الحقيقة، أن من يمعن النظر فى المشهد الأمريكى ربما يتوصل لاستنتاج مفاده أن ترامب لم يفز فى انتخابات الرئاسة الأمريكية بقدر خسارة فريق هاريس - بايدن والديمقراطيين فى مواجهة الجمهوريين، فقد لعب الأداء المشين لبايدن على مدار فترة رئاسته بالكامل دورا حاسما فى فوز ترامب، خاصة أن الديمقراطيين لم يكن لديهم البديل المناسب والقوى الذى يمكنه مواصلة مسيرتهم فى البيت الأبيض وإصلاح ما أفسده بايدن. ◄ توقعات باستمرار دعم أوكرانيا وعداء الغرب لروسيا ◄ بوتين: أكبر ضرر للعلاقات حدث فى عهده ◄ الفترة الأولى شهدت فرض أكبر العقوبات ورغم أن الغالبية لم تكن تتوقع فوز ترامب الذى ارتبط اسمه بالكثير من القضايا والفضائح فى مرحلة ما بعد خسارته للانتخابات السابقة، ولكن هذه الفضائح لم تكن أسوأ من سياسات بايدن التى أضرت بالولاياتالمتحدة ومختلف المناطق فى العالم، وأصبح البعض ينظر إلى ترامب كطوق نجاه لنجدة الولاياتالمتحدة من السقوط خاصة بعد أن فقدت جانبا كبيرا من هيبتها واحترامها فى العالم اتصالا من مواقفها المخزية سواء على صعيد مساندة القوى الإرهابية المختلفة فى العالم أو مساندة إسرائيل فى حربها ضد العزل فى غزة أو حتى الموقف غير الحكيم من إدارة الصراع فى أوكرانيا. ◄ لا استسلام للأوهام ربما أن أكثر من اتسم على هذه الخلفية بالواقعية كانت هى روسيا بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين الذى أوجز خلال عدة مناسبات مؤخرا فى روسيا طبيعة العلاقات بين روسياالولاياتالمتحدة، وأكد فى غضون ذلك أن روسيا لا تستسلم للأوهام وتنتظر إلى الأفعال وليس مجرد التصريحات والأقوال، وبدا بوتين وهو يتحدث عن الوضع بين البلدين على جانب كبير من الثقة فيما يتحدث عنه. ورغم أن الرئيس الروسى فى أحاديثه التى تمس روسيا وما يتصل بها من موضوعات يحاول أن يبث الشعور بالتفاؤل والثقة فى المُستقبل، ورغم أنه عبر فى نفس الوقت عن أن الوضع الجيوبوليتيكى فى العالم لا يبعث على أى أمل فى الوقت الراهن، إلا أن مختلف المسئولين والشخصيات البرلمانية والعامة فى روسيا كانت أكثر دقة فى تصوير الوضع بالنسبة لروسياوالولاياتالمتحدة فى ظل حكم ترامب، فبينما حاول ديمترى بيسكوف السكرتير الصحفى للرئيس الروسى مواصلة الخط التفاؤلى الذى يتسم به بوتين حيث أكد أن روسيا لن تتعجل تقييم مستقبل العلاقات بين البلدين فى ظل حكم ترامب وتفضل الانتظار لما بعد التنصيب خاصة أنه خلال الحملة الانتخابية ظهرت بعض التصريحات التى توحى ببعض التفاؤل وهو ما يتفق مع استعداد روسيا الدائم للحوار مع الجميع دون استثناء، إلا أن الأهم بالنسبة لروسيا هو الأفعال وليس الأقوال، ومع ذلك كانت هناك شخصيات أخرى أكثر دقة وأقل تفاؤلا مثل سيرجى ريبكوف، النائب الأول لوزير الخارجية الروسية، والذى لم يستبعد إمكانية فسخ العلاقات الدبلوماسية بين روسياوالولاياتالمتحدة فى حال مواصلة