يتجه الصراع بين روسيا والغرب على الجبهة الأوكرانية يومًا تلو الآخر نحو منحنيات أكثر خطورة بل وتنذر بخروج النزاع فى الأساس عن نطاق السيطرة إن لم يكن قد خرج بالفعل، حيث تدل الأحداث الأخيرة على الجبهة على غياب أية رؤية من أى نوع لإمكانية إنهاء المواجهات، فالنزاع على الأرض الأوكرانية لم يعد كما كان قبل نحو الثلاثة أعوام إلا أشهرا قليلة من حيث رغبة روسيا فى لفت انتباه الغرب إلى مصالحها وما أسمته وقتها بالخطوط الحمراء، ولم يعد حق دولة مستقلة ذات سيادة فى الدفاع عن نفسها، بل إنه دخل مؤخرا فى منعطف خطير ينذر بإمكانية الانزلاق إلى المواجهة المباشرة بين روسيا والغرب أو على الأقل الانجراف دون وعى لارتكاب جرائم ضد الإنسانية يحفر أى من الأطراف اسمه فيها بحروف من دم. مع نهاية ولاية بايدن كرئيس للولايات المتحدة، بما ارتبط بهذه الفترة من ملاحظات كثيرة ومشاهد وأحداث تتداخل فيها الجوانب الكوميدية مع النواحى الدرامية المأساوية البعيدة كل البعد عن الإنسانية وعلى الأخص التلاعب بمصائر الشعوب والدول التى من بينها أوكرانيا، فوجئنا وهذا ليس غريبا عن المسرح السياسى الأمريكى بتطورات غريبة ولا معنى لها على الساحة الأوكرانية، وحتى لا يتصور البعض أن الأحداث الأخيرة على الجبهة الأوكرانية تكتسب طابعا جديدا، أود أن أذكركم بأن العديد بل الكثير من الرؤساء فى الولاياتالمتحدة قبل مغادرتهم للبيت الأبيض كانوا يعطون الضوء الأخضر للقيام بأعمال لتعقيد الأمور للإدارة التالية أو الانتقام من هذه أو تلك من الدول، وكان من ضمن هذه الأمثلة بيل كلينتون الذى أراد أن ينهى ولايته باتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين وعندما عجز عن ذلك غض الطرف عن سحق القوات الإسرائيلية للعزل فى فلسطين، وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التى لا يستثنى منها بادين الذى عقد الأمور كثيرًا أمام ترامب، الذى وعد دون تصور محدد بالحوار مع روسيا لإنهاء النزاع في أوكرانيا. ◄ الطلقة الأولى وكانت الأحداث بين روسياوأوكرانيا قد تطورت بشكل مخيف وخطير بدءاً من ليلة التاسع عشر من نوفمبر عندما استخدمت أوكرانيا ( وليس لأول مرة كما يدعى الكثيرون ) الصواريخ بعيدة المدى سواء الأمريكية من طراز أتاكمز أو البريطانية من طراز ستورم شادو لضرب الأراضى الروسية، وسط تساؤلات أقرب إلى الاندهاش حول الغرض من ذلك، خاصة أن روسيا قد حذرت مرارا من قبل من مغبة استخدام الصواريخ البعيدة المدى، بل ورغم أن الكثيرين قد شرحوا بشكل مستفيض أن روسيا على دراية كاملة بإمكانيات هذه الصواريخ ولن تمثل لها أية مشكلة، وهذا بالفعل ما حدث حيث تصدت الدفاعات الروسية لهذه الصواريخ ولم تتسبب فى أية خسائر لا فى الأرواح ولا الممتلكات، لتأتى باكورة رد روسيا على هذا التصعيد فى خطوتين كل منهما أخطر من الأخرى. فقد صدق الرئيس الروسى فى اليوم التالى مباشرة للقصف الصاروخى الأوكرانى على بلاده على تعديلات العقيدة النووية الروسية والتى كان من الواضح أنها أعدت قبل ذلك بفترة كافية وكان فقط ينتظر الوقت المناسب للتصديق عليها وإعلانها، أما الرد الثانى فهو توجيه ضربة صاروخية إلى أحد المجمعات الصناعية فى أوكرانيا حيث ربما يغيب عن الكثيرين المغزى الحقيقى من هذه الضربة. ◄ العقيدة النووية فيما يخص العقيدة النووية الروسية وتعديلاتها فهى لا تحتاج للحديث والتحليل والتمحيص، فسواء كانت هناك عقيدة أو لم تكن، لن يغير ذلك من الأمر شيئا، فالقوى العظمى إذا أرادت استخدام قدراتها النووية فلن تعوقها أى بنود أو أسقف للعقيدة، فهذه النوعية من الوثائق ربما ليست سوى إعلانات وأوراق لترهيب الأطراف الأخرى ليس أكثر. للوهلة الأولى قامت روسيا وكما أعلنت بضرب المجمع المشار إليه بصاروخ من طراز " أوريشنيك " الباليستى وفقا للبيانات الروسية، ولكن لو نظرنا إلى المزيد من تفاصيل المشهد فسوف يتضح لنا أولا ان المستهدف هو مجمع صناعى فى منطقة دنيبربيتروفسك الأوكرانية حيث كان هذا المجمع إبان الاتحاد السوفيتى يتخصص فى انتاج الصواريخ وبالتالى فهو يتمتع بتركيبة بنائية ودفاعات من طابع خاص، وعن الجانب الروسى فالصاروخ المستخدم هو صاروخ تجريبى له القدرة على حمل رءوس تقليدية ونووية فى نفس الوقت فيما يمثل رسالة واضحة للغرب، الذى أعرب عن تشككه فى أن هذا الصاروخ هو من نوعية الصواريخ متوسطة المدى التى كانت الولاياتالمتحدة قد انسحبت من معاهدة التخلص منها ومن كافة أدوات تصنيعها، وظلت روسيا حتى وقت قريب تتمسك بمواصلة الالتزام من جانب واحد بالمعاهدة وهو ما يعنى دخول سباق التسلح مرحلة جديدة، ورسالة تحذير خطيرة جداً إلى الدول الأوروبية الغربية، خاصة أن روسيا قد طورت الصاروخ بالشكل الذى يصعب على الدفاعات المتقدمة حتى ملاحظته. الصاروخ الذى استخدمته روسيا فى القصف الأوكرانى أثار موجة من الجدل واسعة النطاق لدى الغرب الذى تعدى اهتمامه بالضربة نفسها ليركز على تحليل الصاروخ، حيث يؤكد الكثيرون أن الصاروخ المستخدم هو نسخة معدلة من الصاروخ «أر إس روبيج 26 » الذى يفترض أن مداه يصل ستة آلاف كليو متر، حيث يعكف المحللون الغربيون على تحليل ما إذا كان هذا الصاروخ ضمن معاهدات الحد من التسلح أم أنه مجرد نسخة معدلة بحيث يندرج ضمن الصواريخ المتوسطة والأقصر مدى التى كما أشرنا كانت هناك معاهدة لتحريمها بين روسياوالولاياتالمتحدة، إلا أن الأخيرة انسحبت منها فى وقت سابق على أمل أن روسيا ليست فى وضع اقتصادى يسمح لها بالعودة من جديد لسباق التسلح. ولكن مع استخدام روسيا لهذه النسخة المعدلة تكون قد أعلنت أنها تخطت مرحلة اللاعودة بل إنها قادرة بالفعل على توجيه رسالة من نار لكل دولة سمحت أو ستسمح لأوكرانيا باستخدام أسلحتها لتهديد الأراضى والشعب الروسى. ◄ وقف العمليات هذا التطور الخطير فى الأحداث والذى يخشى من استمراره واستمرار الانحدار فى النزاع فى الفترة المتبقة لحين تسلم ترامب لمقاليد السلطة فى الولاياتالمتحدة، يزيد كثيرا من صعوبة البحث عن حد معين لوقف العمليات الحربية أو نقطة لبدء الحوار بين الطرفين، فمن ناحية مازال الغرب يخشى من إمداد أوكرانيا بأسلحة لها القدرة على إحداث تغيير حقيقى ملموس على الجبهة، فحتى الصواريخ التى استخدمتها أوكرانيا فى ضرباتها غير محسوبة العواقب هى نوعية قديمة كان يتعين على الولاياتالمتحدة وبريطانيا التخلص منها، وربما بدلا من إنفاق الأموال على " تكهينها " قاموا بتسليمها إلى أوكرانيا وهما يدركان جيدا أنها لن تحقق لها شيئا وربما تكون وبالا عليها، والأكثر من ذلك والذى ربما تناساه البعض