بمجرد أن تولى ترامب السلطة في بلاده، بدأ فى الخروج بشطحات سياسية أقل ما يقال عنها إنها أصابت الجميع في العالم دون أدنى استثناء بالذهول، وكانت آخر شطحة له تخص غزة وإجبار أهلها على الرحيل وتقسيم أراضي الدول المجاورة وفقا لأهوائه وأهواء - لا أقول إسرائيل حليفة الولاياتالمتحدة - بل نتنياهو حليف ترامب ونصيره فى التطرف. ولكن لو راجعنا شطحات ترامب من البداية فسنجد أن أبرزها فى مرحلة السباق الانتخابى كانت هى وعوده بإنهاء النزاع فى أوكرانيا، وهو الأمر الذى علق الكثيرون فى العالم آمالا كبيرة عليه، نظرا لاعتقادهم بأن هذا النزاع بالذات هو أساس المشاكل والبؤس البشرى. إلا أن ما كان ربما ينظر له البعض باستغراب، هو موقف روسيا ذاتها من المبادرات التى يطرحها ترامب من وقت إلى آخر والوعود بإحلال السلام ليس فقط فى أوكرانيا بل وفى العالم أجمع، حيث أوضحت روسيا على لسان العديد من مسئوليها بما فى ذلك وزير خارجيتها سيرجى لافروف والناطقة الرسمية باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا وغيرهم أنه لا يوجد ما يستحق التعقيب، فقد أوضحت روسيا مرارا وتكرارا استعدادها للحوار، ولكنها لم تتلق سوى وعود جوفاء للاستهلاك الجماهيرى وخطاب أقرب ما يكون للأوامر والإنذارات النهائية، لذلك أرادت روسيا - وهنا على لسان رئيسها فلاديمير بوتين شخصيا - وضع النقاط على الحروف، مؤكدة أن أى حوار حول الأزمة الأوكرانية يجب أن يكون فى إطار ليس إنهاء النزاع (كما يردد ترامب دائمًا)، وإنما حول إقامة سلام دائم وراسخ تنتفى معه إمكانية عودة القتال فيما بعد. ◄ التفاوض المُباشر الحقيقة، أن من يتابع الموقف الروسى تجاه النزاع فى أوكرانيا أو بالنسبة للعديد من الملفات الأخرى سيواجه حقيقة واقعة وهامة، وهى أن التفاوض مع روسيا مباشرة، خاصة بالنسبة للوضع فى أوكرانيا، أكثر فائدة من التفاوض معها من خلال وسطاء آخرين وعلى الأخص الغرب بقيادة الولاياتالمتحدة. لو عدنا إلى الوراء إبان مفاوضات مينسك التى أعقبها التوصل لتفاهمات سميت باسم اتفاقيات مينسك، سنجد أن الحديث كان يدور حول إجراءات ثقة وحكم ذاتى لفترة وبعدها ترتيبات نهائية، ولم يكن هناك حديث عن اقتطاع أراضٍ وإنقاص فى سيادة أوكرانيا، ثم جاءت مفاوضات إسطنبول فى أعقاب الاجتياح الروسى للأراضى الأوكرانية فى عام 2022، وهى المفاوضات التى كانت تجرى بشكل مباشر بين روسياوأوكرانيا، وكان الدور التركى فيها يقتصر على تقديم المكان وتهيئة الظروف للحوار بين الجانبين، وخلال هذه المفاوضات كان الحديث أيضا يدور حول إجراءات ثقة ومستوى معين من الحكم الذاتى وحقوق للأقليات، وكان من الممكن جدا التوصل لصيغ تحفظ لأوكرانيا سيادتها واحترام استقلالها، إلى أن تدخلت أطراف خارجية غربية برئاسة الولاياتالمتحدة وقلبت منضدة التفاوض على كل من يجلس عليها ودفعت أوكرانيا فى أتون حرب لن تصمد فيها طويلا، خاصة بعد أن اتضح فيما بعد أن ما يقدمه الغرب لها من أسلحة وعتاد عسكرى هو من مخلفات الجيوش ولا يرقى لمستوى حتى ضمان أبسط مقومات الدفاع عن النفس. ◄ بداية الموقف لو راجعت أوكرانيا الموقف من البداية مرة أخرى فسوف تتوصل لنتيجة مفادها أن الوسيط الأجنبى أو بعبارة صريحة الوسيط الأمريكى فى الحوار مع روسيا، لم يكن يبحث سوى عن مصالحه هو، والوضع اليوم لا يختلف عنه بالأمس فعندما يطرح ترامب مبادراته التى لا شكل ولا إطار لها حتى الآن للتسوية