البداية تدفعها لقطع التعاون مع روسيا وإنزال العقوبات بها الحزمة تلو الأخرى. بصفة عامة ينقسم الخبراء والمحللون فى تقييمهم لآفاق الانفراج بين روسياوالولاياتالمتحدة لقسمين، أحدهما يتبنى الخط المتفائل والثانى مازال يتمسك بالخط المتشائم حيث لا يرى فيما يبديه ترامب من إشارات نهجا يمكن البناء عليه. ◄ السيناريوهات التشاؤمية كانت صحيفة «موسكوفسكى كومسوموليتس» الروسية قد نشرت آراء عدد من المحللين، وكان من بين هؤلاء ميخائيل سينيلنيكوف أوريشاك، الخبير فى الشأن الأمريكى، والذى يرى أن الرئيس الأمريكى ترامب هو من نوعية البشر الذين يتسببون بسهولة فى زعزعة الاستقرار فى العالم، فهو له تصوراته الخاصة بالسلام وعندما لا تتحقق هذه التصورات أو يحاول أحد مقاومة تحقيقها يتسبب ذلك فى إشعال غضبه، وأشار إلى أن مشكلة ترامب تكمن فى أنه عندما عاد للسلطة ظن أنه من الممكن إنهاء كل شىء بمجرد الجلوس إلى مائدة المفاوضات، ويحذر الخبير من أن ترامب يفضل إلقاء اللوم على الآخرين فى الفشل وحتى الآن هو يحمّل بايدن مسئولية السماح باشتعال النزاع، ولكن إن فشلت جهوده فى التسوية فسوف يتخلى عن دور صانع السلام ويرتدى القناع العسكرى ليواصل ما دأبت بلاده عليه من تسليح زيلينسكى ويستمر النزاع لسنوات طويلة قادمة. ◄ تجميد النزاع محلل روسى آخر وهو ألكسى فينيكو، البروفيسور فى كلية السياسة العالمية فى جامعة موسكو الحكومية، يُشير إلى أن أكثر ما يخشاه هو أن ترامب يطالب بتجميد النزاع على وضعه الحالى مقابل عدم قبول عضوية أوكرانيا فى حلف الناتو، وذلك أمر خطير لأنه لا يعتبر حلا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن روسيا لا تسيطر على كامل الأقاليم التى ضمتها إليها وهو ما يعنى استمرار الخطر بها، كما يعتقد أن تجميد النزاع على حاله سوف يغرى دولاً أخرى ويدفعها للاعتقاد بأن روسيا ضعيفة، وعلى رأس هذه الدول فنلندا ودول البلطيق التى قد تواصل مسيرة العقوبات وتفرض حصارا بحريا على إقليم كالينينجراد الروسى، وهو ما ستعتبره روسيا وفقا للقانون الدولى عملا من أعمال الحرب لتتسع بؤرة الحروب والنزاع بدلا من احتوائها. أما ديمترى دوبرينسكى، وهو خبير فى الشأن الأمريكى فهو لا يستبعد السيناريو الأسوأ وهو الانقلاب على ترامب حيث إن نحو نصف الشعب الأمريكى ضده وله الكثير من الخصوم الذين قد يعتبرونه خائنا ويسحبون السجادة من تحت قدميه وبالتالى ينقطع الحوار مع روسيا مرة أخرى وتعود الأمور إلى مآلها الصدامى. ◄ سيناريوهات تفاؤلية يعود الخبير الروسى فى الشأن الأمريكى، ميخائيل سينيلنيكوف أوريشاك، ليشير إلى أنه ربما تكون تصورات ترامب حول إنهاء النزاع تقتصر على مجرد تجميده بداية من إعلان لوقف إطلاق النار لمدة ثلاثة أشهر. إلا أن عدم إشراك أوروبا فى المفاوضات يعطى الفرصة للتعاون مع الولاياتالمتحدة على دفع التسوية بقوة، كما أنه يدفع فى اتجاه اقتناع ترامب بأن فشل مساعيه ربما يكلفه الكثير جدا، لذلك فهو سوف يستميت لإنجاح ما تصدى له من البداية. كما يذكر الخبير الروسى بتجربة الكوريتين فى عام 1953 عندما أجبرت الولاياتالمتحدةكوريا الجنوبية على وقف القتال رغم أنها كانت ترغب فى المواصلة، وكان ذلك عن طريق الصراخ تارة وعن طريق التلويح بالمزايا الاقتصادية تارة أخرى. ويذكر المحللون بأن ترامب سيُتم عامه الثمانين فى 2026 ويرغب ربما فى الحصول على نوبل للسلام بهذه المناسبة لذلك سيعمل جاهدا خلال هذا العام على إنهاء النزاع بأية طريقة، ويجمع الخبراء على أنه مازال فى جعبة ترامب الكثير من الأدوات لتأكيد سعيه لإنهاء النزاع ومن بينها استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بكامل هيئتها وربما إبرام معاهدة مع موسكو حول انفراج العلاقات بينهما. ◄ الدور الأوروبي الحقيقة، أن الجانبين سواء الروسى أو الأمريكى كانا قد أكدا أن التجارة والاستثمار سيلعبان دورا محوريا فى تسوية النزاع الأوكرانى على جانب تحسين العلاقات بين البلدين، ولوح كل منهما بما يمكن