يجلسون علي أحد المقاهي بوسط البلد، يأتون من كل مكان لعرض ما استطاعوا الفوز به من عملات قديمة تجاوز عمرها مئات السنين، شيوخ وشباب اختلفت أعمارهم، لكنهم اجتمعوا علي عشق تلك الهواية، التي يطلقون عليها هواية الملوك. ينتظرون يومي السبت والثلاثاء من كل أسبوع لتداول القطع الثمينة فيما بينهم وبيعها لزبائن جدد هاموا عشقًا بعملات تحمل عبق التاريخ، يبذلون أموالهم للفوز بقطعة نادرة ليشعروا بنشوة الانتصار. في شارع سراي الأزبكية، يتواجد العشرات من بائعي العملات القديمة، لم يخافوا يوما من انتشار الوسائل التكنولوجية الحديثة وصفحات الفيس بوك التي باتت تروج لتلك التجارة وتستقطب المزيد من الزبائن، بل وجدوا فيها منبرا للإعلان عن بضاعتهم وكسب عشاق جدد، إلا أنهم يشكون مرارا من تعنت القانون المصري الذي يضيق الخناق علي تجارتهم، وينظر إليها كونها تهتك حرمة التراث، ولكنهم يرون أنهم يساهمون في تنشيط السياحة والتعريف بتاريخ مصر والتطورات التي مرت بها، فالعملة هي انعكاس حي لتلك التطورات. للوهلة الأولي لدخولك ذاك المقهي تشعر وكأنك امتطيت آلة الزمن العجيبة، وابتعدت عن ضجيج القاهرة وصخبها، قصاصات ورقية ومجلات تخطي عمرها المائة عام، تتصدرها صور كبري لأشهر الزعماء الوطنيين ومقالات مذيلة بتوقيع كبار الصحفيين في ذاك الوقت كفرح أنطون، عقود زواج وبيع كتبت بخط منمق يشعرك بالهيبة والإجلال، طوابع بريد كانت تحمل شعارات بعينها وتؤرخ لحوادث تاريخية هامة، كؤوس ونياشين زينت بتوقيعات لشخصيات مشهورة، رسائل حب وهجر لعشاق ذاقوا لوعة الحب وفراقه فبثوا أشواقهم ودموعهم علي الورق. في زاوية بعيدة من المقهي يجلس، خالد منصور، وهو رجل خمسيني، يتمتع بخفة دم وسرعة بديهة مكنته من اكتساب حب الكثيرين وجذب المزيد من الزبائن، يمسك إحدي العملات الورقية القديمة والتي تعود إلي عصر الملك فؤاد الأول، يتفحصها بدقة عالية ويتأمل توقيع رئيس الخزانة العامة في ذاك الوقت ويدعي "مستر نكسون"، تصطف عملاته المعدنية جنبا الي جنب في تناغم بديع، أشهرها جنيه السلطان حسين كامل، الذي كان يصنع من الفضة الخالصة، وشلن الملك فاروق وتعريفة الملك فؤاد، تجاورهما عملات أجنبية وأخري عربية، يمسكها بحذر وحب كأطفاله الصغار المدللين، فقد أفني سنوات عمره في جمع واقتناء كل ما جادت به العصور المختلفة من عملات. يسترجع ذكرياته منذ أن كان عمره لا يتجاوز الثلاثة عشر عامًا، فكان يقوم بجمع الطوابع البريدية ويتباري مع زملائه للفوز بأكبر قدر منها، ومنذ تلك اللحظة هام عشقا بكل ماينتمي إلي عصور ولت وبدأ في جمع العملات القديمة حتي بات من أشهر تجارها ومحط أنظار الكثير من الزبائن العرب والأجانب، لا يحدد سعرا ثابتا لبضاعته فكل عملة تختلف عن الأخري في توقيت صكها وكثرة المعروض منها والأحوال الاجتماعية التي كان يمر بها المجتمع. يقول خالد: "تعد هواية جمع العملات من أشهر الهوايات وأقدمها علي الإطلاق وكانت الهواية المحببة للملك فاروق حتي أن ملوك العالم كانوا يرسلون له العملات النادرة التي يصكونها في بلادهم أو يحصلون عليها وأشهرها "البلي الواحد"الذي أهداه له الملك جورج ملك بريطانيا وقد صك في بلاده بمناسبة مرور عشرين عاما علي توليه زمام الملك وقد توارث فاروق حب تلك الهواية من والده الملك فؤاد الذي خصص غرفة بقصر عابدين لمجموعته الورقية والمعدنية وأنفق أموالا طائلة للحصول علي أندرها وليس هذا فحسب بل قام بتأسيس الجمعية المصرية لهواة طوابع البريد عام 1929وقام بافتتاحها وكان بين الحين والآخر يتبرع بقطع من مجموعته لصالح الجمعيات الخيرية والمتاحف ". ويضيف: "وهناك الكثير من العائلات المالكة في الوطن العربي تعشق تلك الهواية وتجوب الدول بحثا