ودع الوسط الفني والثقافي العربي بقلوب يعتصرها الحزن والأسى، واحدة من أعمدته الشامخة ورموزه الخالدة، سيدة المسرح العربي الفنانة سميحة أيوب، التى رحلت عن عالمنا الثلاثاء الماضي، عن عمر ناهز 93 عامًا، بعد مسيرة فنية حافلة بالعطاء، والإبداع، والتفاني فى خدمة الفن الراقي. صنعت لنفسها مكانة استثنائية لا يطالها النسيان برحيل سميحة أيوب طُويت صفحة من صفحات المجد المسرحى التى امتدت لأكثر من سبعة عقود، وقفت خلالها على خشبات المسارح بكل شموخ، وقدمت أعمالا حفرت فى ذاكرة الجمهور العربي، وصنعت لنفسها مكانة استثنائية لا يطالها النسيان. لم تكن سميحة أيوب مجرد ممثلة قديرة، بل كانت مدرسة قائمة بذاتها، ورمزا للمرأة القوية المبدعة، حملت راية المسرح المصرى والعربى فى أحلك الظروف وأكثرها تحديا، ونجحت فى أن تبقى للفن هيبته وروعته، واليوم، ونحن نودعها، لا نقول وداعا، بل نعيد قراءة إرثها العظيم ونتأمل فى أثرها الذى لن ينطفئ. المسرح العربى يطوى ستار الأسطورة أصبحت المسيرة الفنية للفنانة الراحلة سميحة أيوب جزءًا غاليًا ومهمًا من تاريخنا الفنى بصفة عامة وتاريخنا المسرحى بصفة خاصة، فهى أحد أضلاع سيدات الفن العربى «أم كلثوم» فى الغناء، و«فاتن حمامة» فى السينما، بل وقامة فنية سامية بجميع القنوات الفنية وقيمة مسرحية راقية. خاصة أن نجاحها وعطاءها فى المسرح لم يقتصر فقط على مجال التمثيل، بل كان لها مساهماتها القيمة أيضا فى مجالى الإخراج والإدارة، حيث أدارت بجدارة كلا من فرقتي «المسرح الحديث»، و«المسرح القومي» لفترة أكثر من 10 سنوات. والحديث عن أعمال هذه الفنانة التى ولدت بحى شبرا بمحافظة القاهرة، التحقت بمعهد الفنون المسرحية وتخرجت فيه فى 1952، يكشف لنا مدى ثراء تلك الفترة التى عاشتها وأبدعت خلالها. ويكفى أن نذكر أنها قد حظيت بالتعاون مع نخبة من أفضل المخرجين المسرحيين الذين يمثلون مختلف الأجيال ومن بينهم الأساتذة من جيل الرواد: «زكى طليمات، يوسف وهبى، فتوح نشاطى»، ومن جيل الوسط المعاصر لها الفنانون: «نبيل الألفى، حمدى غيث، عبدالرحيم الزرقانى، كمال يس، نور الدمرداش، كرم مطاوع، سعد أردش، جلال الشرقاوى، أحمد عبدالحليم، سعيد أبوبكر، وسمير العصفورى». وكذلك من الأجيال التالية لها الفنانون: "فاروق الدمرداش، عبدالرحمن أبو زهرة، عبدالغفار عودة، شاكر عبداللطيف، هانى مطاوع، فهمى الخولى، نبيل منيب، عادل هاشم، توفيق عبداللطيف، محسن حلمى، مصطفى سعد، ومحمد عمر". تعاون عالمي وقد تضمنت قائمة إبداعاتها المسرحية أيضا التعاون مع أربعة مخرجين عالميين حسبما ذكر المؤرخ المسرحي الدكتور عمرو دوارة، وهم: الروسى لسلى بلاتون «الخال فانيا»، والألمانى كورت فيت «دائرة الطباشير القوقازية»، والفرنسى جان بيير لاروى «فيدرا»، والإنجليزى برنارد جوس "أنطونيو وكليوباترا". ومما لاشك فيه أن تلك المكانة الرفيعة - التى لا ينافسها فيها أحد - قد أهلتها إلى الحصول على عدد كبير من الجوائز ومظاهر التكريم، تعود إلى عدة عوامل لعل من أهمها: تمتعها بالموهبة الكبيرة وفرصة الدراسة الأكاديمية، ثم اكتسابها للخبرات والثقافة الموسوعية. بالإضافة إلى تمتعها أيضا بجمال الصوت والقدرة على التعبير وإجادة التمثيل باللغة العربية الفصحى، وذلك كله بخلاف تميزها بمهارات التذوق الأدبى والفنى وبقوة الإرادة والمثابرة، وامتلاكها لتلك القدرة