فى أوكرانيا، فهو ينطلق فى كافة الأحوال من تحقيق مصالحه الشخصية ومخططات تضمن لبلاده السيطرة على المنطقة وأوروبا لفترات طويلة فى المستقبل، أما مصلحة أوكرانيا ذاتها فهى تأتى فى المرتبة الأخيرة فى أولوياته، بل إن الأمر ربما يصل إلى حدود لم يتصورها أحد من قبل، خاصة بعد أن صرح ولم يكتفِ بالتلميح بأن أوكرانيا بأكملها ربما تصبح روسية فى المستقبل. وسرعان ما رفع ترامب سقف تطلعاته فى أوكرانيا ليطالب بنصيب الأسد فى الغنيمة الأوكرانية مقابل ما قدمته بلاده من مساعدات لهذا البلد، حيث يطالب بحصة تصل إلى الخمسين بالمائة من الثروات المعدنية لهذا البلد وفاء بالمساعدات، وحتى لا يعطى الرئيس الأوكرانى زيلينسكى أية فرصة للتفكير أو التردد فى الرد، بدأ يشن عليه حملة ويتهمه بالديكتاتورية ويشكك فى نزاهته ونزاهة من حوله وأنهم استولوا على نسبة كبيرة من المساعدات وكأن الولاياتالمتحدة كانت تقدم المساعدات دون حسيب ولا رقيب. وفى نفس الوقت، أظهر على الجانب الغربى وبالتحديد تجاه حلفائه فى حلف الناتو مطالب جعلتهم فى حالة ذهول وانشغال تام فى التفكير فى مستقبل بلادهم وطبيعة التحالف والتعاون مع الولاياتالمتحدة، وبذلك يكون قد ضرب عدة عصافير بحجر واحد، فهم لم يعد لديهم ترف التفكير فى مصير أوكرانيا وليس لديهم أى استعداد للاستماع لمشاكل الآخرين أو التفكير فى سبل لحلها، وفى نفس الوقت قطع الطريق أمام زيلينسكى لأى نوع من التحرك والمناورة، وبات يفكر فقط فى مصيره الشخصى فى حال توصل ترامب لأية صيغة تمس، لا أقول التسوية فى أوكرانيا، بقدر تقسيم غنيمتها بينه وبين روسيا. بالعودة للوراء مرة أخرى سنتذكر معًا تصريحات للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، تؤكد أن روسيا لا تسعى لاكتساب المزيد من الأراضى، وهو أمر صحيح، فتعداد سكان روسيا، سواء الآن أو على المدى القريب والمتوسط وربما البعيد، لا يسمح لها باكتساب المزيد من الأراضى والسيطرة عليها، فروسيا ذاتها تمتلك أكبر مساحة دولة فى العالم، ولا أبالغ إذا قلت إنه توجد أماكن فى روسيا لم تطأها قدم من قبل، وبالتالى فلا مصلحة حقيقة لها فى اكتساب المزيد من الأراضى، أكثر ما تحتاج له روسيا هو البشر وهو ما حققته من النزاع فى أوكرانيا، حيث انضم إليها عدة ملايين من السكان الجُدد الذين يدينون لها بالولاء الكامل، وبالتالى يصبح لدى أوكرانيا أرضية جيدة للحوار مع روسيا وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بل ولا أبالغ إذا ما تصورت موافقة روسيا على إعادة مناطق ومساحات كبيرة لأوكرانيا مرة أخرى. ◄ معادلة التفاوض أعتقد أن سر معادلة التفاوض لتحقيق السلام بين روسياوأوكرانيا اليوم ربما تكمن فى قرار جريء تتخذه القيادة الأوكرانية وهو التفاوض المباشر مع روسيا، فكافة الظروف والملابسات الحالية توحى بأن التفاوض من خلال الوسيط الأمريكى سيفقد أوكرانيا الكثير، بل وربما يكلفها الكثير دون طائل، خاصة بعد تصريحات وتلميحات ترامب المتعلقة بالحصول على مكاسب من مساندة بلاده لأوكرانيا على مدار السنوات الأخيرة. وما إن تناقلت وسائل الإعلام مؤخرا الأنباء عن الاتصال الهاتفى الذى جرى فى بداية الشهر الجارى بين الرئيسين الروسى فلاديمير بوتين والأمريكى دونالد ترامب، ظن الكثيرون أن التقارب بين روسياوالولاياتالمتحدة هو الذى سيرسم ملامح النظام العالمى الجديد، حتى أن البعض تصور أن هذا التقارب سيجلب