كتبت: فاطمة مرزوق يجلسون على مقاهٍ متفرقة، تدركهم الأعين سريعًا وسط حالة الضجيج التى تسيطر على المكان، منهمكين فى ترتيب عملاتهم القديمة داخل صناديق خشبية، أغلبهم هبط من السودان لمزاولة تلك المهنة، إلى جوار مهن أساسية اعتمدوا عليها لسد احتياجاتهم الأساسية. هكذا يبدو المشهد على المقاهى القريبة من سوق «الأزبكية»، لكن الأجواء بدت مختلفة فى مقهى «ديانا» الذى اقتصر زبائنه على تجار العملة، بعدما اتخذوه مقرا رئيسيًا لهم، يترددون عليه كل يوم حتى صار بمثابة سوق حرة لهم. «روزاليوسف» التقت بمجموعة من تجار العملة، لتعرف كيف بدأت رحلتهم فى تلك المهنة، ولماذا تطرقوا إلى ممارستها دون المهن الأخري؟. «على» بدأ مشواره بعد سن التقاعد لدفع إيجار السكن حظى بشهرة واسعة بين البائعين، فهو مستمع جيد لمن حوله، لا يبخل على أحد بنصيحة، صديق للجميع قبل أن يكون منافسًا لهم فى عملية البيع والشراء، يشاركهم الحديث فى مشاكلهم دائمًا، كونه أكبر التجار سنًا ومقامًا، يرتدى جلبابه الصعيدى ويضع قبعة سوداء فوق رأسه، ليتجنب برودة الجو التى يصطدم بها طوال يومه، وأمامه منضدة بيضاء وضع عليها العملات التى يملكها فى تناغم مقصود ليجذب المارة. هبط «على محمد» من محافظة «سوهاج» منذ التحاقه بالعمل فى «مركز البحوث»، يقطن بالقرب من «كوبرى عرابي» ويتردد على أسرته القابعة فى الصعيد، كل بضعة أشهر، بدأت رحلته فى تجارة العملات بعد التقاعد، فالمعاش الذى يحصل عليه لا يسد إيجار وحدته السكنية «على محمد» يوضح أكثر بقوله: «معاشى 338 جنيها ولا يكفينى وإيجار الشقة 400 جنيه، لذلك قررت البحث عن عمل لتحسين دخلى، وأرسل من خلاله أموالا لأسرتى، فلم أجد سوى العملات التى كنت أهوى جمعها منذ الطفولة». 5 سنوات قضاها الرجل الستينى فى عمله، دون أن يأخذ قسطًا واحدا من الراحة، فالعمل الدائم أحب لديه من الجلوس فى المنزل، مؤكداً أن أسعار العملات فى زيادة ونقصان طوال الوقت: «هناك عملات الحكومة تبيعها ب290 جنيها وأنا أبيعها ب180 جنيهًا، أما الجنيه فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فأشتريته ب185 جنيهًا وأبيعه ب190، جنيه السد العالى ب175 وأبيعه ب180 جنيهًا، أما الملكى فلم أتجه إلى بيعه منذ أن صدر قانون يحظر بيعه ودخوله المطار، من يحمل بريزة للملك فؤاد أو فاروق يتم ضبطته، لذلك اتجهت للعملات التذكارية بدلاً منها». لدى «علي» عملات عديدة تتنوع بين الورقية والمعدنية، منها ما يعود لعام 1982، و1984، و1987، و1990 مكسبه فى العملة الواحدة -حسبما قال- لا يتخطى ال 2 جنيه، أما حركة البيع والشراء فيصفها قائلاً: «يوم فيه ويومين مفيش». الرجل الستينى يبدأ يومه فى التاسعة صباحًا، ثم يعود إلى منزله فى العاشرة ليلا، بعد يوم طويل فى العمل ويضيف: «ليس هناك طبقة أو فئة معينة تهتم بشراء العملات، تلك المهنة لا فرق فيها بين غنى وفقير، لأنها فى الأساس هواية» عملة «محمد عبدالوهاب» أعلى العملات التى يملكها «على» سعرا وتبلغ 230 جنيهًا، كما يمتلك ريالا نُقش عليه أبو الهول ب110 جنيهات وريال النسرب190 جنيهًا، مشيراً إلى أن حالة العملة هى التى تحدد ثمنها: «تاريخ العملة وحالتها تجعل سعرها مختلفًا، جنيه فاروق يبدأ من 50 حتى 5000 جنيه». يتذكر «علي» حال المهنة قديمًا: «الجنيه فى البنك كانت قيمته جنيهًا آخر ذهب و5 تعريفة»، يقضى يومه على المقهى طوال اليوم وقبل أن يرحل يدفع حساب «المشاريب» التى تناولها: وأخيرا يقول مجدى عطية: «البيع والشراء فهو بركة من عند الله والمثل يقول اشترى بقرشين وبيع بقرشين والبركة ما بين الاتنين». تجارة العملة بدلا من بيع «البلاستيك» فى الركن الأيسر من المقهى يجلس على كرسيه، يرتدى حقيبة سوداء احتوت أنواعًا مختلفة من العملات، يحتفظ بها لزبائنه المميزين نظراً لارتفاع قيمتها وندرتها، رغم أنه الأصغر بين التجار، لكن خبرته الواسعة ميزته