◄ الطريق لإنهاء النزاع بأوكرانيا مفروش بالنوايا السيئة! منذ أن عمدت روسيا إلى حملتها لتهذيب حلف الناتو والغرب باجتياح الأراضى الأوكرانية وضم أجزاء كبيرة منها إليها (فيما يشبه مقولة الحمار والبردعة) وصرخات العالم أجمع تتعالى لتحميل هذه الحرب مسئولية كل ما يعانيه من مشاكل وآلام، ورغم أن هناك العديد من مراكز الدراسات والفكر قد أثبتت بما لا يدع أى مجال للشك أن مسئولية هذه الحرب فى مشاكل العالم ليست بهذا الحجم الذى يتصوره الغالبية وأنه توجد أسباب أخرى تكمن فى مؤسسات وقوى خفية فى العالم تبنى ثرواتها وسيطرتها على العالم من خلال اختلاق المشاكل والنزاعات - منذ هذا الحين والجميع يفكرون فى شىء واحد فقط وهو ما الطريق إلى إنهاء النزاع. وقبل أن نخوض فى الحديث عن السبل المطروحة لإنهاء النزاع أو حتى توصيف الهدف نفسه - هل هو مجرد إنهاء النزاع وفقا للرؤية الغربية أو تحقيق السلام الشامل وفقا للرؤية الروسية، قبل ذلك ينبغى أن نلفت الانتباه إلى شىء هام جدا أو بالأحرى تساؤل هام جدا وهو: "ما هو دور الأممالمتحدة فى هذا النزاع؟"، بل الأكثر من ذلك هو التساؤل عن دور الأممالمتحدة فى أى نزاع أو مشكلة واجهت البشرية على مدار العقود الأخيرة وربما منذ نشأة هذه المنظمة التى تعتبر نواة النظام العالمى الهش سواء الذى كان أو القائم حاليا. قبل كل شىء يجب أن نعترف بأن الأممالمتحدة ومنذ نشأتها لم تكن سوى " مجلس " يجتمع فيه بلطجية العالم لإضفاء الطابع الشرعى على جرائمهم ويؤكدون سيطرتهم وسطوتهم على العالم، ولم تكن المنظمة الدولية فى أى يوم من الأيام منذ نشأتها مكانا لإحقاق الحق وإقامة السلام والعدل، وبالتالى وربما كأحد الحلول غير المطروحة للتسوية سواء فى أوكرانيا أو غيرها من المناطق فى العالم التفكير فى بديل قوى وفعال عن المنظمة الدولية التى تسمى بالأممالمتحدة ولا علاقة بين المسمى والوصف فى شىء. ◄ انفتاح روسيا كان ينبغى على دول ما يسمى بالعالم الثالث انتهاز فرصة التناحر بين الأقطاب للخروج بفكرة أو آلية تفرض عليهم، ولكنهم اكتفوا بمواصلة ما عهدوه من التسول والاستجداء، وحتى عندما قاموا بمبادراتهم المفتعلة للتوسط بين الروس والأوكرانيين لم يدر الحديث عن سبل التسوية بقدر الحديث عن القمح والمساعدات والتبادلات التجارية والعمولات هنا وهناك. والحقيقة أن روسيا ظلت من وقت إلى آخر تؤكد انفتاحها على الحوار بهدف التسوية الشاملة للنزاع، ولكنها فى غضون ذلك كانت تنادى أيضا بمراعاة الواقع الجديد الذى نشأ عن النزاع وهو انضمام أو ضم أراضٍ أوكرانية للسيادة الروسية، والتعهد بعدم تهديد الأمن القومى لروسيا إلى الأبد وذلك من خلال تعهد من نار بالتزام الوضع الحيادى من جانب أوكرانيا وعدم القيام بأى خطوات سواء للانضمام لحلف الناتو أو غيره من الأحلاف أو حتى قيام أى نوع من التعاون العسكرى مع أية قوة خارجية والأكثر من ذلك هو نزع سلاح أوكرانيا، وهى مطالب ربما