السلام على العالم، وتناسى هؤلاء أن أكثر تجارب روسيا إيلاما على مدار العقود الأخيرة كانت بسبب الولاياتالمتحدة، كما أن روسيا ظلت لفترة طويلة تحاول إقناع الغرب بأن النظام الأمنى فى أوروبا يجب أن ينبع من أوروبا ذاتها ويقتصر على دولها، علاوة على أن أى خلاف أو عداء بين روسيا والغرب كان ينطلق فى الأساس من تناقض التجربة الشيوعية مع التجربة الرأسمالية، وهو ما لم يعد موجودًا منذ تفكك الاتحاد السوفيتى السابق، وبالتالى فلا يوجد سبب منطقى يملى استمرار المواجهة والعداء بين روسيا والغرب، ومن هنا يتضح أن استمرار حالة المنافسة بين روسيا والغرب ليس فى مصلحة أحد سوى الولاياتالمتحدة. لذلك لا أقول الدب الروسى ولكن أقول الثعلب الروسى لن يبتلع الطعم أو المكيدة التى ينسجها ترامب هذه المرة لأوروبا، بل سيُساير ترامب لحين تحقيق كامل أهداف روسيا من هذا التقارب وأقلها هو التخلص من العقوبات الثقيلة التى فرضها الغرب على روسيا، ثم إثبات أن روسيا هى الملاذ وأحد الضمانات الكبرى للأمن فى أوروبا، لذلك سيعمل بوتين جاهدًا على التقارب من أوروبا التى شعرت مؤخرًا بخيبة أمل ربما أقول تاريخية من الولاياتالمتحدة. ولا أعتقد أن روسيا ستشيح بوجهها عن الدول التى وقفت إلى جانبها خلال الصراع مع الولاياتالمتحدة مؤخرا ولن تنساق وراء الكلام المعسول الجديد من جانب واشنطن، وسوف تواصل تعزيز نهج التقارب مع إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وسوف تضيف إليه زخما جديدا من خلال التقارب مع أوروبا، ربما تصل فى النهاية لإيقاع واشنطن فى الفخ الذى فرضته عليها من قبل وهو فخ العزلة، ولكن هذه المرة فإن فخ العزلة الذى ربما قد تواجهه الولاياتالمتحدة لن يكون بسبب الضغوط، ولكنه سيكون بسبب خيبة أمل الآخرين فيها وبسبب الشك فى نواياها وسياساتها وأطماعها. ◄ تجارب الوساطة لقد أظهرت تجارب الوساطة الأمريكية فى الشرق الأوسط على مدار عشرات السنوات أن الولاياتالمتحدة لم تكن فى أى يوم من الأيام الوسيط النزيه، وهى حقيقة كان ينبغى على أوكرانيا التحسب لها من البداية وعدم الاستسلام بشكل كامل للنهج الأمريكى فى إدارة الأزمة، لذلك أعتقد أنه لو فاجأت أوكرانيا الجميع بالدخول فى حوار مباشر مع روسيا حتى وإن كان بشكل غير معلن فسوف تحقق مكاسب أكثر بكثير من الحوار الغامض غير محدد المعالم والأهداف الذى يطرحه ترامب عليها. خطة ترامب تجاه أوكرانيا لا محل لزيلينسكى فيها، وربما سوف تعتمد فى الأساس على قوى وشخصيات أعدتهم واشنطن بشكل مسبق للتوقيع على أى شيء تطرحه، ليبدو وكأنه طوق النجاة لأوكرانيا وأوروبا والعالم، وستقوم هذه الخطة على تحقيق أكبر مكاسب لواشنطن فى أية عملية تسوية فى هذا البلد، وبطبيعة الحال فإن هذه المكاسب ستتيح للشركات والمؤسسات الأمريكية التواجد فى أوكرانيا بحجة الاستثمارات، وهو نهج تقليدى ومتكرر تطبقه الولاياتالمتحدة عندما ترغب فى وضع أقدامها فى أى بلد، لأنه ببساطة تستطيع الولاياتالمتحدة أن تدس من ترغب فى إدخالهم الدول المختلفة وسط شركاتها ومؤسساتها بشكل غير معلن ثم تنتقل فيما بعد للشكل المعلن، وهو الدفع بشركات الأمن وشبه عسكرية لتأمين الاستثمارات والجاليات، وتكون بذلك قد حققت كافة أهدافها فى أوكرانيا، والأكثر من ذلك تحت سمع وبصر روسيا، فهل سيبتلع الثعلب الروسى هذا الطعم أم سيقلب المائدة برمتها على واشنطن، ويواصل اللعبة وفقا لقواعده هو؟!