الأخيرة لسياسة مصادرة الممتلكات الروسية التى جرى تجميدها على مدار سنوات النزاع فى أوكرانيا. ◄ الممتلكات الروسية تتسق هذه التصريحات مع البيان الرسمى الذى صدر عن الخارجية الروسية والذى حذر وبشكل رسمى من مغبة مصادرة الممتلكات الروسية، وأن مواصلة الغرب لسياسة مصادرة الممتلكات الروسية أو بصراحة نهب الممتلكات الروسية لصالح تمويل أوكرانيا فى نزاعها مع روسيا قد تدفع روسيا لتنفيذ تهديداتها، وإن كانت لن تبدأ ذلك بعلاقاتها مع الولاياتالمتحدة وإنما بعلاقاتها مع دول أقل شأنا وأهمية بالنسبة لها. ◄ الفخ! على مستوى الخبراء وكذلك الرأى العام فى روسيا لا توجد مبالغة فى توقع تحسن العلاقات فى ظل ترامب، فالكثيرون مازالوا يتذكرون أن ترامب فى فترته الرئاسية الأولى لم يكن من المناصرين لسياسة العقوبات ضد روسيا، بل إنه كان يبدى حماسا كبيرا لضرورة تعزيز التعاون مع روسيا ومواصلة الحوار بين البلدين على مختلف الأصعدة، إلا أن كل ذلك ذهب أدراج الرياح على خلفية اتهام المخابرات الأمريكيةلروسيا بالتدخل فى انتخابات 2017 لصالح ترامب، وهو الأمر الذى شغله ربما طوال فترة رئاسته لدفع هذه التهمة عنه، والأكثر من ذلك أنه تخلى عن الكثير من مبادئه وأفكاره فى مجال تحسين العلاقات مع روسيا حتى لا يفسر ذلك بأنه يرد الجميل لروسيا أو أنه متعاون معها. الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، نفسه، صرح خلال فترة رئاسة ترامب الأولى بأن العلاقات بين البلدين لم تشهد تضررا أكبر مما شهدته فى عهد ترامب، فخلال الفترة الأولى من حكم ترامب فرضت الولاياتالمتحدة أكبر عدد من العقوبات ضد روسيا حيث شملت فرض عقوبات على 293 شخصية طبيعة واعتبارية روسية (مقابل 555 فى ظل حكم أوباما)، كما تم طرد ستين دبلوماسيا روسيا من الولاياتالمتحدة وإغلاق القنصلية الروسية فى سياتل، وهو الإجراء الذى ردت عليه روسيا بطرد ستين من العاملين فى السفارة الأمريكية فى موسكو إلى جانب إغلاق القنصلية الأمريكية فى سان بطرسبورج، ليدخل البلدان معا فى حرب عقوبات وعقوبات مضادة. الشىء المُثير للدهشة هنا وربما أن هذه الدهشة طالت دونالد ترامب، ذاته هو أن لجوء الولاياتالمتحدة لطرد الدبلوماسيين الروس كان فى إطار اتفاق غربى لمعاقبة روسيا بسبب قضية تسميم رجل المخابرات الروسى السابق سيرجى سكريبال وابنته، إلا أن الولاياتالمتحدة فوجئت بأن الإجراءات التى اتخذتها الدول الغربية ضد روسيا تقل كثيرا عما قامت به الولاياتالمتحدة وكان طرد الدبلوماسيين الروس من دول أساسية مثل ألمانيا وفرنسا لم يزد عن أربعة من كل دولة منهما. ويبدو أن ترامب وقع طوال فترة رئاسته الأولى فى فخ محاولة إثبات عدم تعاونه مع روسيا، لذلك سعت مختلف المؤسسات والسلطات فى عهده لفرض المزيد والمزيد من العقوبات التى تزيد من تعقيد العلاقات مع روسيا، ورغم الطابع الواضح لعدم منطقية أو جدوى غالبية