تذكرنا بشكل قوى باتفاقية بوتسدام التى أعلنت ألمانيا فيها الاستسلام فى أعقاب الحرب العالمية الثانية. ولمن يلاحظ هنا أن ألمانيا قد أجبرت على الاستسلام والمهانة بعد ما قامت به من حروب دموية فى مختلف أرجاء أوروبا، وفى حالتنا هنا لم تشن أوكرانيا أى عدوان على أحد ولم يثبت حتى الآن بأى دليل أو قرينة أنها كانت تخطط لذلك. كما تحدثت روسيا عن إمكانية أن تصبح اتفاقيات مينسك أساسا جيدا لبداية الحوار بين الجانبين، وحتى لا نكرر معا ما لا نفقه تفاصيله، فاتفاقيات مينسك هذه جاءت على مرحلتين - الأولى فى سبتمبر من عام 2014 ولم يكتب لها النجاح حيث لم تقود إلى التهدئة فاضطر زعماء كل من فرنساوألمانياوروسياوأوكرانيا للاجتماع مجددا بشكل عاجل فى مينسك عاصمة بيلاروس فى بداية عام 2015 والتوصل لاتفاق جديد من 13 بندا وهو عبارة عن مجموعة من الإجراءات للتهدئة وليس للتسوية. ◄ أصل الموضوع منذ مطلع الألفية الثالثة واجتاحت المجال السوفيتى السابق مجموعة من الثورات الملونة التى رسمت ملامح الحياة والتطور فى هذه المنطقة حتى الآن ولم تكن أوكرانيا بمعزل عن الثورات، بل إنها شهدت أكثر من ثورة من هذه النوعية بما فى ذلك "الثورة البرتقالية" فى عام 2004 والتى أعقبتها مجموعة من الأحداث أستطيع أن أصنفها بأنها ثورات ملونة ضمنية، ففى أعقاب ثورة 2004 جرى الاتفاق على تنظيم انتخابات رئاسة وكان المنافسان الرئيسيان فيها هما فيكتور يوشينكو الموالى للغرب وفيكتور بانوكوفيتش الموالى لروسيا، وتخلل هذه الانتخابات ألاعيب ضمنت وصول يوشينكو للسلطة فى 2005 ، ولكن لحين تنظيم الانتخابات التالية فى عام 2020 كانت روسيا قد تعلمت اللعبة ووقفت وراء بانوكوفيتش ليفوز بها فى عام 2010 حيث أعتقد أن هذه الثورة الثانية والتى أظهرت فيها روسيا براعة كبيرة، ولكن فى عام 2014 تمكن الغرب من دفع الجماهير إلى الشوارع مرة أخرى للإطاحة بيانوكوفيتش قبل أن يفوز بفترة رئاسية جديدة، حيث تخلل هذه الأحداث وقوع أعداد كبيرة من القتلى، وهرب يانوكوفيتش عبر أقاليم دونباص وكانت القوات الأوكرانية تطارده لتقديمه للمحاكمة ولكنه تمكن من الفرار إلى روسيا. وهنا بدأت الأحداث التى يستمر تأثيرها المهلك على المنطقة والعالم حتى الآن، فقد رفضت هذه الأقاليم الاعتراف بهذه الأحداث وشكلت فرقا مسلحة واستولت على أروقة السلطة والإدارة المحلية وأعلنت العصيان فوجهت الدولة الأوكرانية - ونلاحظ هنا ظهور اسم جديد وهو تورتشينوف الذى تولى حكم أوكرانيا وقتها لمدة ثلاثة أشهر ونصف الشهر - قواتها إلى هذه الأقاليم لتأكيد سيادة الدولة ولكن كان من الواضح أن الجيش والشرطة الأوكرانيين ليسا فى حالة جيدة لفرض النظام ، وبدت الفرق المسلحة فى دونباص مستعدة ومدربة على مواجهة هذا السيناريو فأخذت فى توسيع نطاق سيطرتها على الأراضى والمدن فى المنطقة . وعندما حاولت السلطات الأوكرانية استخدام الدبابات والطائرات هددت روسيا بقوة بالتدخل