عنهم. اتجه «مجدى عطية أحمد» إلى تجارة العملات منذ عام 1996، كان بائع «بلاستيك» فى سوق إمبابة شغوفًا بالعملات يجمع «الشلن والبريزة» ويحتفظ بهما مهما كانت حاجته إليهما: «الرسومات المحفورة على العملة كانت تجذبنى فكنت أحتفظ بها، وبعد سنوات جمعت عددا لا بأس به من العملات القديمة، وقتها كانت مهنتى فى تدهور مستمر، لذلك قررت أن أتركها واتجه إلى تجارة العملات التى أحبها كثيراً». تعلم الشاب الثلاثينى بدايات المهنة من خلال مجالسة كبار تجار العملة، كان يذهب إليهم على مقاهٍ مختلفة، يمكث بجوارهم ويراقب عملية البيع والشراء، يلاحظ الفرق بين العملات، ويحفظ تاريخ صدور كل عملة والعهد الذى ظهرت فيه: «قضيت 5 سنوات فى تعلم أصول المهنة، أنتبه لكل كلمة تُقال أمامى حتى أجمع أكبر قدر من المعلومات عن المهنة، أذهب إليهم فى النهار ولا أتركهم إلا فى نهاية اليوم». لم تواجه «مجدي» صعوبات فى تعلم المهنة، فكان يراها مثل بيع «الأدوات المنزلية» تمامًا، تحتاج إلى عقل واعٍ وخبرة: «بدأت الزبائن تبيع لى عملات وكنت أشترى منهم، من هنا وضعت قدمى فى السوق»، مؤكداً أن أهداف بيع العملات لا تقتصر على تحقيق الربح فقط، لأن الناس يطلعون من خلالها على التاريخ: «عرفت من الذى وقع على كل عملة، وما عدد طباعتها، هل تتوافر منها كميات قليلة أم كثيرة فى السوق، حتى صرت مشهوراً وسط التجار، ويأتى زبائن من محافظات بعيدة ليشتروا مني». يقطن الشاب الثلاثينى فى منطقة «إمبابة» برفقة زوجته وطفلته، مؤكداً أنه يتردد على المقهى يوميًا، يصف «تجارة العملات» ب«صيد السمك» قائلاً: «هناك أيام متتالية بدون بيع، ثم يأتى يوم أبيع فيه بمبلغ يكفينى لمدة أسبوع، والمعلومة فى مهنتنا بفلوس، من يمتلك أكبر قدر من المعلومات يضمن دخل مادى كويس»، أما أقدم العملات التى يمتلكها فتعود لعام 1945: «10 جنيه النخل إذا كانت ورقتها قديمة أبيعها ب 50 جنيها وإذا كانت بنفس حالة خروجها من البنك تتخطى 3 آلاف جنيه، لدَّى 500 جنيه منذ عام 1945، و20 جنيهًا منذ السبعينيات كانت تقدر بمبلغ كبير وقتها». يمتلك «مجدى عطية» جنيهات منذ عام 1945، مضى عليه «نيكسون» محافظ البنك آنذاك، و5 جنيهات عام 1964، موضحًا أنه يتاجر فى العملات الورقية فقط: «لا أحب العملات المعدنية، فكل تاجر له ميول وفكر خاص به، هناك ناس تعمل فى الفضة فقط، أهتم بالعملات المعدنية إذا كانت تذكارية، مثل عملة مرسوم عليها الشعراوى، محمد عبدالوهاب أو أم كلثوم». لا تختلف أسعار العملات الورقية وفقًا لحالتها، فنفس القاعدة تنطبق أيضًا على المعدنية، التعريفة التى تأتى من البنك مباشرة تباع ب 50 جنيهًا، أما القديمة فتبلغ قيمتها 5 جنيهات، لأن لونها يتغير مع الوقت والنقوش تختفى مع كثرة التداول: «5 مليم منذ عهد الملك فاروق ب 10 جنيهات، إذا وجدت عملة نادرة جداً يبيعها التاجر بسعر مرتفع، أبيع بريزة ذكرى ثورة التصحيح، بريزة سنة 80 ب5 جنيهات وبريزة سنة 81 ب5 قروش، رغم أنهما ذات الشكل لكن عام يفرق فى السعر، ولدَّى بريزة لعيد العاملين». يوضح «مجدي» أن المشكلة الوحيدة التى تواجه تجار العملات، القانون الذى حظر بيع العملات الملكية رغم أنه لم يمر عليها 100 عام: «نص القانون أن العملة التى مر عليها 100 عام ممنوعة، والعملات الملكية لم تمر عليها تلك المدة ورغم ذلك حظروها، أتمنى تعديل القانون لأن العملات ممتلكات شخصية لا علاقة لها بالآثار أو ممتلكات الدولة، منذ صدور القانون ابتعدت عن أى عملات ملكية لأن هيئة الآثار تأتى المقهى كل مدة وتفتش». ظهر منافسون جدد لتجار العملات على موقع التواصل الاجتماعى «فيس بوك» الشيء الذى جعلهم يتركون المقهى الذى اعتادوا على الجلوس عليه منذ سنوات بجوار تمثال «إبراهيم باشا» والاتجاه إلى مقهى «ديانا»: «المهنة بحر واسع، عندما انتشر شباب الفيس بوك فى المقهى تركناهم ورحلنا حتى نمارس عملنا بحرية تامة».