هذه العقوبات. ◄ الفرصة الوحيدة وكما أشرنا فإن الرئيس الروسى قد اعترف بالتضرر الشديد للعلاقات بين البلدين ففى عهد ترامب انسحبت الولاياتالمتحدة من معاهدة حظر الصواريخ النووية المتوسط والأقصر مدى التى كانت قد وقعت فى 1987، وكان ذلك بذريعة أن روسيا تطور هذه النوعية من الصواريخ وهو ما نفته روسيا بشدة وطالبت بأى دليل على ذلك ليتضح لها فيما بعد أن من يطور هذه الصواريخ بهدف نشرها فى أوروبا هى الولاياتالمتحدة ذاتها. وفى ديسمبر 2017 أيضًا، أصدرت الولاياتالمتحدة استراتيجيتها للأمن القومى والتى نصت ضمن ما نصت عليه على اعتبار روسيا والصين دولتين تمثلان تحديا للأمن القومى الأمريكى، كل هذا ولم ينقض عام واحد على ولاية ترامب. ربما الفرصة الوحيدة للعمل على تحسين العلاقات بين البلدين كانت خلال أول لقاء بين الرئيسين فى هلسنكى صيف 2018، حيث صارح كل منهما الآخر بأسس تدهور العلاقات بين البلدين وضرورة العمل على التغلب عليها، إلا أن المؤسسات الأمنية وغيرها من دوائر السلطة فى الولاياتالمتحدة بدت أقوى بكثير من عزيمة ترامب على تحقيق أى وعود تجاه روسيا. ◄ تسليح أوكرانيا ورغم أن ترامب قد رفض التوقيع على القانون الذى أصدره الكونجرس الأمريكى صيف 2019 حول تخصيص 400 مليون دولار لصالح أوكرانيا، إلا أن ذلك لا ينفى أنه فى ظل ترامب كثفت الولاياتالمتحدة من تسليح أوكرانيا فى إطار تنفيذ استراتيجية ردع روسيا، وإن كان الأمر اصطدم بعد ذلك بمشكلة صعبة جدا بالنسبة لترامب بعد تسريب محادثة هاتفية بينه وبين الرئيس الأوكرانى فلاديمير زيلينسكى حيث كان يطالبه فيها بمعلومات عن نجل بايدن المدعو هانتر وأعماله فى أوكرانيا لكى يستخدمها كوثيقة لتشويه سمعة بايدن خلال السباق الانتخابى وقتها. وبذلك يتضح لنا أنه رغم أن ترامب لم يخش من إظهار إعجابه بالرئيس الروسى فلاديمير بوتين، وعلى الملأ، وذلك خلال قمة العشرين فى 2019، ورغم حديثه من وقت إلى آخر عن أنه يفضل الحوار والعمل على التوصل للحلول الوسط، ورغم أنه يؤكد دائما أنه ليس من أنصار أسلوب العقوبات وخاصة من جانب واحد إلا أن ذلك لم يحل دون استسلامه لضغوط المؤسسات والقوى المختلفة فى بلاده وموافقته على فرض المزيد من العقوبات على روسيا واتخاذ مواقف تحول دون إقامة أى نوع من الحوار بين البلدين. ولكن ورغم ما تقدم علينا أن ندرك أن ظروف الفترة الرئاسية السابقة لترامب تختلف عنه فى الفترة الحالية، ففى الفترة السابقة كانت المؤسسات الأمريكية المعادية لروسيا تدرك مساندة الرأى العام لها فى ظل هيمنة الماكينة الدعائية والإعلامية الغربية على الرأى العام الغربى والأمريكى والعمل على خلق صورة نمطية محددة عن روسيا مما يجعل المواطن الأمريكى والغربى لا يتقبل فقط العقوبات بل ويطالب بها وهو على قناعة بوحشية روسيا وقيادتها وأن روسيا تمثل تهديدا أكيدا للحضارة الغربية. ولكننا نلاحظ أنه على مدار