الهائلة على الحزم وعلى التحدى للنفس والآخرين. الفنانة سميحة أيوب أول امرأة تدير فرقة من مسارح الدولة لأكثر من 10 سنوات وبخلاف نجاحها فى الإدارة كأول امرأة تدير فرقة من مسارح الدولة لأكثر من عشر سنوات لكل من فرقتى: المسرح الحديث والمسرح القومى، التى نجحت خلالها فى تقديم جيل جديد من المؤلفين والمخرجين، وأيضا تأسيس «نادى المسرح المصرى» لرعاية الهواة. وكذلك بخلاف تجربتين فى الإخراج: «مقالب عطيات، ليلة الحنة» يبقى إبداعها ودورها الأساسى فى تجسيد عدد كبير من الشخصيات الدرامية العالمية والمحلية، تلك الأدوار التي ارتبطت بها ونجحت فى أن تبث فيها من روحها لتحولها إلى شخصيات حية تتنفس وتتفاعل وتؤثر فينا. فمن يمكنه أن ينسى أدوارها العالمية الخالدة: «كليوباترة» فى مسرحية «أنطونيو وكليوباترا»، «كليمنسترا» فى «أجاممنون»، «فيدرا»، «أنتيجونا»، «جروشا» في «دائرة الطباشير القوقازية»، «إيلينا» فى "الخال فانيا". وأيضا أدوارها التاريخية: «إيزيس»، «نفرتيتى» فى «سقوط فرعون»، «رابعة العدوية»، «جليلة بنت مرة» فى «الزير سالم»، «ست الملك»، «ولَّادة» فى «الوزير العاشق»، «صفية» فى «دماء على أستار الكعبة»، «الغانية» فى «السلطان الحائر». وكذلك أدوارها المعاصرة: «سلمى» فى «الفتى مهران»، «شامينا» فى «حبيبتى شامينا»، «إيمى» فى «وطنى عكا»، «مبروكة» فى «الصفقة»، «خضرة الفلاحة» فى «كوبرى الناموس»، «سلمى الغجرية» فى «السبنسة»، «سوسو الفنانة» فى مسرحية «سكة السلامة»، «عزيزة» الشقيقة الكبرى في «بير السلم»، «فاطمة» فى «المسامير»، «نعمت» فى «العمر لحظة»، «زينات» فى «عز الضهر»، «الأم» فى "الناس اللى فى الثالث". فيلم أرض النفاق ذات الألف وجه وذلك بخلاف أدوراها الرائعة فى «أهل الكهف، الإنسان الطيب»، تلميذ الشيطان، الموت يأخذ أجازة، الندم أو الذباب، المومس الفاضلة، الشبكة أو صعود وهبوط ماهاجونى، يا سلام سلم الحيطة بتتكلم، الخديوى، الساحرة»، جميعها أدوار مركبة. وقد تبدو الأبعاد الدرامية لبعضها متناقضة تماما مع مثيلتها لبعض الشخصيات الأخرى، لكنها مهارات وقدرات وخبرات الممثلة ذات الألف وجه، التى استطاعت أن تصهر جميع الشخصيات فى بوتقة تجاربها وتعيد تشكيلها من جديد طبقا لطبيعة الدور ومنهج الإخراج، فتمنحها حياة جديدة تحقق التواصل مع المتلقى ليشعر بنبضاتها. جدير بالذكر أن بعض هذه الأدوار قدمتها الفنانة سميحة أيوب أيضا على خشبات أكبر مسارح العالم عندما نالت شرف تمثيل «مصر» بعدد كبير من المهرجانات العربية والدولية. مسلسل الضوء الشارد السينما والدراما والإذاعة هذا ويجب التنويه على أن هذه الفنانة وبالرغم من تألقها فى الدراما الإذاعية وقيامها ببطولة عدد كبير من المسلسلات ومن بينها: «سمارة، أم كلثوم، أجازة صيف، ذئاب ورجال، الأبالسة، عنبر سبعة، صابرين، الأم الثانية، الباب المغلق، الثعبان». إلا أنها لم تحصل على فرصة البطولة المطلقة فى كل من السينما والتليفزيون وذلك باستثناء فيلمي «إفلاس خاطبة» و«تيتة رهيبة»، ومع ذلك فقد نجحت فى وضع بصمة قوية بأدائها لبعض الأدوار الرئيسة ومثال لها فى السينما أفلام: «جفت الأمطار، أرض النفاق، سوق الحريم، فجر الإسلام» وغيرها. مسلسل الطاووس وبالدراما التليفزيونية مسلسلات: «خيال المآتة، الضحية، الرحيل، الساقية، أديب، المشربية، المحروسة 85، عصر الحب، ليلة مصرع المتنبي، الكتابة