لمنع ما أسمته بالإبادة الجماعية للسكان فى المنطقة، ووافقت ودفعت بقوة نحو تحقيق مبادرات مينسك التى كما أشرت من قبل لم تكن سوى إجراءات لوقف إطلاق النار وتثبيت الأوضاع، وإن كانت لم تساعد فى شىء لأنه كانت بمثابة فترة فقط لالتقاط الأنفاس وتسليح كل جانب لنفسه وعلى الأخص الفرق المسلحة فى دونباص. ◄ الفرصة استغلت روسيا الفوضى فى أوكرانيا وإنهاك قواتها فى دونباص وأعلنت ضم كل من القرم وسيفوستوبل لها، فى خطوة فى غاية الذكاء حيث إنها تدرك جيدا أن القانون الدولى وميثاق الأممالمتحدة لن يكونا فى جانبها إذا ما تذرعت بما يسمى الحقوق التاريخية، فشجعت على إجراء الاستفتاء العام فى القرم وسيفوستوبل على الاستقلال أولا، ثم اعترفت روسيا بالاستفلال وبعدها تقدمتا بطلب رسمى لروسيا للانضمام إليها ونظر البرلمان الروسى فى الطلبين وقبلهما. وبذلك تؤكد روسيا أنه وفقا لميثاق الأممالمتحدة حول تقرير المصير يعتبر انضمام القرم وسيفوستوبل لها قانونيا مائة بالمائة، رغم رفض الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة وغالبية دول العالم الاعتراف بقانونية هذه الإجراءات لأنها ببساطة لم تتم برعاية الأممالمتحدة والأسرة الدولية وبرضاء كافة الأطراف المعنية. وفى أعقاب ذلك وقّع الغرب عقوبات على روسيا ووجدت روسيا أنها قادرة على الصمود أمام هذه العقوبات وتعلمت جيدا تخطيها، وألمحت أكثر من مرة أن الثمن بسيط جدا فى مقابل استعادة القرم وسيفوستوبل، لذلك وفى إطار ظروف معينة أقدمت مرة أخرى فى عام 2022 على خطوة مماثلة بضم كل من لوجانسك ودونباص إليها وهى تدرك جيدا أنه ربما سيكون هناك تحرك غربى وليس عالميا لمواجهة هذا الوضع، وراهنت على أن الجولة لن تطول سوى أشهر معدودة حيث تمكنت من ضم الإقليمين وأراضٍ أخرى لا تقل أهمية مثل زوبروفسك وغيرها، ولكن أخطأت الحسابات حيث استمر النزاع حتى يومنا هذا دون وجود أى تصور لسبل التسوية أو حتى الإنهاء والتجميد. ◄ استغلال أمريكي بينما الغرب يداعب أوكرانيا بقيادة باراشينكو فى البداية ثم زيلينسكى من بعده وإعطائها الأمل بإمكانية استعادة ما فقد، أصيب بالذهول من الخطوة الروسية الجديدة التى لم يعرف كيف يواجهها، حيث شرع فى استخدام أدواته المعهودة والتى درستها روسيا بشكل جيد وهى العقوبات التى فى واقع الأمر أضرت بمصالح الأوروبيين والدول الأخرى فى مختلف أنحاء العالم بدرجات تفوق الضرر الذى وقع على روسيا، ولم يتمكن الغرب بما قدمه من مساعدات عسكرية "هزيلة" منه مساعدة أوكرانيا حتى فى الصمود أمام روسيا ومنع المزيد من تقدمها داخل الأراضى الأوكرانية ، وفى نفس الوقت كانت روسيا تحرص على عدم استخدام كامل قوتها حتى لا يؤصل العداء والكراهية فى نفوس الأوكرانيين تجاهها. وكان من الواضح منذ بداية الأحداث فى فبراير من عام 2022 أن الولاياتالمتحدة فى ظل بايدن تريد استغلالها لخلق ما يشبه أفغانستان لإنهاك روسيا وإضعاف قدراتها أمام