النزاع فى أوكرانيا واستفحال العداء بين روسيا والغرب تمكنت روسيا من كسب نقاط كثيرة فى المجال الإعلامى وتقديم صورة مغايرة تماما للرأى العام الغربى الذى أصبح يشك كثيرا فيما تقدمه وسائل الإعلام الغربية له من معلومات ، وهو ما يدفع الغرب لحظر وسائل الإعلام الروسية بمختلف أنواعها وعلى رأسها روسيا اليوم وسبوتنيك ، وعلى صعيد الشعب الروسى فهو أيضاً يتوق لتحسين العلاقات مع الغرب حتى يتسنى له مواصلة عاداته المعروفة على مدار التاريخ فى العالم أجمع من ولعه بالتجوال والترحال ، ناهيك عن المشروعات والتجارة مع الغرب التى كانت تدر على جانب كبير من الشعب الروسى مكاسب ضخمة. إذا كانت الصورة هكذا فهو ما سيعنى أن الأرض ممهدة تماما أمام ترامب للعمل حتى وإن كان بالتدريج ليس لتحسين العلاقات مع روسيا، ولكن على الأقل لاستئناف الحوار معها ووقف فرض المزيد من العقوبات عليها، وهو أمر بالمناسبة تترقبه أوروبا بشدة بل وترغب فيه نظرا لأنها خسرت الكثير جدا من تدهور علاقاتها مع روسيا، وهذا بالتحديد هو بيت القصيد، فأكثر ما تخشى منه الولاياتالمتحدة هو التقارب بين روسيا والغرب، أو اقتناع الغرب بأن روسيا لا تمثل خطرا بالنسبة لهم، كما أن روسيا الطيبة المستعدة للتعاون الصادق مع الجميع هى صورة لا ترضى الولاياتالمتحدة التى تسعى للحفاظ على هيمنتها على أوروبا والعالم أجمع. ◄ لا اختلافات يمكن القول بأن استمرار حالة التناقض بين روسيا والغرب واستمرار نظرة الريبة والشك والخوف لدى الغرب تجاه روسيا يتفق مع المصالح الأمريكية، لذلك فالفترة الثانية من حكم ترامب لن تختلف كثيرا عن الفترة الأولى بل سيواصل دعم أوكرانيا لاستمرار النزاع واستمرار عداء الغرب لروسيا لحين العثور على سبب آخر تستمر معه هذه المشاعر بما يحفظ للولايات المتحدة سيطرتها الكاملة على الغرب. وفيما يخص مبررات التراجع عن الوعود، فالأمر لن يختلف أيضاً عن السابق حيث سيطرح ترامب المبادرة تلو الأخرى، وهو ما سيستغرق أوقاتا للبحث وبطبيعية الحال سوف ترفض روسيا تقديم أية تنازلات بحيث سيصبح ذلك مبررا للولايات المتحدة لاتهام روسيا بالتعنت والتمسك بسياساتها لبعض الوقت تفكيرا فقط فى أسس جديدة لمواصلة ذات السياسات وهو أمر ظل يشهده تاريخ العلاقات بين البلدين منذ الاتحاد السوفيتى وحتى يومنا هذا. أما روسيا فعليها ألا تترك الساحة للولايات المتحدة للعب المنفرد، وعليها أن تجد الوسيلة للتقارب مع الغرب حتى وإن كان بشكل متدرج وهادئ مثلما فعلت مع الكثير من مناطق العالم فى اسيا وأفريقيا والشرق الأوسط وامريكا اللاتينية، ينبغى على روسيا ان تقدم التضحيات والدلائل الملموسة لطمئنة الغرب بانه لا صحة لما تروجه الولاياتالمتحدة من أنه تطمع فى الغرب وتسعى للمزيد من التوسع، فعندما يقبل الغرب بحقيقة أن روسيا فرد من الأسرة الأوروبية سوف يبدأ التاريخ صفحة جديدة وربما نظام عالمى جديد.