على لحم يحترق، مملوك في الحارة، مغامرات زكية هانم، الضوء الشارد، السيرة الهلالية، أميرة في عابدين، مزاج الخير، الطاووس، حضرة العمدة» وغيرها من المسلسلات. سميحة أيوب والفرنسي جان بول سارتر سميحة أيوب.. «إلكترا» التى أدهشت سارتر فى القاهرة شهد المسرح القومي لحظة فارقة فى تاريخه عندما قدمت فرقته مسرحية «الندم»، المأخوذة عن مسرحية «الذباب» للفيلسوف الوجودى الفرنسى جان بول سارتر، حيث أدت الفنانة الراحلة سميحة أيوب دور «إلكترا»، فيما جسد الفنان طارق عبداللطيف دور «أورست»، قبل أن يتولى الفنان فاروق الدمرداش الدور ذاته بعد سفر عبداللطيف فى بعثة فنية إلى الكويت. جاءت المفاجأة حين حضر العرض رئيس تحرير إحدى المجلات الثقافية الفرنسية، فلفت نظره الأداء المتقن للفنانة سميحة أيوب، ما دفعه إلى الإصرار على لقائها بعد انتهاء العرض، حيث أشاد بأدائها وتفاعلها العميق مع الشخصية، وأكد لها أنه سينقل انطباعه إلى سارتر نفسه، وحثه على مشاهدة هذا العمل عند زيارته المقبلة إلى مصر. لم تكن تلك المرة الأولى التى يلتقى فيها الصحفى الفرنسى بالفنانة سميحة أيوب، إذ شاهد أيضا عرض «خيال الظل» للمؤلف رشاد رشدى، والذى شاركت فيه الفنانة المصرية، ليكتب بعدها مقالا فى صحيفة «الجمهورية» قال فيه: "أخبروا الفنانة سميحة أيوب أننى جئت إلى مصر لأشاهد «الندم»، فلم أجد سارتر، لأنه كان فى الاتحاد السوفيتى، لكننى التقيته لاحقا، وأوصيته ألا يفوته عرض المسرحية فى القاهرة". وبالفعل لم يطل الانتظار، ففى إطار زيارة نظمها الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل، حل سارتر ضيفا على القاهرة برفقة المفكرة الفرنسية سيمون دي بوفوار، وفور تأكيد حضوره، أبلغت إدارة المسرح القومى طاقم العمل أن الفيلسوف الوجودى سيحضر العرض، الأمر الذى بث الرهبة والتوتر فى نفوس الممثلين، خاصة سميحة أيوب، المعنية مباشرة بتجسيد شخصية من أهم شخصيات نص سارتر المسرحى. وفى الليلة المنتظرة، صعدت «إلكترا» المصرية إلى الخشبة وقلبها يخفق بقوة، حتى كادت ضرباته تغلب تصفيق الجمهور، لكنها سرعان ما تماسكت، وقدّمت أداء ناضجا ومؤثرا حبس أنفاس الحضور. وعقب إسدال الستار صعد جان بول سارتر بنفسه إلى المسرح، برفقة توفيق الحكيم وسيمون دى بوفوار، وتوجه إلى سميحة أيوب قائلا عبارته الشهيرة: "أخيرا وجدت إلكترا التى كنت أبحث عنها فى مصر". كانت تلك الكلمات وسام تقدير نادرا من فيلسوف لا يجامل، لتتوج الفنانة سميحة أيوب أمام جمهورها وزملائها، بينما وقف توفيق الحكيم إلى جانبها مفعما بالفخر، وكأنه يشهد تتويج ابنته، وخلدت تلك اللحظة بصور تذكارية جمعت هذه القامات الفكرية والفنية على خشبة المسرح القومى. جوائز وتكريمات نالت الفنانة الراحلة سميحة أيوب العديد من الجوائز والتكريمات داخل مصر وخارجها، حصلت على وسام الجمهورية من الرئيس الراحل الزعيم جمال عبدالناصر فى 1966، ووسام تقييم كبير بدرجة فارتس من الرئيس الفرنسى جيسكار دستان فى 1977. كما حصلت على شهادة تقدير من الرئيس الراحل محمد أنور السادات فى 1979، ووسام الاستحقاق من الدرجة الأولى من الرئيس السورى حافظ الأسد في 1983، وغيرها من الجوائز والتكريمات. كما احتفى بها المهرجان القومى للمسرح المصرى برئاسة الفنان محمد رياض، وحملت الدورة الماضية السابعة عشرة اسم سيدة المسرح العربى سميحة أيوب عام 2024.