محبوبا الجماهير حليم وناصر لم يحظ مطرب في تاريخ مصر ب "التدليل" الذي حظي به العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، فقد بدأ طريق الشهرة مع بداية الخمسيني ات ثم تربع علي عرش القلوب ملكا متوجا حتي الآن، ورغم رحيله منذ 37 عاما إلا أن الأجيال ترث أسطورته كما لو كان احتل مكانه في الخريطة الجينية للمصريين والعرب أيضا، ولا يوازيه في هذا العشق سوي الزعيم الراحل جمال عبدالناصر- بشكل ما - فقد يختلف البعض حول ناصر بينما يتفقون جميعا علي عشق حليم أو العندليب. ومنذ رحيله يكتب الكتاب ويتذكر الرفاق تفاصيل شاركوه فيها وكأنها محاولة من الجميع لسبر أغوار تلك الأسطورة و لمعرفة سر ذلك الفتي الريفي الأسمر الذي تحول إلي أسطورة بعد رحيله بعدما امتلك القلوب في حياته، بينما يستمع عشاقه لما يفوق المائتي أغنية ويشاهدون سبعة عشر فيلما هي رصيد خلوده بالإضافة إلي الاف الحكايات وعشرات من قصص الحب. وقد أجاد عبد الحليم طوال حياته تمثيل دور العاشق سواء في أغانيه أو أفلامه، كما أجاد تقديم دور الفتي الفقير الذي تدفعه موهبته إلي الغني والشهرة والنجومية منذ قدم فيلمه لحن الوفاء» فالتصقت به تلك الصورة وتكررت في أكثر من فيلم بعد ذلك بقصص مختلفة ليكون ممثلا للغلابة الذين استطاعت ثورة يوليو أن تخلق في قلوبهم الأمل في حراك طبقي للأعلي بعد أن كان مستحيلا قبلها. ولم يكن تقديم حليم لهذه الأدوار تمثيلا كاملا فهي حياته بالفعل حيث تربي في ملجأ للأيتام و اشتغل بالتدريس لفترة قصيرة ثم قرر ألا يستسلم للمسار الذي ينبغي عليه السير فيه طبقا لظروفه العائلية والطبقية، فقد ولد بقرية "الحلوات" التابعة لمحافظة الشرقية لأسرة فقيرة وماتت والدته بعد ولادته ثم رحل والده فكانت بيوت الأقارب ملجأه إلي أن أدخل بالفعل إلي ملجأ للأيتام، لكنه استطاع بقدرة جبارة علي التحدي أن يتجاوز الفقر والمناخ الذي كان يدعوه إلي اليأس والاكتفاء بالتدريس أن يحقق ما لم يحققه غيره من الذين ولدوا في ظروف طبيعية وأكثر يسرا من ظروفه. لكن حليم لم يملك التحدي والإيمان بموهبته فقط، ولكنه امتلك ذكاء وقدرة خاصة علي التمييز والتخطيط وتجنيد المحيطين به للعمل من أجل أهدافه بشكل فاق تصور كل من عاصره من الشعراء والموسيقيين والصحفيين أيضا، وكما ارتبط قدر العندليب الأسمر بالثورة التي ولدت بينما كان يتلمس طريق النجومية، ارتبط قدره بالزعيم الأهم والأكثر شعبية وجماهيرية وقوة في تلك المرحلة وهو الزعيم جمال عبد الناصر، بل وجمعتهما صفات مشتركة، فقد توحد كل منهما مع أهدافه الكبري وكان مستعدا لبذل كل شيء في سبيلها. كانت أحلام عبدالناصر تتعلق بالوطن وبالأمة.. و كانت أحلام العندليب تتعلق بالنجاح والشهرة والمجد، لكن الاثنين وجدا نقطة التقاء حيث تغني حليم بالوطن وبالأمة وبزعيمها فوصل الزعيم للقلوب بأغاني العندليب قبل أن تظهر نتائج انجازاته علي الأرض واكتسب حليم شعبية جارفة كان منبعها شعبية ناصر وقوة كان منبعها ارتباطه بالثورة وزعيمها وهو ما أتاح له الظهور سنويا مع الزعيم في حفل عيد الثورة والتمتع بالدعم الدائم في الصحة والمرض. وقد التقي عبد الحليم بعبدالناصر منذ البداية في عام 1953 بمجلس قيادة الثورة وقال له عبد الناصر "أنت فنان شاب وابن مخلص للثورة" وصارت هذه الكلمات عقداً لا يفصم بين حليم وبين الثورة وكان ما بعدها تنفيذاً لبنود العقد. لم يجند عبد الحليم حافظ موهبته لصالح الثورة في الأغاني الوطنية فقط لكنه جندها لصالح الثورة في مشروعها الأكبر وهو تشكيل طبقة وسطي في المجتمع لها قيمها التي ترتكز علي تحريروتقوية