أن يقدمه ويسهم به فى هذا المجال بما يعود بمكاسب كبيرة على كليهما وعلى الجميع، وهى مسيرة لن يتردد الغرب فى اللحاق بها، علاوة على ذلك فلا يمكن تصور تضحية الولاياتالمتحدة سواء فى ظل حكم ترامب أو من بعده بعلاقاتها مع الغرب مقابل مكاسب غير مؤكدة من الوفاق مع «خصمها اللدود»، وهى روسيا، لذلك إن آجلا أو عاجلا فسوف تعمل الولاياتالمتحدة على العودة مجددا لتعزيز علاقاتها مع الغرب وإن كان على أسس جديدة، وربما أن روسيا تدرك ذلك جيدا، كما أن لديها اهتماما كبيرا بالعودة إلى علاقات الشراكة مع الغرب وربما انتهاز فرصة الاهتزاز الذى أصاب علاقات الغرب مع الولاياتالمتحدة للعب على هذا الوتر ومحاولة إعادة بناء علاقاتها مع الغرب استغلالا للمخاوف الغربية الجديدة تجاه الولاياتالمتحدة. ولكن بعد اجتياح روسيالأوكرانيا وضم مساحات كبيرة منها إليها أصبح الكثير من الدول المجاورة والدول الأوروبية تخشى من الأطماع التوسعية لروسيا، فإذا كانت روسيا قد بررت اجتياحها لأوكرانيا بهواجسها الأمنية وتجاهل مصالحها فهى اليوم وضعت الغرب فى ذات الوضع، وأصبحت روسيا مطالبة هى الأخرى اليوم بتقديم ضمانات أمنية للدول المجاورة وعدم اتباع نهج القوة فى علاقاتها مع بقية الدول الأوروبية، وبالتالى فإن تبادل الترتيبات الأمنية واحترام مصالح كل منهما للأخر ربما سيصبح هو الأساس الذى ينطلق منه النظام العالمى الجديد، وسيصبح ذلك هو الخطوة الأولى على طريق بناء هذا النظام الذى لو استأثرت به الدول العظمى والكبرى والأوروبية سيتحول إلى مجرد استنساخ للنظم السابقة سواء ثنائية أو أحادية القطبية بما يحقق مصالح أطراف معينة وإجبار بقية دول العالم على الانسياق والانصياع لها طوعا أو كرها. ◄ العالم الثالث ومن يعتقد أن الحوار بين روسياوالولاياتالمتحدة منصب فقط على بحث النزاع فى أوكرانيا فهو واهم، فكافة المحللين والخبراء يؤكدون أنه ليس كل ما يجرى مناقشته خلال هذا الحوار يتم إعلانه على الملأ، وبالتالى يمكن افتراض وجود كلام حول ترتيبات النظام العالمى الجديد، خاصة وكما أشرنا فى مقالات سابقة أن روسيا تسعى بقوة لتتبوأ مكانتها، بينما تشعر الولاياتالمتحدة بأن البساط ينسحب من تحت أقدامها وتسعى بكل قوة للبقاء كقوة نافذة فى العالم، وتجربة الاتحاد السوفيتى السابق فى مجال الثنائية القطبية تدفع روسيا للتفكير ألف مرة قبل تكرارها نظرا لما يتكلفه ذلك من نفقات باهظة، حتى أن الولاياتالمتحدة ذاتها وبدأت تئن من هذه النفقات، ورأت فى نهاية الأمر التراجع عن هذا النوع من الكرم ولكن مع الاحتفاظ بالنفوذ من خلال التهديد والوعيد والعقوبات والتعريفات وما إلى ذلك. ربما لم تنس روسيا وقوف الكثير من دول العالم إلى جانبها فى الصراع مع الغرب سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، لذلك ستعمل على الحفاظ على النظرة الإيجابية لدى هذه الدول تجاهها وتستغل حالة الضجر والنفور لدى دول العالم الثالث من الجشع الغربى، لذلك فلن يكون لديها مانع من مشاركة دول كبرى فى رسم النظام العالمى الجديد على غرار الصين والهند ومجموعة بريكس، كما أنه ليس لديها مانع من تفعيل نظرية الدول الإقليمية الكبرى بما يسمح لمختلف دول العالم وقواه بالمشاركة سواء فى إدارة الشئون والعلاقات الدولية وفى نفس الوقت الاضطلاع بجانب من المسئولية للحفاظ على الأمن والاستقرار، ولكنه من ناحية أخرى سوف ينقل المنافسة والصراع بين قوتين عظميين إلى مستوى جديد بين أكثر من قوة وفى أكثر من منطقة، ذلك إن لم يتم وضع الأساس الجيد للإبقاء على مسئولية حفظ السلم والأمن الدولى وتنظيم التعاون الدولى ضمن مسئولية الأممالمتحدة مع العمل على تطوير المنظمة وإعادة رسم أهدافها وأدواتها. ومن هنا، يتعين على دول العالم الثانى والثالث الجلوس معا وبحث رؤيتها الخاصة لبناء النظام العالمى الجديد، والأهم من ذلك تحديد دوائر مصالحها وأهدافها وسبل تحقيقها حتى لا يستمر تجاهل مصالح دول العالم الثالث الذى تقاعس عندما سنحت له الفرصة.