هو أن أوكرانيا استخدمت هذه الصواريخ من قبل فى قصف القرم، أى أنها تعدت أحد الخطوط الحمراء التى حددتها روسيا من قبل وحذرت تحذيرا من نار كل من يتخطاها. ◄ سباق التسليح الشىء الآخر هو أن إعلان روسيا كل يوم عن تطوير أنظمتها العسكرية والصاروخية وكذلك تعديل عقيدتها النووية سيزيد من مخاوف الغرب، وهو امر سيلعب عليه ترامب بشكل جيد جداً، خاصة أنه كان يسعى منذ ولايته السابقة لإجبار الغرب على المزيد من الإنفاق العسكرى، لذلك علينا أن نتوقع فى الفترة القادمة لترامب أن نشهد سباقا محموما على التسلح بين روسيا ودول حلف الناتو، وهو سباق سوف تلعب عليه بشكل جيد مؤسسات التصنيع العسكرى الغربية، تلك المؤسسات التى تقتات على الحروب والنزاعات، وربما كان الشرق الأوسط هو أكثر من تذوق مرارة جشع هذه المؤسسات الشيطانية، لذلك وبما أن ترامب هو رجل أعمال فسوف يساير هذه المؤسسات وبالتالى فقد نرى فى الفترة القادمة ليس فقط احتدام سباق التسلح بين روسيا والغرب، بل اندلاع العديد من النزاعات فى الشرق الأوسط وأفريقيا وغيرهما من المناطق لزيادة مبيعات الأسلحة وتدفق الأموال على الاقتصاد الأمريكى الذى يعانى الكثير من المشاكل فى السنوات الأخيرة، لذلك أعتقد أن تشجيع القيادة الأوكرانية على استخدام الصواريخ الغربية ضد روسيا لم يكن من قبيل توريط نظام يشرف على الرحيل للنظام التالى له، بل هو خطوة مدروسة جدا تمهد الطريق للقادم الذى يحترف جمع الأموال والذى وعد بتحسين الأوضاع الاقتصادية لبلاده بغض النظر عن أية اعتبارات. ◄ استعادة الحوار لا أشك مطلقا فى أن ترامب سوف يسعى وبإصرار لاستعادة الحوار مع روسيا، فهناك الكثير من نقاط التلاقى بدأت تلوح فى الأفق بين الجانبين، وغالب الظن سيكون المحور الرئيسى للحوار هو تقاسم النفوذ فى العالم، فهل ستسمح الولاياتالمتحدةلروسيا بمساحة من حرية التحرك فى بعض مناطق العالم مقابل أن تواصل دورها ونفوذها المنفرد فى بقية المناطق، حتى وإن افتعلت روسيا عدم الرضاء عن ذلك؟ هذا ما ستظهر ملامحه فى الأشهر الأولى من حكم ترامب، وسوف تصبح أوكرانيا هى المحك الذى سيعكس طبيعة الحوار المحتمل بين روسياوالولاياتالمتحدة فى المرحلة القادمة، ولكن وقبل أن تظهر هذه الملامح، يجب أن ندرك أن كل مرحلة من مراحل التصعيد فى النزاع فى أوكرانيا تحمل معها العديد من نقاط اللاعودة، وتبعد عن الطرف الضعيف وهو هنا أوكرانيا سقف التفاوض بل وتضيق عليها دائرة المناورة بحيث يمكن من الآن القول بأن الحديث عن استعادة غالبية الأراضى التى اكتسبتها روسيا خلال مراحل الحرب سيكون صعبا جداً، فلن يكون هناك مجال للحديث عن القرم وسيفوستوبول اللتين تعتبران فى الأساس هما أساس النزاع بين الجانبين، كما أن روسيا قد ثبتت بالفعل تبعية دونباص ( لوجانسك ودونيتسك ) وزابوروفسك وخاركوف لها، وكلما زاد أمد الحرب زادت صعوبة الحوار ومحوره، ومن هنا أشرت فى البداية إلى أنه على الرغم من أن ترامب قد وعد بتحريك الحوار إلا أننى لدى شك كبير فى وجود تصور واضح لديه عن محور هذا الحوار، هل هو السلام والتسوية ؟ ولكن مقابل ماذا؟ الخاسر الوحيد من هذه اللعبة هى أوكرانيا، فهى الطرف الضعيف والكرة التى يتبادلها الأطراف لحين اهترائها والانصراف عنها بحثا عن لعبة جديدة وكرة جديدة!