عن أندر العملات وأغلاها وبالطبع يتنوع الزبائن الذين يقبلون علي الشراء مابين الشباب والكهول ولكنهم يتفقون في اطلاعهم الواسع بتاريخ إصدارالعملة وندرتها وأسعارها ناهيك علي أن أغلبهم يهتم بتكوين مجموعته الخاصة بشكل زمني وفق تاريخ إصدارها لتكون مرجعا تاريخيا متكاملا يلخص تلك الحقبة الزمنية، أما بعضهم فيهتم بجمع العملات التذكارية التي تصدرها الدول في المناسبات الوطنية الهامة أو الأحداث التاريخية النادرة ولعل أشهرها الجنيه الذي تم توزيعه في حفل زفاف الملك فاروق علي الملكة ناريمان حيث كان مصنوعا من الذهب الخالص ووصل وزنه إلي أربعة قراريط ووزع علي الحضور من الباشوات والأعيان لذا فإن سعره يتعدي آلاف الجنيهات وكذلك "جنيه العسكري "والذي لم يصدر منه سوي نسخة واحدة كعملة تجريبية أقبل علي إعدادها الضباط الأحرار بعد ثورة 52". ويشير إلي أن جنيه إدريس الفلاح أشهرها أيضا وقد كان أحد الفلاحين الذين يعملون بقصر الملك فؤاد وتنبأ بوصوله لعرش مصر فوعده الملك بصك صورته علي الجنيه في حال تحقق تلك النبوءة وبالفعل بعد وصوله للعرش أمر بصك تلك العملة النادرة وكذا المائة جنيه التي صدرت في عصر الملك حسين كامل والتي وضع عليها صورته حيث إنه كان قليل الظهور في الحفلات العامة والتصوير الفوتغرافي، وبالطبع فإن الكثير من التجار يتعمدون شراء العملات والاحتفاظ بها لفترة طويلة حتي تتضاعف قيمتها المادية ويبذلون جهدا كبيرا للحصول علي أندرها أملا في مكسب كبير. وعلي مقربة من خالد يقف مجدي عطية وهو أحد الشباب المولعين باقتناء العملات الورقية يستعرض بضاعته للزبائن الكثر الذين التفوا حوله ويحكي لهم تاريخ كل عملة يحملها معه والتي يحفظها عن ظهر قلب فقد عشق تلك الهواية حتي أنه فضلها عن عمله الأصلي كبائع في أحد محلات الملابس وقرر امتهان التجارة عن طيب خاطر، ويقول مجدي: "كنت أعمل بمقربة من مقهي ميدان الأوبرا بالعتبة والذي كان يعج بالكثير من تجار العملات الورقية وبدأت في التواصل معهم والاقتراب من مجالسهم والاستماع إلي حكاياتهم عن تلك الهواية، ومنذ اللحظة الأولي قررت امتهانها والبحث عن أندر العملات وأغلاها حتي اكتسبت شهرة واسعة بين الزبائن الذين بدأوا يبحثون عني بالاسم ويوما تلو الآخر قمت بتكوين مجموعات خاصة بي أشهرها الخمسون قرشا الصادرة في عهد ثورة 52 والتي لم تصدر سوي لعدة أشهر فقط وشلن الملك فاروق المطبوع عليه عدة جمال والإصدار الأول للجنيه عام 1899". وحول الوضع القانوني لتلك التجارة يقول: "يعد القانون رقم 117والمعدل لسنة 1983 المنظم لها والذي منع تداول عملات مر عليها مائة سنة ومؤخرا تم إدراج حقبة الملك فاروق ضمن الضوابط مما يعد تضييقا علي محبي الهواية وتجارها علي الرغم من أن الدول الأوربية والعربية لاتري فيها أي خطورة أو انتهاك لتراثها بل بالعكس تعتقد أنها تنشيط لسياحتها وتعريف الآخرين بحضارتهم بل إن بعض المدارس تشجع الأطفال علي اقتنائها وتجميعها وبالفعل فإن هناك الكثير من حالات التزوير ولكن يتم اكتشافها بسهولة من قبل المتخصصين". وعن السوق العالمي لتجارة العملات القديمة، يقول الدكتور محمود ناصر، أستاذ الاقتصاد بجامعة الزقازيق، تعد تلك التجارة مشهورة في عدة دول ويقام لها الكثير من المعارض الدولية ويتباري فيها الكثير من الهواة وهناك الكثير من الصفحات علي الفيس بوك التي تروج لها ولكن تزويرها يعد خرقا للقانون ويهدد بسمعة مصر في المحافل الدولية إضافة إلي أنها تعد بوابة لتهريب الآثار ولعل الحوادث الأخيرة تكشف عن تلك التجاوزات وبالطبع فإن القانون حرم بيع المقتنيات التي مر عليها أكثر من مائة عام ويمكن مصادرتها في حال ألا يكون لها مثيل في متاحف الدولة مما يعد تقنينا لها.