حلف الناتو، وهو الأمر الذى ربما تحقق لبعض الوقت ولكن سرعان ما تمكنت روسيا من الانتعاش واستعادة قوتها وإظهار أنه يمكنها فى أى ظرف من الظروف مواجهة أوروبا بأكملها ومجتمعة، وهو ما أظهر للجميع استحالة تصحيح الوضع بالسبل القهرية، وبالتالى فلا مناص من الحوار. بات واضحا أن إدارة بايدن ليست من أنصار السلام والحلول الناجحة، بل إنها إدارة حرب وسفك دماء وخراب حيث بات ذلك واضحا من إدارتها لملف النزاع فى غزة، ليأتى دونالد ترامب ويلوح من بعيد من أن لديه العصا السحرية لإنهاء النزاع، وهنا يجب أن نتذكر ما أشرنا إليه فى البداية من الفارق بين إنهاء النزاع وتجميده وبين السلام المنشود. ◄ طبيعة الحوار الحقيقة أنه عندما تحدث ترامب فى حملته الانتخابية عن إنهاء النزاع فى غضون ليلة وضحاها بدأ الخبراء فى النظر إلى هذه التصريحات على أنها مجرد وعود انتخابية لا قيمة حقيقية لها، فالنزاع دخل فى مراحل غاية فى التعقيد وحتى جانبى النزاع ليس لديهما أية فكرة أو رؤية للتسوية، ولكن التصريحات التى أدلى بها ترامب فى أعقاب مراسم التنصيب أظهرت أنه يتحدث بأسلوب "النصب" أكثر منه وسيلة سياسية حقيقية نحو التسوية، حيث ظهر وكان ترامب يحدث روسيا بلهجة الأوامر النافذة أو الإنذارات النهائية وهو أسلوب لا يتفق مع وضع روسيا كدولة عظمى، والاستمرار فى استخدام هذه اللهجة ليس سوى دليل على افتقاد الإدارة الأمريكية الجديدة للرؤية فيما يخص سبل التسوية، لذلك فهى ستطرح الشروط المجحفة التى تدفع روسيا أو حتى أوكرانيا للرفض فتواصل ذات النهج فى مساعدة أوكرانيا على الصمود دون تحقيق أية طفرات، أو التملص من المساعدة فى الأساس فتسقط أوكرانيا وهنا سوف تواجه روسيا معضلة غاية فى الصعوبة، هى ما العمل بأوكرانيا؟ لو ابتلعت روسيا المزيد من الأراضى الأوكرانية أو حتى الدولة الأوكرانية بأكملها فلن ينسى شعبها ذلك وسوف تواجه روسيا فى المستقبل موجات من العنف والإرهاب لا نهاية لها، كما أنها فى هذه الحالة سوف تعيش فى بيئة معادية وسوف ينظر لها كافة الدول المجاورة على أنها دولة استعمارية تتربص بهم للوثوب عليهم فى أى وقت وبالتالى سوف يلجأون للتحالف ضدها والتخطيط للإضرار بها بأى شكل من الأشكال. ◄ طريق السلام إذا أرادت روسيا ضمان أمنها القومى وسلامتها حقيقة اليوم وغدا ولفترات طويلة فى المستقبل فيجب أن تبنى مناخا من السلام فى محيطها القريب، أى طمأنة جيرانها، وذلك من خلال التوصل لتسوية عادلة مع أوكرانيا، وذلك بدوره سوف يتطلب تضحيات كبيرة من الجانبين، فأوكرانيا يجب أن تطمئن روسيا وتؤكد لها عمليا التمسك بالوضع الحيادى وعدم الانسياق وراء الأحلاف، أما روسيا فسيتعين عليها رد الكثير من الأراضى التى استولت عليها من أوكرانيا بل وتعويضها عما لن تتمكن من رده لمختلف الاعتبارات، ولكن فى كل الأحوال على الجانبين أن يدركا أن "حمامة السلام" التى تسعى لإنهاء النزاع ليست سوى صقر يتربص بكليهما.