المرأة و«شرعنة الحب» للجميع، فكان أن قدم المرأة القوية في الحب وغني لها راجيا اياها العطف والحنان وطلب منها ألا تظلمه بينما كانت الثقافة السائدة قبل حليم تمنع علي الرجل التوسل وتعتبر أن من العيب التعبير عن مشاعر الضعف تجاه الحبيبة، ولم يكن ذلك جزءا من أداء العاشق عبدالحليم حافظ في الحياة ولم يكن أيضا سلوكا معتادا عند الرجل المصري أو الشرقي بل كان تصورا لما ينبغي أن تكون عليه المرأة والرجل في الطبقة الوسطي، خاصة أن المرأة هي عماد الطبقة الوسطي وتحريرها وتمكينها هو الأداة الأهم لتشكيل قيم طبقة متوازنة وقادرة علي حفظ كيان وتوازن المجتمع . وعبر أكثر من مائتي أغنية استطاع حليم أن يشكل ملامح ووجدان فتيات مصر و أن يجعل موقفهن في الحب مشابهاً لمواقف حبيباته في الأفلام وفي الأغنيات و أن يجعل رجال الجيل اللاحق له عشاقاً هائمين ينتظرون رضا الحبيبة أو يعانون من ظلمها .. وحليم أيضا هو مانح الأمل للشباب في خمسينات وستينات القرن الماضي في التحرر من الفقر عبر الموهبة وعبر العمل الجاد والمبدع وهو صاحب أغنيات الحشد لبناء السد العالي والحشد للحرب و الحشد لمداواة جرح هزيمة 67، حليم هو صوت مصر الثورة في ظل نظام الزعيم جمال عبد الناصر . ولم تكن علاقة حليم وثورة يوليو الا امتدادا لتراث البشرية كلها في توظيف الفن والابداع لصالح الأهداف الكبري التي يراها الحكام في مرحلة ما، لذلك فقد جسد عبد الحليم حافظ ومعه صلاح جاهين و عدد من الشعراء وقليل من المطربين دور شاعر القبيلة في مرحلة ما قبل الإسلام حيث كان مؤرخ القبيلة ووزير دعايتها وصاحب معلقات الفخر بأبنائها، خاصة حين تخرج قصيدة فريدة تتناقلها ألسن أبناء القبائل الأخري لحلاوتها وإن لم يتفقوا علي محتواها، وجسد في مرحلة الخلافة الأموية وما بعدها تلك البطانة من الأدباء والمبدعين الذين كانوا يجالسون الخليفة ويمنحهم العطايا مقابل تلك المجالسة والمدائح أيضا . وارتبط العندليب بتحسن نوعية حياة الفلاح والعامل ونشوء طبقة من المراهقين تفرغت للدراسة والاستماع إلي الأغاني والحب، وكان صوت العندليب مرشدها العاطفي في حب الوطن وحب الفتاة معا فتفتحت فتيات الستينيات والسبعينيات من بعدها علي صوته وكلمات أغانيه التي تعلي من شأنهن ويتمني فيها العاشق أن يقطف نجم الليالي ويبني لهن قصرا عاليا . وكما عبر حليم عن الروح الثائرة للشعب والنظام، قدم أغانيه الحزينة مع الأبنودي بعد الهزيمة و قدم ما عبر عن المتاهة المجتمعية والقيمية في فيلمه الشهير " أبي فوق الشجرة " ليخرج من منظومة القيم النبيلة والعظيمة التي روج لها إلي منظومة أخري لا معني لها سوي عند جمهور كان يقوم باحصاء القبلات بينه وبين البطلة في الفيلم، ولعل المبرر الواضح لهذه المتاهة هو تلك الهزيمة النفسية التي مني بها الشعب بعد النكسة. يتيم للمرة الثانية لم يكن عبد الناصر مجرد زعيم للعندليب ولم يكن مجرد مصدر للقوة و الفخر لكنه كان التعويض الإلهي عن الأب الذي فقده في طفولته، لذا كان ناصر سندا لحليم طوال مشواره ولم لا وناصر لم يقصر حتي في زيارته في مرضه رغم انشغالاته العديدة والتحولات الكبري التي مرت بها مصر في تلك المرحلة، وهكذا جاء موت عبد الناصر ليمثل بداية نهاية العندليب ورغم استمراره في الغناء وتمتعه بالنجومية إلا أن المتأمل لمسيرة عبد الحليم حافظ يتأكد أنه لم يكن ذات المطرب قبلها حتي حين استدعي تلك القدرة المبهرة علي الحشد وغني للسادات " عاش اللي قال للرجال عدوا القنال " فقط مقابل اثنتي عشرة أغنية غناها لناصر باسمه والعشرات التي غناها لمصر الشعب وللأمة .